نحن – إذن – أمام منصب رئاسي يخايل أغلب شخصيات الرواية بعد سقوط صاحبه بين الموت و الحياة إثر معركة دامية مع عبد المقصود الذي ينتمي إلى”عزبة اسرائيل”، هذه الشخصية الرئيسية بالغة الحضور هي شخصية محروس الذي يمثل “عمود” الرواية و”عمود” الوادي على السواء.
هذا الفراغ المؤقت الذي تركه سقوط تلك الشخصية وفقدانها لأحد كفيها أثناء المعركة، أطلق الرغبات الكامنة لدى البعض في ملء هذا الفراغ دون أن يمتلكوا المقومات المؤهلة لذلك ، والتي غابت مع غياب “محروس” و صراعه مع الموت بما يمثل غياباً للنموذج الراعي الذي يعيش للجميع وترتهن حياته باستقرارهم .
و على هذا يمكن تقسيم الصراع داخل الرواية إلى صراع رئيسي (الوادي / عزبة اسرائيل ) وصراع ثانوي بين شخصيات الوادي أنفسهم ، و الحقيقة أن هذا الصراع الثانوي يمثل المتن الأكبر داخل الرواية التي تستعرض – بتفصيلات كثيرة – حيوات شخصيات الوادي و رؤاهم و رغباتهم و عاهات بعضهم و صراعاتهم ، الأمر الذي يمكننا من وصفها بأنها رواية “شخصية” في مقابل ما يعرف برواية “الزمن” أو”المكان” ، فالشخصية – هنا – هي التي تتصدر المشهد و التي يتوقف السرد لوصفها على مستوى ملامحها الخارجية و عالمها الداخلي على العكس من المكان – الوادي – الذي قدم له وصفا عاما أو”عزبة اسرائيل” التي اكتفى بذكرها دون أية تفصيلات تميزها ،وهو ما نلحظه على مستوى الزمن الذي يمكن التعرف التقريبي عليه من خلال بعض الاشارارت التاريخية .
ولا شك ان هذا التجريد الذي نلحظه على مستوى المكان و الزمان يحقق ما يسعى اليه الكاتب من ضرب ايهام التماثل بين الرواية و الواقع كما لو كانت ” قطعة من الحياة ” على نحو ما حاولت الرواية الواقعية .
نحن هنا أمام مسعى مختلف و آية ذلك أن الكاتب يقدم نفسه – بوضوح – بوصفه الراوي الرئيسي و كلما تحققت درجة “اندماج” توهم بواقعية الأحداث يحدث انحراف بنائي يذكرنا بأننا امام عمل تخييلي من صنع مؤلف محدد ، حتى وان جاء ذلك على لسان إحدى الشخصيات –العناني- : الرواية لا بد ان تكتمل و الشخصيات يجب أن تعرف مصائرها … و العقدة؟ العقدة يجب أن تحل حتى تنتهي الرواية و ينام المؤلف : صـ 216 و هي حيلة فنية تستبدل بايهام التماثل تحقيق التأمل الواعي في مصائر الشخصيات و الاحداث ، و على هذا لا يصبح من المستغرب ان تشتمل الرواية على تذيليين داخليين اطلق عليهما المؤلف [تذكير، تذكير2] يقول في الاول “كان لابد لعزت من تكملة، ليس من المعقول ان تطوى صفحته هكذا …” و يبدأ الثاني بقوله “حتى أبو الليل و فرج مثلهما مثل عزت يجب ألا يمرا مرور الكرام، الحقيقة أنهما لم يغضبا من بعضهما أبدًا، عاشا داخل الرواية نفسًا واحدة مقسومة على إثنين …” أو أن يأتي في ختامها ما أسماه المؤلف بـ “تيتر الرواية” حيث يقتبس بعض العبارات الواردة داخل النص على لسان بعض الشخصيات أوعلى لسان الراوي تعليقا عليها و هي تبدأ بالراوي و تنتهي بإسم وحيد الطويلة صريحا في محاولة للفصل بينهما لا تمنع حالة التماهي التي نلحظها على مدار الرواية .
نحن – إذن – أمام وضعية الراوي العليم الخارجي الذي يحيط بالشخصيات و يعلم دواخلها و هواجسها ، لكن الرواية تبتعد به عن صيغته التقليدية التي تقيد حركة الشخصيات و تجعلها أسيرة إرادته فهو – رغم وضعيته هذه – أقرب إلى الراوي الدرامي الذي يعد امتدادا للكورس القديم و من حيث تعليقه على الأحداث و استدراك ما اهمله السرد منها ،
و يتمتع راوي “أحمر خفيف” بالروح الساخرة و التعليقات الحادة الناقدة و القدرة على ربط الخاص بالعام و صنع توازيات بين ما يقع في الرواية من أحداث و ما يناظرها في عالم السياسة و رصد تداخل الاحداث الذي يلغي المسافة الزمنية فحين نقرأ – مثلا – ما قاله الراوي منسوبا لـ “محروس” في لحظة مواجهة عدوه ” اضرب اضرب يا مره يابن الكلب” نجد العبارة التالية مباشرة تعليقا خالصا للراوي “العيار الطائش الذي دوى في الجو، يدوي الان في قلب الغرفة” صـ24 و هو تعليق يلحظ الحدث و امتداداته متجاوزاً المكان و الزمان.
إن الوضعية التي أرادها الكاتب للراوي تتيح له هذه الانتقالات السريعة عبر الزمان و المكان و من شخصية إلى أخرى بما يحقق طبيعة “المشهد “الروائي الكلي أو تحقيق ما يسمى ب”الإيقاع الروائي” عبر تكرار عبارات محددة بعد مجموعة من الأحداث الجزئية بما يحقق “إشباع التوقع” على نحو ما نلحظ في تكرار عبارة “النعش امام المستشفى و الملائكة ايضا” و هي العبارة التي بدأت بها الرواية و انتهت بنقيضهاا ” النعش ليس على باب المستشفى و الملائكة تفرقت”، و الحق ان هذه المناقضة لم تكن مفاجئة فقد ظل يخايلنا – على مدار الرواية – احتمال قوي بإمكانية قيام محروس الذي بدا مثل شخصية ملحمية في صراعه مع الموت .
و بتأمل طبيعة السرد يمكننا القول بغلبة ما يسمى بـ “السرد الحواري ” وهو السرد الذي يندمج فيه حوار الشخصيات و قد توازي ذلك مع تعدد مستويات اللغة ما بين الفصحى (السرد) و العامية (الحوار) بطبيعتها الكنائية الشعبية خاصة في التعبيرات الجنسية ، و يتميز السرد الحواري بالتطابق الزمني و كأن الاحداث مشاهدة – في لحظة القراءة – و ليست مستدعاة و هي خاصة درامية في الاساس حققت الرواية اقصى حالات توظيفها .
و لا شك أن هذه التعبيرات الكنائية الشعبية تعد امتداداً لريفية الخيال – إن صح التعبير – و التي لم ينخلع عنها الراوي بأي درجة من درجات المثاقفة ، و لا يخل بذلك ما ساقه من اشارات حول عبد الناصر و نكسة (67) و أحداث العراق لأنها شائعة في الوعي العام و لا تعلو على مستوى ادراك الشخصيات ، و قد تجلى هذا الخيال الريفي أوالخيال المستمد من مفردات البيئة الريفية في بعض الصور المجازية من قبيل ” وأهل القرية على قدم و ساق ، مأزومون كثور يدور بعيون مفتوحة في ساقية كغريق يتعلق بعود قش ” صـ 13 تصويراً لحالة أهل القرية في انتظارهم حول المستشفى بعد سقوط محروس، و يتجاوب ذلك مع محاولة اسطرة المكان الذي “انسلخ ممن حوله وديعا ، لا أحد يعرف متى، كأنما دفع نفسه بعيداً عن القرى المتزاحمةالخانقة ،أو كأن أحداً نحته و حده و حطه هنا”.. هذه العزلة التي تميز الوادي و مجهولية النشأة و ما تعبره من ريح باردة حتى في عز الحر، و ليله الذي لا يموت فيه أحد إن مرت هذه الريح ، ليل لا تقربه الثعالب و لا الذئاب و لا الملائكة.. كل ذلك يؤكد غرائبية المكان و أسطوريته سواء على مستوى الصفات المادية أومستوى ما يقع فيه من “أحداث”: يحكون أن احدهم في الغيط قتل ثعباناً أزرق و قطع ذيل وليفته التي تحورت و تحولت لطائر بجناحين ، أغارت على الناس و الخوازن ، و كادت تفسد ليل الوادي صـ 17 ، لكن محروس – حامي الوادي و أهله – يصطادها و يشويها و يأكلها .
و على الرغم من محورية هذه الشخصية فإن اهتمام الرواية قد توزع على أغلب الشخصيات بحيث أصبح لكل شخصية حكايتها، و من مجموع هذه الحكايات و تقابلاتها أوتوازيها يتشكل النص الكلي ، و الملاحظة البارزة على هذه الشخصيات هي وجود ” لازمة ” تميزها سواء كانت هذه صفة حسية أو معنوية أو سلوكية ، ووجود صفة ملازمة للشخصية من طرائق الرسم الملحمي لها نلحظ ذلك على” أبو الليل ” بيده المصابة بالجذام و الشيخ العناني بـ” اصبعه الناقص عقله” ” و عزيزة ” العمشة ” و الشيخ فرج بسواده” الغطيس ” و عبودية أبيه و أبو العشم بفحولته الجنسية و الفناجيلي الذي احاط به الموت صغيرا و اختطف أباه و أمه في شبابه فظل حاملا كفنه تحت ثيابه في انتظار الموت و الشيخ العناني حامل شجرة العائلة و الباحث عمن يحمل الشعله بعد محروس .
و بتأمل هذه الشخصيات نجدنا أمام جيلين جيل محروس و إخوته و جيل الابناء ، و الملاحظ أن الموت أو ما يقترب منه كان مصيرهم جميعا فقد مات أخوة محروس حرقاً ماعدا ” أبو الليل ” ، و سقط محروس بين الموت و الحياة ، و ظل أبو الليل هائماً على وجهه في انتظار النجمة التي قيل له إن ضوئها سوف يشفيه من جذامه، و مات ناصر مقتولا على يد أهل الوادي و ظل الفناجيلي حاملا كفنه هائما بين المقابر و تحول عزت – كما يصفه الراوي – إلى “بطل من ورق ” يجتر حكاياته و أوهامه ، وكأننا أمام لعنة تطارد هذه الأسرة ، وتطارد أهل الوادي بعد سقوط ” محروس ” الذي كان يرعى الجميع و يرفع الظلم و ينتصر للضعف و عجز الشيخ العناني ان يجد بديلا له.
إننا أمام شخصيات مخطوفة بالموت أومخطوفة بأحلامها و اوهامها المستحيلة تعيش عالما يفتقد قيم العدل و الامان و التواصل و يعجز عن تحقيق الشروط الاولى للحلم بها ، و لعل هذه هي رسالة الرواية التي سعت – عبر بنائها و حكايتها المتداخلة _ إلى تأكيدها.