غرقى يستنجدون بقشة

نجوى شمعون
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نجوى شمعون

إذا ما رأيتني، فامضِ فذلك ليس أنا

هنري ميش

هي أنا ذاتها ولكن بوجه شاحب وعيون ذابلة، أجسادي كلها كانت تفر من الحرب من القصف المتواصل في كل مكان، عيوني كانت تحدق بكل ومضة برق أو صوت صاروخ يندفع نحونا بشكل عشوائي أو بقصد من الجنود، أنا ذاتها كغيري نقص وزني، وشحبت صورتي في المرآة، وأصبحت أخرى لا أعرفها، أصابعي التي اعتادت الكتابة أصبحت تعد على أصابعها العشرة عدد الصواريخ والقذائف والأحزمة النارية في الليل، هي ذاتها أنا التي تسمع الأغنيات في الحرب وتدندن بصوت مجروح في الحرب، هي أنا أمارس بعض التمارين الرياضية وأنسحب مسرعة مع صوت الصواريخ الكثيفة في بقعة واحدة ووحيدة، إلا من نقر الأصابع على جسد أنهكته الحرب فنهض من جديد، أضع سواتر من الرمل أمام حواسي كلها، ما الذي يمنع الحرب من التجوال بكل وقاحة في الروح كما الجسد، حاملة معها كل القلق والمخاوف مكتنزة لتلقيها دفعة واحدة في الجسد الهارب منها، الأصوات ثقيلة تحمل معها الرعب وطنين الموت الملتف حولك يحاصرك ويخنق ما تبقى في الروح من أمل.

أقف مسرعة في حركة مندفعة ناحية باب الغرفة، حين تضرب الطائرة صاروخها المرعب، لتضع يدك على قلبك وكل حواسك المستيقظة، في حالة انتباه دائم حتى أثناء نومك، ويومك كله.

كل ما تراه دخان القصف على بيت أو مسجد بالجوار، وصوت فظيع لا تحتمله الحواس، الحواس مجنونة بالحرب، تنهبها الحرب بقوة وتتحكم بها، الحذر والخوف سيدا الموقف في الحرب متوجسا من كل صوت حركة الستائر صوت عربة تمر من شارع يشي بالزحام، متوجساً من أي حركة تصدر حتى لو عن الهواء، يصبح كل شيء تقوده الحرب بأسلحة الحواس، كل شيء يصبح مفخخاً بالشك، وأنت كأنك فقاعة في الحرب وصرخة مكتومة عن العالم بأسره.

في الحرب ابتعدت عن الكتابة لموقع الكتابة سبعة أشهر دبقة الابتعاد كان قسرياً لأسباب عديدة في الحرب أقلها لا كهرباء ولا بطارية مشحونة عليك أن تشحنها يومياً “ُفل” حتى تستطيع استخدام النت واستخدام البطارية لشحن اللاب توب

القصف سبباً رئيسيا أيضاً، أصوات القذائف التي نسمعها من خانيونس يصل صداها لمدينة رفح، البراميل المتفجرة ونسف البيوت نسمعها أيضاً في اتحاد غريب وكأنها في منطقتك أينما كنت، الكواد كابتر المسعورة والطيران الحربي والزنانة فوق رأسك

أوركسترا الحروب لعقليات مريضة في دولة الاحتلال المريض نفسياً وعقلياً

تمنيت لو انهم أنشأوا مصحة لكل قادة العدو المجرم، ولكل قاتل روح ولكل مدمر بيت في أي بقعة على الأرض، الأرض حزينة لكل هذا

الأرض أيضاً غرقى بالدماء وبالسنابل الصغيرة، بصرخات المُعذبين ولا تندهي ما في حدا.

 

ما يلفت الانتباه في الحرب البرية

الكونية

الجندي مكشوف على الهاوية

ضئيل أمام طفلة

بترت قدميها

فنمت زهرتان من دموعها

من الركبة

وصولا للأرض

لا كرسي مدولب

لا عكاز

لا خبز

الجندي مكشوف في الإدانة

ولا محاسبة

ما يلفت الانتباه في الحرب

خيم

وقلوب في النار

لا ماء يبرد غليلها

عجوز يمسح عرق وجهه

برماد بيته

ويبكي

امرأة تلملم أشلاء أطفالها

في حالة صدمة

المرأة

والكفن الأبيض

وأشلاء الأطفال

ما يلفت الانتباه في الحرب

الرمل الساخن

أصوات القذائف

الأحزمة النارية

نازحين يجوبون الأفق في محاكاة السماء والأرض

طفلة تمشي أو تركض

“وين نروح” تقول لحامل الكاميرا

قصفوا بيتنا

ما يلفت الانتباه في الحرب

النهار حزين

والليل تزداد عتمته

البحر والخيم في حالة حداد

مجازر تركض خلفهم

نجم يراقب ويعد الصاعدين إلى غدهم.

***

حبل غسيل

صورة لامرأة تنشر الغسيل على الميركابا أينما كانت ..في سوريا في غزة في أي بقعة على الأرض

الموت مقابل الحياة

والحرب مقابل السلام

المرأة حولت السلاح الذي يقتل ويدمر لحبل غسيل، هكذا بمنتهى الرقة والجمال

حاجتها لنشر الغسيل، لبلورة الحرب في تكتيك جديد ولطيف وبسيط

عجزت دول عن تحويل الحرب ليد سلام، بمنتهى الدقة والرقة حولت السكين لوردة، ودون حذر حولت السيدة المكان والموقف لساحة تصلح للغسيل لقميص أكلت نصفه الحرب..ربما أو احترق جزء وتركت الحرب جزء، كبيتها المدمر هناك خلف حبل غسيل

الحياة لا تصلح للحرب، لكنها أرغموها على ذلك وصنعوا لنا فخاخ للموت

بألوان زاهية تتحدى موت المدينة، صنعوا حجج للموت وللقناصة هناك، ولموت الأطفال بكامل القسوة،

لحبل غسيل يستقبل الناجين

والحياة

بيد من فراغ تراوغ الموت

في انتظار أن يجف القميص

في انتظار ان تطهو الطعام

والماء الذي جف

من يسقي الزرع قالت المرأة

جف الورد والساقي

والبيت المدمر

لحبل غسيل يقول: هنا حياة

هنا يوجد عائلة

ومشط لجدائل الصغيرة

ودمية خلفتها الحرب

على حبل غسيل

يقول القصة بعدد قمصانه

في انتظار أن يجف القميص الأزرق

وفي انتظار صاحبه أن يعود من الحرب.

 

ينتظر الأطفال أن تتوقف الحرب

لا ليذهبوا للمدارس مشياً على الحنين

ولا لأخذ نفس من الحياة

يريدون ذلك بشدة

لكن الحرب علمتهم

أن ينتظروا رفاق طفولتهم ليكبروا معاً

يدا بيد

حقيبة وكراس رسم.

**

ما فعلته الحرب بنا

البشر أيضا يذبلون كما لو كانوا وردة

شجرة

طريق

كل ما فيهم يصرخ بوضوح بكل المعاناة ولكن لا أحد يُبصر الشجرة في جفاف أوراقها وذبول جذورها، الوردة في سحق عطرها والطريق في انكساره بفعل دبابات الاحتلال وجرافاته، الجنود المُرتزقة ليس لهم بيت، كيف سيفهموا معنى البيت..والحديقة وقطط البيت، الكل طردته الصواريخ بأطنان المتفجرات فيها وبالدماء التي عطرت الأرض والجدران والشوارع، المستشفيات أيضا تمرض وتنكسر وتتلاشى بفعل القذائف ويصعب التعرف عليها، العصافير التي كانت تؤثث أعشاشها عند الغروب أصابها ما أصاب البشر من نزوح، وهروب لأماكن أكثر أمناً، صار بيتي صعب الوصول إليه منطقة خطرة على حسب ما كتبه لي صحفي على مجموعة الواتس، أصبحنا نبحث عن أي صورة للمنطقة، ونسأل عن الجيران أين نزحوا، كل في طريق، الحروب أيضاً باعدت بين الجميع بأعلى مستوياتها في النزوح والقتل والتشريد، الحروب شرسة على البشر والبيوت والخيم، الجميع يكتوي بنارها، الحرب لا تأتي وحدها، القادة يحبونها والجنود ويبغضها المدنيين ويعشقها الساسة وتجار الحروب.

 

لو أن الحرب تقف وتخرج من كل شيء من أنفاسنا وجلودنا وأرواحنا من حواسنا وعقولنا وملابسنا ومدننا، هكذا للأبد.

 

اخرجي أيتها الحرب

من جلودنا

من أنفاسنا

من أرواحنا

من عقولنا

من حواسنا

اخرجي بلا رجعة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم