غبار السنين

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

أضغاث أحلام

هَا هي تُبدي الشِّكاية والتَّأفف، تُبَرطِم بنبرةٍ مُستفزة، تضرب الحَائط بكفها اليابس، ترمق زوجها  المُتَربعُ فوقَ حاشيةِ اللَّيف، غائبا وسط سُحبِ الدُّخان، يفرج عن غَابةِ الجوز الغائبة بين شفتيهِ، يطلق دفقات الدخان، سُرعان ما يعيدها سيرتها الأولى كرضيعٍ قبضَ ثدي أمه، تقول وعيونها تنضحُ حَبات اللؤلؤ مُرتجفة:” إلى متى الهوان، ألا يحقُّ لي ما يَحقُّ لنسائهم؟!”، في هدوءٍ لَملم أسماله قائما، مدّ يده مُمسكا هراوة فأسه، قَالَ في استسلامٍ:” إنّك تعشقين النّكد، قُلت لك ألف مرة هذا لا يفيد”، كانت خيوط الصَّباح البرتقالية شرعت تتدفقُ في الأفقِ الرّمادي ؛ مُعلنة انتشار الحياة في القرية، مضى ” ابوزيد ” في الدَّربِ مستغفرا، عُرِفَ صغيرا، يَدبُّ خَلفَ أمه، تلك السَّمراء النَّاحِل، ذات الجبين اللامع كالرِّجال، جاءت بهما عائلة ” الحاج حسني غنام” من الصَّعيدِ الجواني، هذا كُلّ ما يُعرَف عنهما، يتمدّد لسانها وينبسط في لكنةٍ جنوبيةٍ قاحلة، تتَربع حول ماجور العجين، تتَعالى في تيهٍ:” بلدنا بني محمد محمود، يمة الجبل “، غَيرَ أنّ سحابة الحزن تعاودها تلفها من جديد، تستحضر مُمسية مُصبحة أحزانا ثِقال تَستنزف مدامعها، وما أكثر دعاء النَّسوة لدموعهن، شبَّ” أبوزيد” في كنفِ الخدمة تابعا كأمهِ، لا يعرفُ غير فأسهِ وأنفار الحَقل، لا يعرف من رفاهيةِ الحياة إلّا انحناءة الظَّهر، وبيت مولاه ” الحَاج حسني”، حينَ تفيضُ الموائد بقاياها، غَالَبَ حسراته ألفَ مرة، أن يضع عنه هذا الإصر لكن أمانيه تتبخّر، له كسوة الصَّيف والشَّتاء، وما يكفيه وأمه من غلةٍ ودقيق، وفي المواسمِ رطلين من اللَّحمِ، انهالت دموع ” عيوشة”  داعية أمام الفرنِ بالنَّارِ الطَّاهرة ؛ وتشفعت بآلِ البيت ؛ أن يُرزق ” أبوزيد ” رزقا واسعا، وألّا يُشِرك أحدا في كدهِ، لكنّ المسكينة لا تعلم من تصاريفِ الغد ما اضمر، مرّت الأيامُ وهذا النَّوازع مشتعلة في صدرها تخفيها حينا، وحينا تبثها، لكن كلام القوم المعسول  يردها عن غوايتها، يمتلئ فم كبيرهم وهو يلقي إليها سحره :” أنتم أهلنا ومننا وعلينا، أنتم لحمنا “، تعودُ ثانيةً تُدندنُ منُتَشية تنَشطُ في خدمتها، مُتغاضية عن أحلامِ الأمسِ، تُلقي حجابا مستورا فوقَ مُضايقات نساء العائلة ممن آمنوا بأنها وابنها من سقطِ المَتاع، نصحه ” أبورواش” الحلَاق أكثر من مرةٍ؛ أن يهرب بجلدهِ، ويشقّ طريقه بعيدا عن حياةِ الأسر، لكنّهُ كَانَ يُقابِلُ كلامه بامتعاضٍ، يَمطَّ بوزه، ويُغمض عينيه، قائلا في تذلّلٍ:” ربّ هنا ربّ هناك، والنَّاس دي لحم كتافي من خيرهم “، عَادَ ذاتَ ظهيرة، ألقى عنهُ فأسه،جَلسَ فوق المصطبة يلتقط بعض أنفَاسهِ، رَفَعَ طرف ثوبه يُجفِّف عرقه المُنساب، نَظَرَ فوجدَ الكآبة قد تمدّدت في البيتِ كظلٍّ ثقيل، اطلقت زوجته سيل السِّباب، تَبرمُ في انتحابٍ متواصل، قائلة:” كيف يشتري الحاج لزوجات أولاده ذهبا ويتجاهلني ؟!”،انتهبَ القلق عقله وهو يفكِرُ في شكواها غير المجديةِ، يتساءل :” إذّ كَيْفَ لزوجة الخادم أن تتساوى وأسيادها ؟!”، مضى أغلب الوقت مُنكمشا في ركنٍ مُظلم، وكُلَّما تقَدّم اللَّيلُ ضَاقت أنفاسه، ومن حولهِ تَحلِّقت الأبالسةُ ؛ تُلقي في روعهِ الأباطيل، تتراقص ذُبالة المصباح في استهتارٍ ؛ تُذكره ضآلته، فجأة تزاحمت على البابِ طرقاتٍ مدوّية، ما إن فَتَحَ حتّى دفعته عصا الحاج في صدرهِ، وبنبرةِ الآمر قَالَ مُحتّدا:” إذا كان الغد، فلا مكان لكما في هذا المكان” تَحسسّ صاحبنا الجدار من هولِ المفاجأة، تخنقهُ العبرة، تعلّقَ الصَّمتُ في الفَضاءِ كابيا، قَبلَ أن تُوقظهُ ” هانم” بصوتها الذّكوري الأجَشّ:” قوم النهار طلع هتتأخر على الشَّغل” هَبَّ من ثباتهِ، شيعها بابتسامةٍ باهتة، يحمد الله، مُستَعيذا من الشَّيطانِ وهَمزه.

**********

                             غبار السِّنين

باللهِ يا طير تعطيني جناحيني

لافرّ وانزل على روحي حبيب عيني

من حبني يوم حبيته سبوعيني

ومن حبني شهر حبيته سنتيني

صابح مسافر تسيبيني

لمين يا عيني

على وقعِ هذه الكلمات الرَّاقصة، وفي ساعةِ الغروب تعوّدت ” بدرية” هدهدة ابنتها” نوال”، سرعان ما تَغيب في وجومٍ طويل، كأنّما تتجرّع كؤوس الشَّقاء غصَصا، في شكايةٍ كئيبة، تَتفلّت قليلا تحمل أنفاسها الملتاعة، بسماتٍ رقراقة تغمر بها فتاتها؛ تسليةً عن محنتها.

مُذ رَحَلَ زوجها ” مدحت” وهي منكبة على أحزانها،تُرسل الدّمعَ السّخين مُوزّعة البال لا تَستسيغ أطايبَ الدّنيا، تهرع كُلّما احتَدّ بها الحَنين، إلى صندوقٍ حوى أثرا للحبيبِ الرّاحل، أساور من فضةٍ، خواتمَ من عقيق، صورا لهما، حيث توطّن الحُبّ ورفّت السّعادة، تطوفُ بتقاطيعِ وجهها الصّبوح، الذي لم يفقد رصيدا من جَمالهِ تحتَ سياطِ الأحزان ابتسامة خافتة، ثم تُعاود مدامعها تَسحّ لهفةً واشتياق، في شهقاتٍ عاتبة، وكَأنَّ الموت قد أرخى جناحيهِ من هذهِ البَائسة المنكوبة في زوجها دونَ العالمين.

لا تَفتأ تتمثّلُ أمامها أحداث تلك الليلة الموعودة، حين هربت ” بدرية ” الغَجرية مع ” مدحت ” بيه ابن الأكابر بعدما شغفتهُ حُبا، افتتنَ بها حتّى سَدّ حُبّها عليهِ مسالِكه، جَمحت بهِ السَّعادة، ليطوف خلفها أفراحها وسهراتها، ما إن يراها حتى يتَبدّى زائغَ البصر مُرتَاعا، لا يمسك نفسه إلّا عن جهدٍ جهيد، يوما بعد يومٍ اطمأنت إليهِ، وانست إلى جوارهِ، تقول منبسطة الأسارير:” لم يكن من أولئك المترفين الذين اتخذوا القرشَ حَبائلَ يتصيّدوا بها البنات، أو كلمات الولَه المعسولة خديعةً كي يقضي مأربه”،  وفي أمسيةٍ صيفيةٍ شَخَصَ أمامها كالمحمومِ، تَضطرِبُ في جَوفهِ جذوة الحُبّ، وبعزيمةِ العُشاق قد فَرّقَ الهّلع نفسه، فاتحها:” هل تقبلين الزَّواجَ مني؟!”، ساعتئذٍ انفكت مفاصلها، لتجدَ نفسها مُلقاة بينَ ذراعيهِ، لا تملك من حِيلةٍ؛ غَير أن تُغامِر في سبيلِ الحُبِّ الصَّادق، أمّا عائلته ومنذ علموا بالحادثِ، كادوا كيدا، ائتمروا عليهِ وتنكّروا له، ولسان حال الوجاهة السَّخيفة يُردِّد:” كَيفَ يرتضي ابن الحَسب هذا العار، فيلطِّخ تاريخ العائلية الرَّفيع في الوحلِ؟”، تدريجيا انتظمت حياتهما بعدما انقشعت الظُّلمة، لكنّ تصاريف الزَّمن كانت تَؤَزّهما أزّا ؛ فكانا أحيانا نهب النّدم وتأنيب الضّمير، بعدما عَجَزَ وهو المُوسِرُ عن إعالتها، فبدت الحياة أمامه كابوسا من الشّظَفِ والخشونةِ، لكن الله يختصّ برحمتهِ من يَشاء، ارسَلَ عليهما يد والدته السّخية بعطاياها سِرا؛ بردا وسلاما، بعد حينٍ رُزِقَ ب” نوال”، حملها في أقماطها ووضعها بينَ يديّ والدته، عَسى أن يجدَ صَدرا حانيا، يغفرَ لهُ ما سلفَ، لكن ماذا تفعل تلكَ العجوز، التي أصبحت امرأة دانية الشيخوخة  تتَنكّبها الأوجاع، لحظتئذٍ أجابتهُ بصوتٍ محطّم :” يا بُنيَّ لا مَفرَّ من المكتوبِ، لابدّ من تطليقِ الغجرية “، عَادَ حزينا تتمدّد على شَفتَيهِ ابتسامة ميتة، قالت مغمومة :” لقدَ اغلقَ عليه بابهِ منكمشًا في زاويةٍ مظلمة، تنطفئ نضارته كُلّ ساعةٍ حتى لاقى ربه”.

وقفت في النّافذةِ، تمرِّرُ يدها فوقَ وجهها الطباشيري الباهت، مُستسلمة لضوءِ الشَّمس الهزيل، تشيّع ” نوال” التي اتخذت وجهتها للجامعةِ، تقول في انكسارٍ :” ما جريرة هذه البَائسة مما جرى ؟!”، ثم رفعت شيئا بين يديها، قرّبته من فمها تلثمهُ في تَشوّقٍ، لتَغيبَ ثانيةً بينَ حَشايا الذِّكرى

*********

                       طَريق السَّلامة

ما إِن تَتَربّع شمس الصَّباح الفاترة، مُرتسمة فوق حِيطانِ الدَّرب ؛ حتّى يتخذَ وجهته ناحيةِ الجسرِ، تبدأ الحكاية بافتعال شِجَارٍ مع أخيهِ ” فتوح ” ليفر بعدها مولِّيا خائفا يترقّب من ” عرجون ” أمه اللاسع، حَافيا، عريانا لا يسترَ جلده الرّقيق المصطبغ بزرقةِ مياه التِّرعة، سوى جلبابه البالي، لحظات ويَسندَ ظهره إلى جِذعِ ” النبَّقة” العتيقة المجاورة للمُصلَّى، مُتنَمِّرا كصقرٍ يُراقِب حركة الطّريق التُّرابي الممهّد خاليا من كُلِّ شيء، سوى شجيرات السّنط والصّفصاف، التي احنت هَاماتنا تحت هجيرِ الظّهيرة الحارق.

ما إن تَقترب عربة حتّى يَهبّ منتصبا من فورهِ، وقد اكتسى وجهه بجديةٍ مُفاجئة، يَنطَلق لسانه في تباهي:” أهلا يا مازدا حصيرة”، تبتعد عنه فلا يَتبقّى من أثرها الصّاخب، غَير غبار الطّريق المُتَلوّي، تتجلى أحلامه ترعى أمامه في براحٍ  شاسع، تَلتَمع عيناهُ امتنانا وهو كاَمنٌ في مكانهِ، يظلّ هكذا حتّى  يتَفرّق دمّ المغيب في الأُفقِ المحتقن، لتُعانِق شمس النّهار التلال البعيدة، وتدفن رأسها في مياه بحر يوسف في بياتٍ مؤقّت، يَضحَك الشيخ ” مغاوري ” ملئ شدقيهِ، حينَ يتبدّى ” صابر” كحبةِ الذُّرة فَوقَ المقلاةِ، هَائجا لا يثبت على جنبٍ، تلتمع عيناه اللوزتيان وهو يحوقِلُ مذهولا :” اثبت يا ولد حَتّى لا يطيش عقلك، شيطان رجيم، خبير بجميع الماركات، هنيئا لكِ يا نفيسة بخلفتك”، يتحلّب ريقه حين يتحسّس  هيكل عربة نقل القطن، يُرابط أمام منزلِ المعلم ” عزيز”، مُتَطوعِا يَحملُ صينية الشّاي، كثيرا ما يَشبّ إلى قُمرةِ السّائق؛ يلتقط علبة السّجائر أو دفتر الأوزان، تَشعّ السّعادة في  تقاطيع وجهه الذي لا يخلو من طفولةٍ، يتيه فيّ عوالمٍ من النّشوةِ مأخوذًا بالجمالِ، يضرم صوته بحرارةِ الاندفاعِ، يزفر من صدرهِ زفرة عميقة، يبدو أمامه خيالا زاهيا تنعقد خيوطه، كما انعقدت خيوط الضباب حول الحقول، ينتفض على إثرِها كمن مسّه طائفٌ من الشّيطانِ، أحلامه ألذّ من الشّهدِ حتّى ساعة نومهِ، يبدأ في تَصايحه، يرَفس الهواء برجلهِ يُردِّدُ مُنفعِلا :” عجلة ورا يا أسطى تعالى كمان.. هب”، يسقط لحظتئذٍ جَسدا هَامِدا من فوقِ الفرنِ ؛ لا تفيقه إلّا  لسعة ” عرجون” النَّخيل في يدِ أمه، التي خَابَ ظنّها في ابنها، كان أكبر همها أن تتخذهُ سندا، بعد إذّ تَنكّرتها الأيام، وأدارَ لها أهل زوجها الظهور، تركوها وصغارها يتسولوا اللقمة، تعتليه في لحظاتِ الشّجاعة، يقف في مواجهتها مُتلألأ الوجه وقد أشرق، وفي نبرةِ الواثق يقول :” غدا نلعب بالفلوس لعب، سوفَ اُسافِر لمصر مع الأسطى “مدكور”، دا قاللي أنت حريف سواقة “، ثم يذوب في الدّربِ، على ما يبدو أن نبوءة ” الحريف” بدأت تَتحَقّق، مع موسمِ القطن، تزدحم القرية بالشّاحناتِ، استقبلَ ” صابر ” الأسطى ” مدكور” بحرارةِ التّرحَابِ بعد طولِ اشتياق، فاتحه في أمرِ السّفر، تناوشته جُرأة مُحبّبة، شخصّ ببصرهِ مُرتَاعا يُردِّدُ مفتونا :” مصر “، قبل أن ينفتلَ مُختَالا، في عُجالةٍ جَمَعَ خِرقه في منديلٍ، زَمجرت مُحركات الشّاحنات في غضبٍ ؛ تنفثَ من بطنها دخانها الكثيف، اعتلى قُمرةَ القيادة إلى جوارِ معلمه، اخَرجَ ذراعه من النّافذةِ مُلوِّحا في اغتباطٍ للصِّغار الذين تجمّعوا تنزّ عيونهم بشهوةِ الرّحيل، لتُودِّع القرية ” الحريف” إلى أجلٍ غير مسمى.

 

مقالات من نفس القسم