عبد النبي بزاز
قارب الكاتب والناقد المغربي محمد الشغروشني المتن السردي للقاص لحسن حمامة بعدة معرفية غنية ومتنوعة تتوزع بين ما هو جمالي (شعرية المكان السردي)، وما هو تأريخي (شجرة الحكاية) مخترقة برؤى سيميولوجية ونفسية واجتماعية… تعكس متح الناقد من حقول معرفية متعددة في مقاربته لمنجز قصصي يتكون من ست مجموعات بحمولات تاريخية لقاص من جيل السبعينيات أثرت نصوصه المتن السردي المغربي والعربي في مرحلة مفصلية دقيقة اتسمت بإرساء لبنات جنس أدبي (قصة قصيرة) من خلال كتابة نوعية تنشد التطوير والتغيير، وحسب الناقد ” ينتسب لحسن حمامة إلى جيل السبعينيات من كتاب القصة القصيرة المغربية، وإن لم يصدر مجموعته الأولى[عندما تتكلم الحيطان ] إلا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي (سنة 84)،وهي المجموعة التي تحمل في ثناياها ملامح الحساسية الفنية لهذا الجيل، من خلال أسلوب الكتابة، وإخلاصها للمرتكزات السردية…” ص 18، ويحدد الكاتب موقع القاص الإبداعي، وتوجهه السردي في حقبة أسست وأرخت للون قصصي ضمن زمرة من القصاصين ارتبطت أسماؤهم بمرحلة التأسيس لجنس القصة القصيرة وبالتالي إرساء وبلورة إوالياته الإبداعية والجمالية: ” وعلى الرغم من انتماء الكاتب إلى تيار الواقعية الجديدة فإن أطراس النصوص السردية لمنجزه القصصي ظلت حاملة لحفريات الحساسية التي كانت تميز الجيل السابق، جيل الستينيات.. ولا سيما في بعدها الرومانسي.” ص 20 فتم الانتقال إلى موجة الواقعية الجديدة بتمثل مقوماتها القصصية، وأبعادها الجمالية والدلالية من تيار رومانسي سابق عبر التوسل ببعض مكوناته التعبيرية وتوظيفها لتنويع أشكال السرد وتشريعها على أفق موسوم برحابة وعمق ينأى بها عن النمطية المكرورة، والرؤى المألوفة، كما يعبر القاص في أحد نصوص مجموعة [الطاحونة والنوارس]: ” تثاءبت من الأسئلة الشائكة التي تمور داخلي، دخت، انجذب جسدي لفراش نومي، أحلق فوق الأشجار، أقطف ثمار قمم أفنانها، أتلذذ بأكلها، تصحب تحليقي جوقة طيور رائع شكلها.. ” ص 16، وهو استلهام لا يلغي زخم إبداع سردي مسكون بهواجس وهموم واقع تتفاقم أعطابه، وتتضاعف نواقصه: ” هذا القلق الفكري والوجودي لا يكشف عن نفسه كهم عام فحسب، بل يرخي ظلاله الداكنة على الوجود الذاتي للكاتب نفسه، ذلك الوجود المعنى بأسئلة الكتابة ومآل المكتوب في مجتمع لازال يرزح تحية سلطة الأمية والجهل، في غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم، تعفي الكاتب من التبعات المادية والمعنوية لعمله الإبداعي والثقافي ” ص 19/ 20، مما يولد أسئلة مؤرقة ومحيرة لقاص تتنامى معاناته وتتضاعف تجلياتها أمام واقع ينخره تراجع فكري وثقافي كما ورد في نص من نصوص مجموعة [الطاحونة والنوارس]: ” لماذا نكتب ؟ ولمن ؟ ” ص 12.
ودأب القاص في منجزه السردي على تنويع موضوعات نصوصه لتخليصها من خطية الرتابة فانتماؤه لتيار محدد المعالم والمرامي (الواقعية الجديدة) لم يمنعه من التوسل بطرائق تثري قصصه خصوصا ذات النزعة الرومانسية وما تطفح به من حلم ووجد وخيال كما يؤكد الناقد: ” فالكاتب ـ من خلال منجزه السردي ـ لا يعتمد على الذاكرة كمصدر وحيد لإبداعه، حتى لا يكون محكوما بصرامتها وانتمائها للماضي، بل هو دائم السعي إلى تلوينها بالتخييل، بالنظر لما تمنحه المخيلة للمبدع من تحرر من أسر الواقعية الصارمة ” ص 29. ولا يفوت محمد الشغروشني أن يحدد ما يقدمه المتن القصصي المدروس من آفاق ورهانات تتمثل في ارتباطها بعدة جوانب أبرزها النفسي والاجتماعي والفكري في سياق يطبعه التوتر والصراع: ” ومن ثم فإن المنجز السردي للقاص لحسن حمامة يفصح عن رهاناته الاجتماعية والثقافية منذ مجموعته القصصية الأولى ” ص 31.
وتتضمن المدونة السردية موضوعات قاربها الناقد لإضاءة مظاهرها، والغوص في ثناياها كموضوع الحلم: ” وفي أحيان كثيرة يشتغل الحلم في نصوص هذه المجموعات القصصية كمكنسة لتنظيف اللا وعي من الحيرة الوجودية… ” ص 38، وهنا يبرز انزياح القاص عن المنحى الواقعي في نزوع رومانسي بحمولات من حلم وخيال، وموضوع الهامش كبؤرة تعج بأشكال التهميش والإقصاء لما تتضمنه من رمزية مختلفة المرامي والأبعاد: ” لا تكاد تخلو المجموعات الست، التي تشمل موضوع هذه الدراسة من متن سردي يقوم على استدعاء الهامش بفضاءاته أو أحداثه أو شخصياته ” ص 44، وهذا ما يصوره القاص في إحدى قصص أضمومته[عندما تتكلم الحيطان]: «قيل إن مدن الصفيح والبراريك يسكنها أكثر من نصف مجموع السكان »ص 53، ليظل وفيا لخطه الواقعي في تتبع ورصد وتصوير ما يحفل به المجتمع من مفارقات تكرس التفاوت الطبقي بين فئاته بأدوات فنية وجمالية ترتهن لرؤية لا تخلو من حس نقدي في استشراف لآفاق حبلى بإرهاصات التغيير والتجديد.
ومن الموضوعات التي قاربها الناقد في المنجز القصصي المكان كفضاء لمسرح أحداث النصوص في تنوعها حسب مجريات سيرورتها السردية، وقد حصره ـ أي المكان ـ في نوعين: مفتوح ومغلق: ” ولذلك يمكن تقسيم الفضاء في المنجز السردي موضوع الدراسة إلى نوعين رئيسيين هما، الأمكنة المفتوحة والأمكنة المغلقة والمقصود بها (أي الأمكنة المغلقة) تلك الفضاءات ذات الطبيعة الحميمية، الكاشفة لخصوصية الشخصيات الصانعة لأحداث الكون السردي ” ص 71/ 72 ويذكر منها: فضاء الحلم، البيت، غرفة النوم، التلفزيون، الأنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي. والأمكنة المفتوحة والتي مثل لها في: المدينة، المقهى،الشوارع، السوق.
ويشكل فضاء المدينة محطة تتوزع بين ما هو رمزي وقيمي أنطولوجي من خلال ارتباط القاص الوجودي و(النوستالجي) بمدن من قبيل الخميسات والجديدة وفاس التي ظلت راسخة في ذاكرته ووجدانه بأماكن ينصهر فيها عبق التاريخ برمزية المكان: ” بينما تنهض مدينة فاس كفضاء للأحداث على ثنائية ضدية، فهي عنوان الطفولة والحنين الدائم لموطن المولد والنشأة، ولذلك ظلت منقوشة في كيان السارد « بسحنات ناسها، حرفها، مهابيلها، أزقتها… روحه من روحها» [الطاحونة والنوارس] ص 108، والتي سيكون الاقتلاع منها فطاما وموتا بالنسبة للسارد. وهي نفسها المدينة التي تستعاد تناقضاتها الاقتصادية والمكانية بين المخفية وباب الحمراء” ص 78.
وتتضمن ثنايا المتن القصصي صيغة نقدية تنخرط في صلب إبداع سردي يتغيا تجديدا تدلي فيه شخوص النصوص بدلوها من خلال اقتراحات تروم تجاوز الأسلوب النمطي في أشكاله المألوفة التي تعرف هيمنة السارد على أطوار عملية الحكي في كل مجرياتها، بحيث يقول الناقد: ” أو المعارضة بين السارد وشخصية السعدية التي ترفض تمويه السارد وتجهر بالقول:« الراوي حاول أن يكتم صوتي أو على الأقل أن يحرفه لكنني رفضت.» [عندما تتكلم الحيطان ] ص 6، أو بين الكاتب والشخصية، حيث تقوم شخصية مروان بما يشبه محاكمة الكاتب على ما اقترفه في حق شخصياته:« فمثلا نحن الأصدقاء نأخذ عليك أن أغلب شخوصك وأنا منهم معطوبة إما نفسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو اقتصاديا…» [المغارة والضوء ] ص 7.
لقد أبان الناقد المغربي محمد الشغروشني عن رؤية عميقة، وحس حصيف متمحص وفاحص في إضاءته لأهم جوانب المنجز السردي للقاص لحسن حمامة، وكشفه لما تمور به مكوناته من عناصر إبداعية بمقومات جمالية ودلالية.
……………………….
ــ الكتاب: غواية الحكاية (قراءات في المنجز السردي للقاص لحسن حمامة).
ــ الكاتب: محمد الشغروشني
ــ المطبعة: مطبعة سجلماسة / مكناس 2021.