فكروا مثلاً –وكان الغراب لا يقوى على نطق ما يففكر فيه وإن كان يعلم أن شيوخ القبيلة قادرون على قراءة ما يدور بعقله جيداً- في نوح الذي نادى ربه وطلب الشفاعة لابنه الظالم، حتى وهو يعلم أن فكرة الاستثناء ظلم لا يليق بنبي أن يطلبه، كان يمكن كتابة تاريخ جديد للابن على أرض سيتم تلويثها إن آجلاً أو عاجلاً.
رأى ابتسامات الشيوخ وخمَّن أنهم يقولون له لا تفكر في الأمر فنحن لسنا أنبياء، كما أننا لا نملك شرف مناداة الرب ولا إجابته، وكانت المسكينة ميتة على الأرض أمامه، خليط من الريش الأسود والأبيض وخبطات المناقير التي خلَّفت لون الدم القاني!
كثيرون ماتوا أمامه ولم يكن يرتعد مثلما يرتعد في تلك اللحظة، ربما كان منشأ الخوف الذي يحدث لكائن هو إقباله على تجربة لا يعرف ماذا تخبئ خلفها، نحن لا ندري أين يذهب جسدنا بعد أن يتوارى في التراب، يقولون إننا سنُبعث يوم القيامة وسيقتص كل منا من الآخر قبل أن تحل الصيحة ونصير تراباً مرة أخرى، أليس في هذا داعياً لأن يفهم الشيوخ أن الحياة لا تحتمل التأجيل، أننا يجب أن نستمتع بالحياة لدرجة أن لا نلتفت إلى ضرورة الحفاظ على الأنساب؟!
كان غرابان يتعاركان، وقتل أحدهما الآخر ونبش الأرض بقدميه، ووارى جثة أخيه، وهكذا فعل قابيل مع هابيل. الخطيئتان حدثتا في توقيتين متقاربين، فأي شر ذلك الذي يجعلنا على قدم المساواة مع البشر، إنهم يعيشون في الأغلب حتى السبعين، وهو العمر الذي نحياه نحن أيضاً، ولكننا أعلى منهم منزلة بحكم أننا نملك الجو ونراقبهم من الأعالي، ونشاهد أخطاءهم غير أننا نكررها، مع الاعتراف أنهم قد يكون لديهم كل الحق في كراهيتنا، ألسنا من نغير على أفراخهم؟!
في لحظة تفكير مماثلة كانت الجميلة على شجرة جميز وكان زوجها غائباً، وناداها فالتفتت وهزت جناحيها بترحيب، وكان الجميع مشغولين بالانقضاض على الحقول المجاورة ومنازل الفلاحين، وكان يشعر بالنشوة من جرَّاء غنائمه في اليوم السابق، وكان يعلم أن والده لن يسأله عن رزق جديد مكافأة لإخلاصه للأسرة، وفي عشها الدافئ فكر في قريبته التي ستصبح زوجته قريباً، غير أنه لم يعرها سوى ثانية أو ثانيتين قبل أن يطردها من ذهنه، وما ساعده أكثر هو السخونة التي خلَّفتها الجميلة في جسده وهي تهز مؤخرتها وتتمايل في العش الوثير الذي تطايرت عيدانه الخفيفة وضربت ملامحه الفتية وألهبت مشاعره. كان يفكر في درجة الثبات التي اكتسبها من ثباتها، فكر في أنها تعلم يقيناً أن زوجها سيعود لا مفر، وفكرة قتله على يد فلاح مستبعدة إذ أن هذا نذير شؤم، ولم يحدث قبلاً إلا مرتين كان القاتل فيهما أحد المعتوهين، في الأولى كمن وراء شجرة جوافة وهاجم مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا على مقربة من عشة حمام وانهال بفأس على رقبة أحدهم، كان معهم وانتظر فترة طويلة حتى يذهب الرجل قبل أن يهبط مع الباقين ويعودوا بجسد المسكين المشطور إلى نصفين غير متساويين، والثانية حينما ألقى بحذائه الضخم على شيخ فأصابه ولم يقو على الطيران، وانتهى به الأمر في قاع بركة.. ومع هذا فإن العودة لا تكون إلا بعد وقت معقول، يحتاج الغراب في الأغلب إلى زمن للتجهيز، كمون، ثم انقضاض قد يفشل، وهو ما يستدعي كموناً فانقضاضاً مرة أخرى.. الأمر لا يخلو من سيدة أو طفل يمسكان بمقشة سعف ضربتها شديدة الإيلام، وهذا الزمن كفيل بمؤانسة سيدة تفتح قلبها لغراب جديد، ولكن كل قصص المؤانسة من هذا النوع تكون مثيرة وتسيطر على الجسد وتجعله غير قادر على الإقلاع عن العادة بسهولة، يظل الغراب الشاب يكرر غزواته في غياب الزوج، حتى يشاهدهما يتقلبان على فراشه ذات مرة، تنظر إليه الزوجة بذعر العالم، وتعتري الشاب رجفة من يرى مجلس التأديب النهائي، رعشة اللذة تتحول إلى رجفة، وهكذا فإن الغراب يصبح أسيراً للغة، كان يمكنه الطيران عائداً إلى منزله ليخبر والده بأنه لم يصطد شيئاً لأن الفلاحين كانوا متيقظين جداً، ويستمع إلى محاضرته الممتزجة بالتوبيخ عن غربان المدينة الذين يعانون مع أشخاص أكثر مكراً من الفلاحين، هناك مواد يطلقها هؤلاء على الغراب، فيسقط في الحال محترقاً، الفكرة القاسية لأي غراب في المدينة هي أن المدينيين لا يلقون بالاً لحكاية نذير الشؤم..
سيطرت عليه هواجس الألوان، نظر إلى بطنه الأبيض، وريشه القوي الأسود، وشعر بالألم لأن الطبيعة هي الأخرى أسهمت في توجيه حياة الغراب، الأسود والأبيض لونان قاطعان بينهما تغرق حياة الغراب في قوانين حادة لا تقبل التجاوز، وهناك كبار دائماً، حفظة بررة، لا يسمحون بالاستثناء، الاستثناء يكون لطيور أخرى، لكن ألم يفكر أحد الحكماء في الثورة على الحياة التي رسمت هذه الصورة القاطعة للغراب، الصورة التي جعلته أكثر الكائنات تميزاً على وجه الأرض، حتى التميز يكون مأساة لصاحبه إذا كره فكرة النمطية..
في الوقت الذي كان يهرب باتجاه حقل بعيد لاحقه الأب، كان صارماً ومن عينيه يطل الموت، ونقره في رأسه نقرة هائلة فشعر بالدوار والألم، وكان الألم يتضاعف بفكرة أنه الأكثر إخلاصاً في القبيلة لصاحب النقرة. أجبره الأب على الدوران..
في الأسفل كانت قطة ذات لون بني تمدد جسدها تحت الشمس..
كلب بني منقط بالأبيض يتحرك بخفة وراء منزل طيني ليهاجمها..
صبي أبيض يرتدي جلابية مخططة بالأخضر والأزرق ويضع قدمه فوق كرة بلاستيكية حمراء وهو يراقب ما ستسفر عنه المعركة المتوقعة بين الكلب والقطة..
سيدة بيضاء تحمل حزمة برسيم ضخمة متوجهة إلى بقراتها الصفر..
رجل أسمر يركب حمارة بيضاء ويسير بها في خط ترابي متعرج..
كتاكيت صفراء، ودجاجات بيضاء وديك ذو عرف أحمر قان مشرئب ويصيح صيحات متوالية..
مساحات خضراء داكنة..
مساحات خضراء فاتحة..
مساحات صفراء..
مساحات ترابية تناثرت عليها بيوت طينية..
عاودته الرجفة مرة أخرى، كان يعلم أنهم ينتظرون طيرانه، لا أحد يبادر بالهجوم إطلاقاً، حتى في المحاكمات هناك تقاليد، لو أنه انتظر أياماً فلن يتحرك أحدهم، لم يستطع أن يلمح أمه، لا ريب أنها اختارت زاوية يصعب عليه رؤيتها، هل تشعر بالحزن الآن؟!
اتخذ قراره وندت عنه حركة بسيطة، فاهتزت كل الأجنحة وصنعت هديراً من أمواج الهواء المخيفة، بدأ في الصعود رويداً رويداً، ورآهم يحيطونه في حلقة واسعة، كانت تضيق عليه كلما أسرع، ضاقت الدائرة وبدأت النقرات، وشعر بالابتهاج، حينما شاهد أول قطرات حمراء تسقط على المساحات الترابية التي تناثرات عليها بيوت طينية..
الألم تصاعد في المساحات الصفراء..
وعلى البعد لاحت مساحات خضراء فاتحة..
تليها مساحات خضراء داكنة!