محمود قرني
عندما يطالع المرء صفحة بيضاء اكتظت بدسائس الشعراء من مظالم، وجدارن، وأسقف، وحدود لا متناهية لفكرة الاغتراب والوحدة وتناثر الصوت الفردي ومأساته التي تبدو سرميدية في تمددها على مدار الخليقة، فإن ذلك ربما يدفع القارئ للتساؤل مرة أخرى حول فكرة الوظيفة الشعرية في شعرنا الحديث، لاسيما ونحن أمام شعراء أغرقوا في التشاؤم وأمعنوا في الاغتراب ولم يكونوا دائما بحجم طموحات قرائهم في بث التفاؤل اللازم في أوصالهم.
وربما كانت أزمة الشعر في جوهرها جزءا من هذا التصور، ربما لأن الأزمة في عمومها تكمن في تلك المسافة التي قطعها الشعر إلى مناطق وعرة من الوعى بأزمة الإنسان المعاصر في مقابل أنظمة عبوسة تنظم مستويات الوعى حسب حاجة السياسة، لأنها تنتصر في النهاية لفكرة النظام في مواجهة الفوضى التي يطمح الإبداع عادة إلى الكشف عن تكويناتها بطموح يتجاوز الشعرية المستقرة أو إن شئنا شعرية الضرورة. من ثم سيُكتَبُ الانتشار ويتمدد البقاء للنماذج غير الانقلابية التي لاتخدش حياء الأبنية القائمة.
أنظمة الوعى عموما كسيحة لدى النظم السياسية بمختلف توجهاتها وإن شئنا الدقة فهي موجهة لتحقيق غايات الانقياد وتعميق مذلة البشر، من هنا يمكننا تفهم ذلك التفسير الذي يقدمه الشاعر الفرنسي “بول كلوديل” لتزايد تلك المسافة بين الماضي والحاضر من واقع الاعتقاد بأن العصر الصناعي واكتشاف علوم الميكانيكا أديا إلي شعور الصانع بالاغتراب عن صناعته، وانتهي الأمر إلى زوال الإيقاع الجماعي المشترك أو النشيد لصالح عزف منفرد يمارسه الغرباء بطريقتهم. لذلك كان كلوديل يؤكد دائما أن محاولات تحديد مرجعيات للشعر في مختلف لحظات التطور أو الانقلابات الكوبرنيكية أمر ليس ميسوراً إلا لمؤرخ أدبي يخضع للأطر المدرسية أو شاعر مهجوس باليتم ومشغول بالبحث عن أب شرعي.
والشاعرة زيزي شوشة في ديوانها “غرباء علقوا بحذائي” تقدم نموذجا يبدو دالا تماما على تلك المساحات المترامية من الظلال التي يمكننا أيضا اعتبارها عزفا منفردا يمارسه الغرباء كل بطريقته. لا أتكلم هناعن غياب الميراث الشعري للشاعرة بل ربما حضوره بأكثر مما ينبغي، لكن علينا التأكيد على أن وعى الشاعرة بما يحيطها من مفردات الطبيعة بكل عناصرها المصنوعة ينطوي على علاقة شديدة التركيب، لأنها استطاعت في وقت واحد أن تكشف عن أقصى التناقضات في علاقة التنافر والتجاذب الممكنة مع تلك العناصر: الليل والمدينة والظلام والغرف المغلقة، بحيث بدت كأنها بديل لعناصر الطبيعة الأربعة المعروفة: الماء والهواء والتراب والشمس.
فالديوان في جزئه الأول منذ قصيدة “الحرب دائرة في الخارج” حتي قصيدة “وحدهم يعرفون معنى الوردة”، يبدو خاضعا لتكوينات الجملة الشعرية التي تكتظ بحمولة كبيرة من تشوش الحواس، وأحيانا الارتكان على تراث من الرموز يبدو غير مستنفد، وستبدو جميعها بابا من أبواب الوعى بتكوينات تلك الشعرية. فالليل يبدو منذ القصيدة الأولى رديفا لفكرة الخلق وكأنه ولد لصيقا بالبشر، تقول الشاعرة: “حين يقشر الرب جسد الليل يخرج النهار كتلة باردة وأنتم تدفئونه بأنفاسكم”، لكن النهار الذي يولد من جسد الليل ككتلة باردة، على ما فى التعبير من شعور بالوحدة والانكماش، لم يكن دعوة للتفاؤل على أي نحو حيث تقول الشاعرة عن نهارها: تمسحون عن وجهه رماد الأمس، تمسدون شعره الأبيض، تسحبون من ظهره السكين الحاد وبأصواتكم تبددون غربته . إذن فالنهار الذي ولد لم يكن شابا عفيا بل كان أشيب الشعر مطعونا في ظهره، وكأنه يبدو تعبيرا عن خيانة الليل، وسوف تتواتر صورة هذا السواد أو غياب النور في صور أخرى منها تلك الطريقة التهكمية التي تهرب بها الشاعرة من الحرب حيث تقول: “أضع القفل على الباب ليبتلع الأصوات، ثم أندس تحت غطائي محاولة الهرب إلى أعمق نقطة فيّ”. ص 9.
وسندرك مساحات تشوش الحواس في قصيدتها “عجوز ممتلئ بالضحكات” عندما تقول “أتسلق عتبات الليل لأراكم وأنتم تجدفون دون ثقب في الرأس”، فما علاقة الليل بالتجديف بثقوب الرأس؟ إن التشوش الذى أشير إليه هنا مصدره تلك الصور غير المتآلفة وغير الخاضعة لمنطق المتوالية الذهينة التي تخضع فيها الصورة للتراتب المنطقى، لأن الشاعرة تذهب بعيدا فيما هو فوق واقعى وهى صورة أقرب إلى العقيدة السريالية في إنتاج الشعرية.
وربما يفسر لنا أندريه بروتون هذا اللاتجانس عندما يقول: “إن الإنسان الذي لايقوى خياله حتى يمكنه من تجسيد جواد يعدو فوق سطح حبة من الطماطم، هو شخص ضيق الأفق”، إذن فالتشوش الذي أشير إليه هنا ارتبط بالأحلام والتصورات الغريبة التي تبدو فوق واقعية، أى إننا أمام لهاث خلف اللاشعور في محاولة للمزج بين الحقيقة وسرابها. ومن يمكنه استنكار هذه التصورات في عالم تميزه اللامنطقية وحدة الجنون؟ وسنرى الشاعرة وهى تعزز هذا الالتباس لمعنى الليل ص 11 عندما تعيد تعريفه باعتباره “شارع مجهول في مدينة”، ص 12 وعندما تصفه بأنه “امرأة وحيدة تجهز مائدة العشاء”، ثم إنه “عجوز ممتلئ بالحكايات نسيه الرب في أحد أركان البيت”.
ثم تتحول دلالة الليل في قصيدة “أصدق بيتا بعيدا” عندما تقول “الظلام يدوس بقدمه العمياء على وجه المدينة”، ص 15، وفي قصيدة “حتى لايضيع الوقت” عندما تقول “لا أريد لهذا الليل أن ينتهى لا أحب انسحابه الغامض من جسدي.. وحده يعرف كيف بدأت الحكاية” ص 17 , 18. ثم تلك المصالحة المؤقتة مع الليل عندما تصفه في قصيدتها “طفولتي هناك” بقولها: “الليل يبدو ناعما كشال من الحرير، عندما يلتف حول عنقى”، ص 19، ثم تعقب ذلك بالقول: “الليل ملتف حول عنقي والمدينة تتساقط أشلاء وطفولتي تبحث عني” وإذا ما تأملنا ذلك التناقض الذي يجمع بين المدينة التي تكتظ بالإضاءة وبين الليل أو الظلام الذى ارتبط بالصحراء والأماكن غير المأهولة. سنكتشف أن الليل هنا ليس هو الرديف لفكرة الظلمة بمعناها المادى لكنها فكرة تبدو تعبيرا رمزيا عن قسوة هذا الارتباط بين المدينة كوطن لايملكه أحد بترامي أطرافها واتساعها وسحقها للإنسان، وبين الليل بدلالته على الضياع واحتجاب الرؤية، إذن الليل يمثل ماهو بداخلنا وليس مايحدث خارجنا.
وتعزز الشاعرة هذا المعني في أكثر من نص عندما تقول في قصيدتها “مثل زهرة بيضاء”: “عندما تنام المدينة أفكر في أن ألقى بقصائدي من النافذة لتسقط في حجر الظلام” ص21 ثم تقول في النص ذاته “أنا ابنة الظلام، أحب أن تكون قصائدي ثقبا في جسده، أحبه، وقد وازداد اتساعا كلما نظر الآخرون منه”، وكأن المشاكسة الموجهة للظلام في بداية النص لاتعني أكثر من حيلة لكي تحقق أكبر اختراق في جسده. ثم يصل الأمر إلى الرغبة في مؤاخاة الظلام في قصيدة من أجمل قصائد السؤال، ومن أبرع صور التهكم المر الذي يحمل نفيه وسرمديته معه عندما تقول في قصيدتها “من أين تأتى كل ليلة”: تعال أيها الظلام ادخل إلى غرفتي اجلس إلى جواري أعلم أنك تتألم مثلى قل لي لماذا أنت هكذا ؟ هل قتلك الرب حتى اسودت دماؤك ؟ من أين تأتى كل ليلة؟ والليل لغة هو مايعقب النهار من ظلام، وابن الليل هو اللص وفي الفسلفة أيضا ابن الليل هو الظلام والظلام أحيانا يكون الظلم وأحيانا يكون العقل، وهو في الشعر دلالة حسية لأننا نراها ومن الليل العمى أيضا.
وارتباط الليل بالمدينة فريد أيضا في الديوان، لأن المدينة ارتبطت بالموذج الحديث للتعايش وهى أحد مظاهر انتصار العقل العلمى، لكنها في الرومانسية تعني السحر وتعنى أيضا الرغبة في الانعتاق من أسرها وهى عند زيزي شوشة رديف للموت والانحطاط والقهر الأخلاقى والاستعباد والطغيان لكنها في الجانب الأكبر تعادل الغموض، وهو معنى عرفه الرمزيون أكثر من غيرهم حيث الصراع بين الظاهر والباطن وبين الغرض والجوهر. والمدينة بشكل عام تمثل صورة مرزولة لدى الشاعر الحديث الذي يبحث عن الطبيعة، لذلك عندما سئل جوته ذات مرة عن تعريف المدينة ردد أغرب إجابة ممكنة حيث قال: المدينة هى المكان الذى يستحيل على الشعر أن يعيش فيه.
في الجزء الثاني من الديوان تتشكل مساءات أخرى لأزمة الشاعرة أو أزمة الإنسان في رحلة بحثه عن الحرية، فتتبدى هذه المرة فكرة الجدران والحوائط والبيوت والغرف المغلقة كفكرة مركزية تبدأ مع الشاعرة من قصيدتها ” قصائد الغرفة ” وتتبدى تلك الصورة بشكل جلى في العيد من قصائد هذا الجزء، لكنني سأتوقف أمام بعضها. ففى قصيدتها “أجلس أمام رجل” تتحدث عن رجل يجلس أمام الباب ص41، فيما يبدو أنه خائف من شيء ما، أو أنه حارس لشيء، لكن الصورة ستكون أكثر وضوحا عندما تنهى الشاعرة قصيدتها بهذا المعنى المليء بالفانتازيا حيث تقول: الرجل يصغر ويتكسف حتى يصبح قفلا كبيرا على باب بيتنا ” إذن البيت هنا لم يعد معنى للأمن ولكنه بات سجنا من نوع ما، هذه مادفع الشاعرة إلى التأسي على بيتها القديم اللين الذي كانت تجيد تحطيم جدرانه كما تقول في قصيدتها” لم يعد لى بيت “، إلا أنها في القصيدة ذاتها تخدعنا لنراها في النهاية تقول: ” مشيت أكثر ومزقت أشياء أخرى، ورغم ذلك أحدثكم الآن من خلف الجدران، وهذا يعني أن الجدران داخل الشاعرة وليست خارجها. سنجد المعنى نفسه يتواتر بصور مختلفة. ففى قصيدتها ” كان هناك سقف ” تقول شوشة: من بعيد بدا بيتنا مطعونا بشيء ما، رأيته عاريا، كان هناك سقف، يضغط بقوة على رأس أبي حتى جعله كتلة معتمة ” ص45، وفي قصيدتها الخروج تقول: تحت سقف بيتنا المشروخ، كان جسدي واضحا كصفحة سوداء ص47، وفي قصيدتها ” سيرة ذاتية لغرفة ضيقة تقول ” عمري إحدى عشرة غرف ضيقة وعدة مبان خشنة ” ص 57، وفي قصيدة الهاوية تقول: غرفتي أصبحت جدارا، ص61،، وتقول في قصيدتها “كلما حدقت في العالم” ” أغلقت الأبواب وأطفأت الأنوار وفي غرفتي الشاحبة وقعت في حفرة.. “، وفي قصيدتها سيكون لقائي عابرا ” تقول: لابيت لى، ولا أحب الوقوف في المنتصف. أتمنى أن أضيع إلى الأبد.. ص83 ويتكرر الأمر في قصيدتها الأخيرة “الكتلة الوحيدة”.
وتبدو هنا فكرة الجدارن متحررة من معناها اللغوي. فالجدار غالبا يمثل نوعا من الحماية، فإذا قلنا الجدار استدعينا جدار البيت بما يحمله من الأمن والسكينة،، واستدعينا جدار الخلية أي وسيلة حمايتها، وبيت المرء ليس هو بيت القصيد ولابيت النحلة ولاهو تبييت النية، من هنا يمكننا أن نتصور فكرة الجدار والبيت والسقف باعتبارها واحدا من معاني الاستلاب، ومصادرة الهواء، أعني هواء الحرية وهو معنى في دلالته الفلسفية يعنى الإرادة الحرة، والإرادة عند ديكارت تعلو على العقل وعلى قوانينه، فالأفكار ذات طابع متناه، لكن الإرادة لامتناهية، وهى في الشعر تعني رفض فكرة التكيف والاندفاع نحو الرغبة في استجلاء البعيد وغير المنظور، المخيف والرعوى، واستكناه الحواس المشتعلة التي هى أداة الإرادة الحرة، فتحرير الإرادة في الشعر يبدأ من تحرير الحواس بينما يبدأ في الفلسفة من تحرير العقل. من هنا تبدو فكرة الطلاق البائن، إذا صح التعبير، بين الشاعرة وبين أية حوائل أو جدران وبين مفهوم الحرية لأنها هنا تبدو معادلا لفكرة الميلاد المتجدد، رغم أن الميلاد نفسه حقيقة واحدة غير قابلة للتكرار، لكن الشاعرة هنا تجعل فكرة التجدد ممكنة. وفي الإجمال فإن كسر جبرية الظواهر الإنسانية يتبدى فى الديوان بشكل كثيف سواء في جزئه الأول ورموزه الليل والظلام والمدينة والموت والوحدة أو في جزئه الثاني ورموزه الغرف والجدران والبيوت، فالإنسان يولد حرا لكن تقاليدا ما تخضع لأسخف أفكارنا عن النظام تجعل سؤال الحرية دائما موضع تكرار، وقد يتحول الإنسان إلى مارد يحاول تحطيم هؤلاء الأغيار الذي يمثلون القيد بالنسبة له لكن الشعر غالبا سينقذنا من محاولات التحطيم تلك. وإذا كانت الشاعرة زيز شوشة قد انتقمت بطريقتها من سالبي حريتها فإنها قدمت لنا من خلال هذا الصراع المرير أجمل مايمكن للمرء أن يصادفه في معركة مصيرية، أقصد معركة صناعة الجمال.
……………
*نقلا عن “الهلال”