غَنَجُ شَمْسِ مُرَّاكُش

مصطفى النفيسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى النفيسي

جامع الفنا* بدل جنان السبيل**       

جاء السحرة بدايةً، لكن ثعابينهم كانت متعبة. أحدهم استعان بمزمارٍ ليستحث هممها. تحرّكت قليلاً، ثم استوت على الأرض معلنةً أنها مجهدة. حدستُ أن اكتئابًا ما يحاول القبض على تلابيبها (هل تكتئب الثعابين؟!). رأيت ذلك في أعينها؛ هذا إذا كان لها أعين أو ما ظننته كذلك. كان الثقبان مائلين في رأس كلّ واحدةٍ منها كخيامٍ صحراويةٍ تتراءى لك من بعيد، بعد أن تعبر فجًّا صحراويًّا، وتطلّ على أرضٍ وطاء. الثعابين لم تكن مستثارةً كعادتها. فجأةٍ رَنّ في ذهنك سؤالٌ محيّر كجرسٍ مدرسيّ أيامَ الآحاد. طبعًا لا يمكن لجرسٍ مدرسيّ أن يرنّ في يوم أحد. ولكن ماذا لو رَنَّ؟ ولنقل فقط؛ تفتح برعوم في دماغك هو مجرد سؤالٍ فضولي: ماذا كانت تفعل الثعابين أيام الحجر الصحي إبان صولاتِ وجولاتِ العم كوفيد؟ ماذا كان يفعل أصحابها حتى يبقوها حيّةً؟ هل كانوا يحملونها إلى السطوح لتحصل على حصص تشمس بعد الزوال؟ ماذا كانوا يفعلون حتى تستكين هممها؟ وهل للثعابين همم؟ وكيف يمكن أن تكون للثعابين همم، وبعض الكائنات الإنسانية تفتقدها؟! ألَا يقال عن بعض الناس إنهم أفاعٍ؟ ألَا يكون لهم همم فقط لأنهم ثعابين؟ وفي ماذا تفيد همم الأفاعي إذا اختفت الهمم الإنسانية؟

جاء المنجمون أيضًا بشعرهم الطويل المُبلّل بزيتٍ عتيق؛ أو فقط بمرطّب شعرٍ رخيص، حيث كلما حركوا رؤوسهم كانت تتطاير منها قطراتٌ صغيرة تصل إلى حدّ وجهك، فتحسّ بمدى التعب الذي يعانون منه. كانت أظافرهم غير مقلّمة، وأعينهم زائغة؛ كأنهم يبحثون عن شيءٍ ما، أو كأنك بهم غير متيقّنٍ بأن حيلهم ستنطلي مرةً أخرى على الجمهور الذي اكتسب مناعةً بعد المشاهدات العيانية الكثيرة لمشاهد سحرية، إذ إن أفراده حفظوا حيل أشهر السحرة العالميين. أحدهم تنحنح وحكّ ذقنه، وأوعز لك أن تتقدّم. أراد أن يضع ثعبانًا على عاتقك؛ فلويتَ عنقك، وأفشلت كلّ مخططاته. متفرّجون آخرون كانوا قد قبلوا بعروضه، ودفعوا له أوراقًا نقدية؛ كان يضعها على جبهته، ثم يقبلها وينظر إلى السماء نظراتٍ تأملية، كأنه يناجي الخالق، أو يطلب المغفرة لأنه لا يستحقّ تلك الورقة النقدية، أو فقط يطلب المزيد.

كانت السماء تخلو من السحب. لذلك بدا لك وكأنه يرسم بأنامله سحبًا خياليةً ستدرّ أمطارًا في أي لحظة، لتعوّض فداحة تأخّر المطر. فالحقول كلها شعثاءً كفروات رؤوس الشحاذين الكثر في ساحة جامع الفنا*.

لا أحد كان يعرف ما الذي تخفيه السماء، وإلى أين تذهب السحب، وكيف أحسست بأن خطبًا ما سيحدث لأن كل العابرين كانوا متوجّسين ومتكدّرين؛ كأنهم فقدوا عزيزًا عليهم للتوّ. كنت تخمن أنهم سيبدأون في الولولة في أي لحظة، وربّما في الضرب على صدورهم كما تفعل النساء النائحات في المآتم. وطبعًا كان الساحر يعود إلى مناوراته المسائية التي تجعل أوراقًا صغيرةً تتطاير من بين يديه في مشهدٍ مذهل، رغم أنه لم يكن يستطيع إخفاء مظهره البائس الناجم عن سوء التغذية التي عانى منها لأشهرٍ طويلة إبان فترة الحجر الصحي الذي رافق انتشار أشباه العم كوفيد، وربما هو النوم السيّء، أو المأوى غير المريح الذي يقطن به. ربما يقطن بدرب “بوالفضايل”* الذي أقام به خوان غويتيسولو. لم يكن يحتاج إلى أي حيل أو خدع. فعوزه كان ظاهرًا وفقره المدقع لا يمكن أن تخطئه العين. لذلك فقد بدا لك كمتسولٍ يحاول شغلَ حرفةٍ أخرى.

إحداهن، وكانت امرأةً مطلّقةً أو أرملةً، ولكنها على كل حال بدون زوج — هذا ما حدستَه — رغم أنها كانت تصحب معها ولدَها اليافع الذي يساعدها في بيع أحذية رخيصةٍ وغير مغرية، كانت تصفّف الأحذية فوق طاولةٍ خشبيةٍ متهرِّئة، وتتلفّظ بكلامٍ كبيرٍ عن الحياة والموت والعيش في غرفة فوق السطوح، كأنه كلام دراويش أو حكماء رواقيين. كانت تظفر بزبائن كُثُر، ربما كانوا يأتون فقط لسماع جملها الموزونة والشبيهة بالشعر بما أنها مُقفاة ومليئة بالصور البلاغية. كانوا يأتون من العدم، وربما جاؤوا من قرى بعيدة، أو كانت زيارتهم الأولى لجامع الفنا. كانوا يحاولون مفاوضتها على أثمنة الأحذية المعروضة، لكنها كانت تفاجئهم بأن الأثمنة ثابتة، ناطقةً بحكمةٍ شهيرة: “سوق النساء سوق مطيّار / يا الداخل ردّ بالك”**. لذلك كانوا يخرجون حوافظ نقودهم من جيوبهم التي تتكدّس بها أشياءٌ كثيرة، ربما هي تعويذات وصرر تحتوي مساحيقَ بنية اشتروها على عجلٍ من بائعي الأعشاب السحرية المصطفين بـ”الملاح”، ذلك كي يطردوا النحس أو يستجلبوا الحظّ الطيب، أو فقط لدرء أعين الحسودين الذين تكاثروا هاته الأيام. فالحسد أصبح قيمةً أخلاقيةً إنسانيةً معاصرة، وما بعد حداثية. تراها في أعين الكثيرين. إنها لم تعد غريزة، بل أصبحت مادةً يتم تدريسها في المدارس والجامعات، لأن الجشع أصبح مثلَ مصيرٍ أسودٍ ينتظر الإنسانية. إنه مستنقع تسكنه السلاحف والضفادع والطحالب والأعشاب الميتة. الكائنات الإنسانية هي الأخرى أصبحت مثل الموتى. هم أناس بدون أمل. أناس هزمهم اليأس. أناس عادوا من جديد للتشبّث بتلابيب القصص الخرافية ونبوءات الأبراج.

حديقة ماجوريل* بدل قصر الباهية*

لم تذهب إلى قصر الباهية، ولكنك ذهبت إلى حديقة ماجوريل. رغم أنك ذهبت إلى هناك أكثر من مرة إلا أنك تهت قليلا قبل أن تهتدي إلى تطبيقات غوغل التي تغنيك عن أي دليل سياحي. استفسرت أحد المتنزهين؛ فأشار عليك باسم سحري. بعد تحميله على هاتفك الذكي، أصبح يدفع بك تارة إلى اليسار وتارة إلى اليمين. إنه دليل مهذب وصالح الطوية. لم يتعجرف، ولم يتنمر مثلما يفعل البعض. كما لم يقبض أجرته مقابل خدماته. حينما وصلت إلى  حديقة ماجوريل، وجدت أنهم قد ضاعفوا أكثر من مرة ثمن التذكرة التي أصبحت في غير متناول الجميع. أخذت تذكرتك دون أن تنتظر. فلم يكن هناك ازدحام، رغم أن الزيارة تصادف العطلة المدرسية الربيعية. كان هناك زوار يقفون بتأدب يكاد يكون مبالغا فيه، ينتظرون دورهم لأخذ تذاكرهم، وهم يحركون ياقات قمصانهم بحركات منتظمة لاستدراج بعض نسمات الهواء؛ فشمس مراكش ما أن تهل بطلعتها البهية حتى تبدأ غنجها ودلالها. شمس دائمة الاحتفال. شمس شبيهة بمرهم خرافي يصيبك برعشة في القلب، تقودك بشكل سريع إلى بهو البهجة الفسيح. هناك تحس؛ وكأنك قد ارتديت ملابس من قرون غابرة. ملابس تقيك الحر، وتبعث في دواخلك رغبة في تجريب فرص حياة أخرى. تنقذف نحو الأعالي لتصل إلى عالم فوق القمر الأرسطي****. تحس أنك قد عوضت حوذيا من الحوذيين الكثيرين، أو استعرت منه عربته المطهمة بماء الذهب، والتي يجرها حصانان أدهمان يتبختران في المشي، بعد أن تم تجديد صفائحهما للتو، فاستبدلت الصفائح الحديدية بأخرى ذهبية.  كان الحصانان يتقدمان الى الأمام، وهما يحركان رأسيهما إلى أعلى وإلى أسفل في حركات تدل على أنهما يسعدان بأخذك في جولة بشوارع مراكش الفسيحة بشكل ملفت. فكرت أنهما ربما شاركا في حملات أحمد المنصور الذهبي، وبقيا في حديقة مستترة في أغمات*، بعد أن غفل عنهما الزمان، أو شربا من ماء الحياة الذي بحث عنه قارون طلبا للخلود؛ قصة قرأتها في كتاب يضم قصص الأنبياء تركه جدك، وتخلى لك عنه أبوك على مضص إبان أيام الطفولة. كتاب جعلك تسافر في الأزمنة القديمة متتبعا آثار خطوات الأنبياء والمرسلين. طبعا لم يصل قارون إلى ماء الحياة، ولكن الحصانين اهتديا إليه. عرفت ذلك من حكاياتهما التي كانا يتساران بها طيلة الطريق. فمن حين إلى آخر كان يطفو اسم أحمد المنصور الذهبي فوق سطح كلامها فتلتقطه أذناك بسهولة، ودون تعقيدات. قال أحدهما: “تتذكر طبعا حينما وصلنا إلى سونغاي” . فرد الآخر: “لقد سمعت الحاجب يقول أين الذهب؟. وكان الجيش قد أصيب بخيبة أمل لما صغر حجم الذخائر التي كانوا يمنون النفس بها.  كم كانت متعبة تلك المطاردة!”. فقال الآخر:”أي مطاردة؟” ليجيبه الاول: “مطاردة أسكيا إسحق الثاني***** بعد أن أحرق المراكب، والذي انتهى به الأمر مقتولا من طرف القبيلة الوثنية التي استجار بها. فأعلن أحمد المنصور الذهبي النصر، بعد أن أقنع الأعيان والتجار بحملته!”.

 لم تكن ماجوريل أقل غنجا من الشمس. فهي شمس أخرى تشرق من الأرض. شمس تستطيع أن تطمئن على الأسماك التي تم استجلابها من بحر ما لتحسين مزاج سائحين متعبين وفضوليين. كانت الأسماك  تسبح هناك داخل حوض ضيق معتقدة أنها تسبح في أعماق المحيط الأطلسي. فرغم أنها لا تستطيع رؤية الإسفنج والمرجان، ولا أسماك تشبهها أو من أصناف أخرى، فهي ترفض أن تصدق أنها تسبح في حوض تتحقق فيه نظرية نيتشه الشهيرة:العود على بدء. فهي تسبح طيلة الوقت دون أن تبرح مكانها. تسبح لتظل وفية لحديقة ماجوريل. وهي لا تدرك أي شيء من هذا، لأنها سريعة النسيان.

 مقهى أركانة* بدل مقهى الناعورة**

في مقهى أركانة وجدت طاولة بصعوبة. أسرّ لك النادل في أذنك بأنه سيجد لك مكانًا في واجهة تطل مباشرة على ساحة جامع الفنا، حالما تشغر طاولة هناك. كان النُّدُل يعطونك انطباعًا بأن المكان فخم. هم أيضًا كانوا يحاولون الدفاع عن هاته الأطروحة غير الفلسفية. وطبعا، المكان تغيّر كثيرًا. اختفت المعالم القديمة. لم يعودوا يقدمون الشاي في كؤوس عملاقة، كما أن المراحيض أصبحت مشفرة الأبواب؛ لا يمكنك ولوجها إلا بعد إدخال القن السري.

تذكرت أن خوان غويتسولو كان دائم التردد على هذا المقهى، وربما يكون قد تخلى عن القدوم إليه بعد تجديده. فهو تخلى عن الإقامة ببلده الذي استسلم لتعاليم جيش الحداثة المبتسرة مقابل الحصول على موطئ قدم في مكان حقيقي. كل الأمكنة كانت غير حقيقية بالنسبة إليه. كل الأمكنة تشبه العدم. كل الأمكنة لا تلائم شهية مكوثه، ولذلك داوم على الترحال كريحٍ مستعجلة إلى أن استولى عليه غنج شمس مراكش الذي لا يمكن لأحد مقاومته.

هرب من نظام فرانكو الجائر إلى باريس، ومن هناك إلى مراكش مرورا بطنجة وفاس. لقد سحرته الأسوار الطينية الحمراء وديباجات الحكواتيين وأصحاب السير والحكايات اللانهائية، والشمس المشرقة باستمرار، كما لو كانت تشتغل بدوام كامل. من درب “بو الفضايل”*، حيث قطن لمدة طويلة، إلى جامع الفنا يكون قد شَنَّف سمعه بألف لحن ولحن. الأصوات المحلقة في السماء بدون انقطاع كانت تجعله يخفض رأسه أكثر من مرة ليسيخ السمع.

كانت القصائد المقفاة التي تتلى على قارعة الطريق تجعله يتحول إلى بطل من أبطال ألف ليلة وليلة، التي سحرت بورخيس، وسحرته هو نفسه، مثلما سحرت آخرين. لذلك كان يتحول إلى مرافق لبورخيس ليدله على بنات العطار وباعة الند والبخور. يظل بورخيس يستفسر عن الأمكنة إلى أن يستقر بهما المقام بمقهى أركانة*. هناك يساعده في الجلوس، ويطلب له شاي بنكهة النعناع. يقضيان المساء هناك يتحدثان عن شجون الأدب والكتابة، رغم أن ما يستهوي بورخيس أكثر هو ذلك الزخم الصوتي الذي يأتي من ساحة “جامع الفنا”. زخم صوتي يغلب عليه صوت باعة العصائر والسحرة والمهرجين، والنساء اللواتي ينقشن الحناء على الأيدي التي أجهدها غسل أواني المطابخ.

لم تستطع الخروج من مقهى أركانة، لأن النادل كان قد وجد لك مكانًا في الواجهة تستطيع منه رؤية باعة العصائر، وهم يلوحون بمناديلهم المزركشة وطرابيشهم الحمراء للسائحين الذين يكون العطش قد نال منهم، وحولهم إلى أشخاص يزحفون على أياديهم كأفاعٍ بدل المشي على أرجلهم. لذلك كنت تسمع فحيحهم، وأنت تجلس في مقعدك تشرب قهوتك المسائية، حيث تختلط أصواتهم مع أصوات الأجواق الموسيقية وضاربي الدف، الذين تتحول أياديهم إلى خرق مهلهلة نتيجة التعب والعرق الذي ينساب من مسامهم. هاته الأصوات يجب أن يستعين بها المؤلفون الموسيقيون ومخرجو الأفلام السينمائية، لتمنح مقطوعاتهم الموسيقية وأفلامهم تلك المسحة السحرية التي تأسر القلوب والألباب.

…………………

هوامش:

*:أمكنة تاريخية بمدينة مراكش.

**:أمكنة تاريخية بمدينة فاس.

***:بيت شعري للصوفي المغربي عبد الرحمن المجذوب.

****: قسم أرسطو إلى قسمين:عالم ماتحت القمروعالم ما فوق القمر. الأول هو العالم الأرضي الذي يفسد، والثاني هو عالم الإجرام السماوية التي لا تنحل ولا تفسد.

*****: أسكيا إسحاق الثاني حاكم إمبراطورية سونغاي التي تقع غرب الساحل الإفريقي( النيجر وبوركينا فاسو حاليا)، وذلك من عام 1588 إلى عام 1591 ميلادية، وهي المنطقة التي شملتها الإمبراطورية المغربية على عهد أحمد المنصور الذهبي (1549 – 1603 ميلادية).

 

 

 

مقالات من نفس القسم