“غبار” الأحلام والندم.. هجاء شاعري لكوارث القرن العشرين

رواية غبار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

    إيمان علي

         قرأتُ هذه الرواية – على ليلتين متتاليتين – بكثير من الحماسة والتماهي. فالمؤلفة قضتْ جزءا من طفولتها في السعودية، البلد الذي ولدتُ فيه وعشتُ طفولتي وشبابي. وبينما تسرد حياة بطلها الضائع الذي قضى هو الآخر قسطا من طفولته في الرياض فترة الثمانينيات؛ جاءتْ على ذكر تفاصيل كنتُ بالطبع قد ألفتُ الكثير منها واختبرتها. أحمل لبعضها الأسى ويشدّني للكثير منها الحنين. لكنّ الرواية تجاوزتْ هذا الوعد. بكل رهافة وذكاء، ضاعفت قتامتها لتحكي عن مآسي الشعوب جميعها.

      قبل اكتشاف ذلك، كنتُ أتابع القراءة بشغف البحث في الأسئلة الوجودية التي لطالما راودتْ أولئك الذين اختبروا في وقت مبكّر الغربة والاغتراب وانشطار الهوية وتشكّلها. وعلى ذلك تجهّزتُ للتعرّف على سياق التشابك الذي يمكن أن يُعقد بين السيرة الذاتية وبين السياق العام. بين همّ شخصي كالذي يمكن أن يخصّ تعقيدات أوضاع الأجانب في السعودية والتباس الذكريات، وبين الهموم العامة للمنطقة. وهو ما تُصيبه المؤلفة منذ السطور الأولى لروايتها التي تتّخذ عنوانا دالا هو “غبار”. لكنّها تفاجئ قارئها بإحالات موازية تجوب بها العالم فيما يزيد – بقليل – عن مائة وستّين صفحة: من الرياض إلى برلين، فعمّان، إلى أفغانستان وحتى القدس. “مدن بلا عودة”. لترسم سفنيا لايبر، الكاتبة الألمانية – مواليد منتصف السبعينيات – خريطة كاملة لكوارث وانهيارات الشرق الأوسط والعالم.

          هذه رواية عن التشتت والتشرذم، وإحساس الضياع والوحدة و”عدم الالتئام” مع المكان والزمان. هجائية أو عريضة ذمّ طويلة أو بيان حالة مستعصية لقرن كامل مضى. تُسمّيها المؤلفة على لسان بطلها “ألفية مُنهكة” و”قرن مُنهك”.

       “غبار” صدرت حديثا عن مشروع “كلمة” بمركز أبو ظبي للغة العربية، في ترجمة مُحترفة بتوقيع المترجم المصري سمير جريس، وفيها نتعثّر – على امتداد ستة وثلاثين فصلا – فيما يمكن اعتباره “بَصقة” ألماني يتنكّر لانتصارات بلاده ويذكّرها بماضيها الوحشي مع العنصرية والفصل وجنون العظمة مع مسحة أسى ورثاء. ألماني يراقب بشاعريّة وشجن وحشيّة الأفراد والجماعات ونماذجهم الكارتونية المتهافتة الباعثة على السخرية والشفقة في آن. يستعرض شعور الأقليات حول العالم. يقف مكان الآخر، ويتقمّص دوره ومشاعره: العدو، الغريم، النساء (الأمّ)، اليهودي، العامل اليمني، الراعي الأشعث، رجل بولندي، وغيرهم. بينما يُحال الأمراء والأثرياء والجنود بالبنادق والمحتلّ الغازي هنا وهناك و”حرّاس السياحة الدينية” إلى صور هزلية غير مبالية، تنقلها سفنيا في جمل قصيرة رشيقة، وأحيانا مبتورة، تفي بالخواء، الصلافة والاستعلاء.

  يُراجع بطل “غبار” الذي يتجوّل في ماضيه بضمير المتكلم طوال الرواية، وأحيانا يوجّه خطابا لنفسه كأنّه مُنقسم إلى شخصين، وهذا جائز في جزء ما؛ إذا ما عرفنا أن البطل “يوناس بلاوم” أدمن تعاطي المخدرات. يُراجع الميثولوجيات الدينية: المسيحية والإسلامية واليهودية على السواء، ليهدم أيّ باعث للإيمان أو واعز للانتماء، حتى ولو للعائلة أو الأسرة أو “الأجداد”.

      ولمفردة الأجداد هُنا – ترد نصّا في الرواية – تلميحات ذات دلالة. الأسلاف الذين لهثوا وراء أطماعهم الإمبريالية وأورثوا العالم كلّ هذا الخراب. يحكي بلاوم المآسي العامة هذه من منظور مأساته الشخصية، ومأساة عائلته وأسرته. الأبّ والأمّ وأخويْه؛ ضحايا الأحلام والتطلّع، إذا جاز التعبير.

   رغم حالة العدمية والاستسلام وهو يسترجع الحكاية الشخصية والهمّ الذاتي؛ إلا أنّ رغبة الهدم لدى الطبيب الألماني الشاب العائد إلى الشرق الأوسط في الألفية الثانية، تمتزج بسبب مثاليته برغبة محمومة في إعادة البناء.

   تقبع هنا رمزية المأساة. فهو ما زال يُحاول. أو على الأقل، ما تزال لديه الرغبة في أن يحكي حكايته. يظلّ قابضا على الماضي ويغزو غرور العالم ولهاثه الصارخ نحو كلّ مادي وجديد وعصري غير متّسق أو نبيل؛ ولا يحمل من سلاح سوى صورة فوتوغرافية عائلية مهترأة في جيب بنطاله، وابتسامة.

   هكذا.. شخوص “غبار”، تائهون، “بروح معلّبة”. في رحلة دونكيشوتية، أو شهرزادية. شهرزاد الهاربة بالحكاية. فبطل “غبار” الرجل، يتماهى مع أمّه أوّلا التي اعتادت قصّ الحكايات لأطفالها، وتحريف مشاهد “ألف ليلة وليلة” الفاضحة لتتناسب وعقلية الصغار. ثم ثانيا مع أخته سميون، المفقودة مرّتين: عندما تاهت لأيام في الرياض، وحين عودتها باضطراب نفسيّ مجهول. نتتبّع الحكاية، يُحيطها الغموض في بداية الرواية حول طبيعة مأساة الطفلة التي تُذْكر طيلة العمل بالمذكّر، ثم ما نلبث نكتشف رويدا رويدا أن قضيّتها في “الهويّة الجنسية”. كيف كانت في ذلك الوقت مسألة مُبهمة، مُربِكة للأمّ والأسرة مهما كان أفرادها مثقفين أو في وظائف مرموقة. كانت مسألة الهوية الجنسية ولا تزال أمرا دافعا للاخفاء والاختباء والتعلّق السريع بالخرافات. قضية لم تكن في ثمانينيات القرن العشرين قد حُمّلت بعد بما تحمله اليوم من رصيد الصوابية والحقوق المُعلنة وتأشيرات اللجوء.

      تُلضم الهويّة الجنسية هنا برهافة مع أسئلة هوية الإنسان منذ هبط الأرض.

     يتذكّر بلاوم كل هذا، وكل شيء، ولا يريد أن ينسى أيّ شيء. وهو في مُحاولته – يجد نفسه في خضمّها قدريا – استرجاع أو تأكيد امتلاك حكايته، مدينته، نفسه، هويّته، أخويْه؛ يُقاوم متخفّفا قدر الإمكان “وكأنه فوق الأشياء”، وهو يُحاول زعزعة “حجر في العنق”.

      يأتي على هذا التخفّف بوعي تارة، وبغير وعي تارة أخرى. يُقرّر ترك المخدرات والاكتفاء بالحبوب المهدئة حتى يقوى على التحمّل. يستعين بالانهيارات الصغيرة من أجل الشفاء من الانهيارات الكبيرة. يُعيد قراءة تاريخ الأخوّة والإنسانية، والصداقة والحبّ، والخير والشرّ، والقدرية والاختيار، عبر إعادة التمثيل والإحالات: منذ قصّة الخلق.. قابيل وهابيل.. خروج آدم وحوّاء من الجنة ونزولهما الأرض وبعدها تجسّدَ الفساد.. أو “قصة السقوط” كما اسمتها سفنيا داخل الرواية. وغير ذلك من القَصص الديني الإسلامي والمسيحي. في مُقابل الإعلاء من الإحالات الأدبية لقصص الأطفال وأعمال ألمانية رائدة – الكاتبة درستْ علم الأدب وتاريخ الفنّ –  تحكي عن الوعد بالإنقاذ أو الدفع بالتغيير.

      “غبار” حكاية يوناس بلاوم وكل يوناس بلاوم. الإنسان المُحطّم. الطفل القابع في لاوعي أغلبنا. الفرد المهزوم الذي لا يُقاوم رغبته في “أن يحكي عن الماضي” لعله يفهم أو يثأر: “مثل كل الذين يتحطّمون بسبب أمتعتهم،.. تحطّمتُ بسبب أمتعة الحب. ربما لهذا أتخبّط. كي ألعب اللعبة حتى النهاية..”.

   ألمانيّ الألفية الجديدة، الذي أرهقه طول السفر والبحث عن معنى لحياة بدون جنون الرأسمالية أو شراهة الحروب. يمضغ ذرّات التراب مع الولائم وينفث غبارا يُعيق الرؤية ويحبس الأنفاس.

   الغبارٌ، ذلك الرمز الصريح، هو رفيق الرحلة. لازم بطلنا أينما حلّ، في كل البلاد التي تنقّل إليها “برلين أيضا مشيّدة على الرمال”. ويقف في النهاية مُستقبلا، بلا أيّ تفاؤل أو انقطاع عن تساؤلاته ومراجعاته لقناعاته في نفس الوقت، الألفية الجديدة، متأمّلا فكرته عن “الابتسامة كدرع لمواجهة العالم”.

     بين حكاية سميون، الصبيّ البنت، المأساة الشخصية، وبين أسئلة عن جدوى الطب والعلم وأبحاث الشيخوخة، وحكاية طفل آخر تحيلنا إلى “متلازمة بنجامين بوطون” – إن صحّ التعبير- تمضي المؤلفة على هذا النحو، فيما يبدو أنها اتخمت عملها الروائي الذي نال وقت صدوره في ألمانيا عام 2018 حفاوة نقدية واسعة وحصل على جوائز عدّة، بالعديد من الموضوعات والقضايا. لكنّ النَفَسَ الحكائي الذي يستعيد الماضي بأفعال مضارعة يبثّ الحيوية والسلاسة في النصّ، فضلا عن الروح الأخّاذة الطافية على الوحل التي بعثتها في بطلها – وليس خافيا ما لهذا النمط من الشخصيات الروائية من جاذبية – كانا كفيلين بتقديم عمل رشيق ومتوازن لا يبخل بالمتعة.

     والأهمّ أنها تكتب عن كل هذا بلا كليشيهات أو أسْر للاستشراقية. فمن المثير اليوم أن نقرأ كتابا غربيا عن الشرق الأوسط بلا أفكار مُعلّبة مُكرّرة عن الحجاب والحريّات والبترول وما إلى ذلك. بل تختفي “الوهابيّة”، كمفردة وكتنظير من الرواية. صحيح هناك إشارات لكل ذلك، واستهجان واضح لتلك الأراضي بعين ألمانية ترى فيها “أرض الموت”؛ لكن الراوي والكاتبة اختارا التلميح، وحتى إن أتينا على قراءة مفردة مثل “الذهب الأسود” أو حتى البترول، فستقترن حتما بأكثر الأوصاف ندرة في مجمل ما قرأتُه إلى الآن من أدبيّات التأريخ لاكتشاف البترول في الجزيرة العربية. ستكتب مثلا سفنيا على لسان بطلها “البترول عصارة المرارة السوداء.. وبها ستنمو مدن بأكملها تطاول السماء كمثل بذرة حقل حصل على أكثر مما يحتاج إليه من السماد.”.

  على هذه الخفّة اللمّاحة يأتي السرد في هذه الرواية. مثالٌ آخر عندما تقرأ عبارة “إمبريالية دون حروب”، في إشارة إلى التوسّع السعودي في مشروعات الصحّة والتعليم المجانية لكن يظل التقدّم واستقدام الأيدي الخبيرة من الخارج مجرّد “ديكور”. طبعا نتكلّم عن سعودية الثمانينيات.

        يلفت النظر في رواية “غبار”، مهارة الكاتبة في وصف عوالم الرجال ومجالسهم في المملكة السعودية. وأسرار تصنيع الخمور للأجانب في أحواض الغسيل والحمامات ومعامل أطبّاء الأسنان. وامتلاكها ناصية الحكي بعين وروح ذَكرية. تمضي بيوناس بطلها، بذاكرة ووعي طفل “يُقيم علاقة مع كل شيء”، ويعيش الحياة “بالعمل والانتظار”، “مثل ضيف”.

        بسهولة، يمكن التعلّق ببطل سفنيا في رحلته المثالية و”مُثُله العُليا”. “مُذنبا على كل حال”. قابضا على الريح. “راسما الأحداث الغائبة”. مُستعيدا الغائبين. ماضيا في “تخيّلاته”. مُدينا “العبث” و”اللاشيء”. مُتأمّلا العلاقات والجنس والحبّ. أشياء يدعها تستمتع به وتفعل هي به ما تفعل باستسلام تام، ثم يدعها تذهب وتنسلت من أحلامه وسيطرته. يظلّ يمضي مُصادفا أسطحا “مُتربة”، ووجوها “مُغبّرة”، وبشرا “منزوعين من سياقهم”. مُولعا بحفظ تفاصيل الطبيعة والرمال من حوله. ببراءة مُواصلا الهدم والمراجعة وعزل نفسه عن ملهاة الشعوب بين “ألعاب” الدين والسياسة والاقتصاد والحروب. وأخيرا، مُحاولا أن يحمي نفسه من “التلوّث” دون أيّ  وَعْد بترك “الأحلام” أو الكفّ عن “الندم”.

            

مقالات من نفس القسم