غاستون باشلار : شعرية الأجنحة(1/5)

غاستون بلاشار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ترجمة: سعيد بوخليط

“ستتمكن أجنحة غير قابلة للإدراك من التَّحليق نحو أبعد مسافة ممكنة. لكنها عذراء تماما ربما أضحت مجرد رسول” (غابرييل دانونزيو، المدينة الميتة، المشهد الأول، الفصل الثالث).

لايشتغل مسار التأمل الشارد، على منوال الصياغة المفهومية، بحيث يشكِّل مع الصور موضوعات عدة مشابهة، لوحة ذات عناصر مركَّبة تبعا لمنهجية فرانسيس غالتون التي تمزج ضمن نفس اللوحة الفوتوغرافية الصور الشخصية لعائلة بأكملها. لذلكَ، لن نختبر هذا الانجذاب المفاجئ نحو الطائر سواء الذي يحلق أو يسبح، بمجرد التطلع نحو مشاهدة الطيور الأكثر تنوعا في السماء وعلى الماء.

تظهِر فورا، حركة التحليق، وفق تجريد صاعق، صورة ديناميكية رائعة، مكتملة، متكاملة. مبرِّر هذه السرعة والكمال، لأنّها صورة ديناميكيا جميلة. يتخلص تجريد الجميل، من كل سجالات الفلاسفة.

بكيفية عامة، سجالات من هذا القبيل، جوفاء بكيفية غريبة تبعا لجميع الحالات التي يكون خلالها النشاط الروحي مبدعا، سواء ماتعلق بنشاط التجريد العقلاني في الرياضيات وكذا النشاط الجمالي الذي ينحو سريعا جدا وجهة تجريد مرتكزات الجمال الأساسي. سنرى حقا، عندما نضفي أهمية أكثر على الخيال، تجليا لقضايا نفسية خاطئة.

يتيح لنا التجريد، الحيوي جدا، الذي ينجزه الخيال المادي والديناميكي، إمكانية أن نعيش، رغم تعدد الأشكال والحركات، في حضن مادة منتقاة وباقتفاء حماسي لحركة مختارة، تتخلص أيضا من تلك الأبحاث الاستدلالية. يبدو أن الانخراط في فكرة الجميل تحدِّد اتجاها لصور لاتشبه قط اتجاها آخر يتحسس صياغة المفاهيم.

مع ذلك، اهتدينا حقا نتيجة التجريد نحو تحليق لم تتم الاستفاضة بخصوصه سوى قليلا، نستوحيه بين طيات تجربة ليلية رتيبة؛تحليق، دون صور شكلية، تركَّز كليا ضمن إطار إحساس سعيد بالرشاقة. مادام هذا التحليق في ذاته، المجرد يقدم محورا قصد تجميع صور وَضَح النَّهار الملوَّنة والمتعددة، فإنه بذلك يطرح قضية أساسية :كيف تتجمَّل صورة، بحيث تحظى بجمال أولي مع إشارة مباشرة، وكذا تجريد مدهش؟

لاينبغي لهذه الزينَة، من خلال أهميتها الحاسمة، أن تكون حِمْلا زائدا لجماليات متعددة :قد يصير الاندهاش، بعد ذلك، إطنابا. لكن إبان اللحظة التي يعيش الكائن المندهش ذهوله، يعمل على تجريد عالم بأكمله لصالح شعاع ناري، وكذا حركة تغرِّد.

لكن لنتجاوز العموميات ونطرح القضية ضمن نطاق محدَّد جدا بخصوص شعرية التحليق. نضع كأطروحة، بأنه إذا شَكَّلت الطيور مناسبة انطلاقة كبيرة لخيالنا، فليس نتيجة ألوانها المتلألئة. تكمن أصالة جمال الطائر، في تحليقه. بالنسبة للخيال الديناميكي، التحليق جمال أولي. فلا نرى جمال ريش الطائر سوى عندما يحط فوق الأرض، حينما يتوقف على أن يبقى طائرا بالنسبة للتأمل الشارد. بوسعنا تأكيد وجود جدلية متخيَّلة تفصل بين التحليق واللون، الحركة والزينة. لايمكننا الحصول على كل شيء :أن تكون خلال الآن نفسه، قُبَّرة وطاووسا.

الطاووس أرضي للغاية. إنّه متحف معدني. نحتاج قصد الذهاب غاية منتهى مفارقتنا، إلى إظهار، ضرورة أن يخلق التحليق لونه الخاص، لحظة سيادة الخيال. سندرك، حينئذ بأن الطائر المتخيَّل، المحلِّق عبر أحلامنا ومع القصائد الصادقة، لن يكون ألوانا مُبَرْقَشة(1). في أغلب الأحيان، أزرق أو أسود :يصعد أو ينحدر.

ترتعش الألوان المتعددة، هي تلوُّنات لحركات ترفرف. لن نجدها في التأملات الشاردة القوية التي تواصل أحلاما أساسية. بل تتجلى الفراشة مع التأملات الشاردة المرِحة، بين طيات قصائد، تبحث في الطبيعة عن مناسبات جديرة بالتصوير. الفراشة حادث عَرَضِي سخيف، بالنسبة لعالم الأحلام الحقيقي، حيث التحليق حركة موحَّدة ومنتظمة، إنها لاتحلق، بل ترفرف. أجنحتها الجميلة جدا، والكبيرة للغاية، تمنعها من التحليق.

حين التركيز، بالتالي، حول التقييم الحُلُمي التي أبرزناها في الفصل السابق، سنلاحظ بأن الطائر وحده، قياسا لباقي الكائنات المحلِّقة، يواصل تحقيق الصورة، والتي من وجهة نظر إنسانية، تُنعت ربما بالصورة الأولى، تلك التي نعيشها أثناء النوم العميق لشبابنا السعيد. لقد تجلى العالم المرئي بغية الكشف عن جماليات النوم.

سنقدم فورا حالة، بدت معها المبالغة في تقييم صورة الطائر، فارتبط بفظاظة ورعونة، المثالي والواقعي، الحلم والحقيقة. بعد ذلك، نتذوق بشكل أفضل الصور الشعرية التي تضم بشكل صحيح صور الحركة والشكل. سنطبق إذن مرة أخرى، مبدءا نقديا شرحناه باستمرار :سيبدو الأمر مضحكا، حين السعي إلى توضيح صورة شعرية، أكثر مما ينبغي. في المقابل، انتزاع فقط شيء من التوضيح عن صورة مبتذلة ومثيرة للسخرية، يبعث لديكَ انفعالا شعريا. هكذا، حين قراءة توسنيل ينتابنا غالبا انطباع مفاده أننا عن حدود التحمس وكذا المثير للسخرية :ننتقل، عبر الصفحات، من حلم شاعر إلى سرد قنَّاص. خليط مدهش جدا، لم يمنع توسنيل كي يكشف عن معرفته الكبيرة بالطيور. بهذا الخصوص، أعاد له الأخوان تارو تقديره الحقيقي، في تقديمهما لكتاب جاك دولامان حول شدو الطيور.

منذ الصفحات الأولى لكتاب ألفونس توسنيل المعنون ب :عالم الطيور. نقتنع بأن التاريخ الطبيعي للطيور، قد حظي باهتمام مركزي بالنسبة لتاريخ طبيعي للتأمل الشارد الإنساني. بالفعل، استدعى توسنيل فورا التجربة الليلية :”حينما كنتم في سن العشرين، فقد انتابكم أحيانا إحساس لحظات النوم بأن أجسادكم أضحت خفيفة تغادر الأرض محلِّقة نحو الفضاء، تقاوم قانون الجاذبية بواسطة قوى غير مرئية”. بسرعة، وبمقتضى لانهائية عذوبة التحليق الحُلُمي، يعمل توسنيل على تثمين ذكرى الليل:”لقد شَكَّل الأمر وحيا إلهيا، وتذوقا لملذات حياة عَبِقة”.

حياة العَبَق، حياة مستقبلية تنتظرنا عندما نستعيد حالتنا الهوائية الخالصة، تبعا لإيقاعات حقيقية حول المابعدي على منوال أفق شارل فورييه. لذلك، يمثل التحليق في الوقت نفسه، ذكرى لأحلامنا ثم تشوفا لجزاء إلهي. أيضا”نغبط مصير الطائر فنمنح أجنحة إلى الذي نحبه، مادمنا نحس غريزيا، استمتاع أجسادنا في خضم سياق تلك السعادة، بالقدرة على عبور الفضاء مثلما يفعل الطائر” . كما يتضح، صاغ التحليل النفسي للتحليق، مثالا أعلى، سموا تحقق سلفا خلال تجربة للحلم.

يصبح الإنسان، باقتفائه هذا المثال، مافوق/ طائر، يقتحم بعيدا عن المحيط الهوائي، فضاءات أخرى لانهائية بين العوالم، مأخوذا وجهة موطنه الفعلي، داخل موطنه الحقيقي، وطن هوائي، بفضل قوى”معَطَّرة الرائحة”. ”الجناح، خاصية جوهرية لقابلية التبخر، صبغة مثالية للكمال لدى مختلف الكائنات تقريبا. تتخلص روحنا، من الغطاء الجسدي الماسِكِ بها في الحياة السفلى، تتبدَّى من خلال جسد بهيّ أكثر خفة، وسرعة من الذي يملكه الطائر؟”.

هل بوسعنا دون وقاحة، التقريب بين أفلاطون و توسنيل؟في خطاب فيدرا(ترجمة ماريو مونيي، ص 89)، جراء حضور نفس رمز تعالي الأجنحة :”تكمن طبيعيا قوة الجناح، في القدرة على الارتقاء ثم السعي بما يثقل الكاهل نحو الأعالي حيث يسكن أصل الآلهة. تعتبر الأجنحة، من بين مختلف الأشياء المتاخمة للجسد، الأكثر مشاركة للروحي”. تمنح هذه المادية الهوائية بمشاركتها تلك، معنى ملموسا جدا إلى النظرية المجردة للمشاركة الأفلاطونية. ما إن يرتقي إحساس داخل القلب الإنساني، حتى يستدعي الخيال السماء والطائر. لذلك، دبَّج توسنيل، عبارة جميلة :”كلما عشقتُ إلا ووهبتُ أجنحة”(ص 3)(2).

يمكننا تبيُّن بسهولة الصفات التي يحصل عليها الطائر جراء مقاربة توسنيل النفسية للتحليق، لم يتم الوقوف عليها من خلال نشاط بَصَري. يقول :”يعكس بالأحرى، الطائر اليقظ، الرشيق، الخفيف، صورا عزيزة، فتيَّة، عذبة وخالصة”. بالفعل، تعكس هذه الصور الأخيرة أولى الحقائق النفسية. لأننا نعيش بالخيال تحليقا سعيدا، يمنحنا انطباعا بالفتوة، ثم لأنَّ التحليق الحُلُمي غالبا – على غير هدى دروس التحليل النفسي الكلاسيكي- شهوة حسية خالصة، لذلك نمنح العديد من الصفات المعنوية للطائر الذي يعبر السماء خلال يومياتنا. بوسعنا هنا، تأمل نموذج واضح للغاية تتعلق برمز، أو تحديدا قوة رمزية، موجودة قبل الصور.

داخل اللاوعي، تبادلت سلفا قيمتها الرمزية، مختلف انطباعات الخفة، الحيوية، الشباب، النقاء، الليونة. لم يعمل الجناح، بعد ذلك، سوى إعطاء اسم للرمز، ثم يأتي الطائر في نهاية الأمر كي يمنح الرمز وجودا.

تظهر جيدا، الطريقة التي يعتقد بواسطتها توسنيل إمكانية أن يعيش ثانية الفعل المبدع، بأنّ المادة الهوائية وكذا الحركة الحرة بمثابة عناوين منتجة لصورة الطائر. يمكننا القول، يتحقق لحظة سيادة خيال مبدع هوائي، جسد الطائر من خلال الجمال الذي يحيط به، وتتبلور حياته جراء الحركة التي تنتشله.

الخيال مادي وديناميكي في الوقت ذاته، لذلك وبالمطلق لن يتشيَّأ. لايرسم قط، يبخِّس القيم المجردة.

يوحِّد خيال توسنيل مباشرة طُهر الهواء بالحركة المجنَّحَة(ص 51) :”لقد خُلِق الطائر، كي يحيا داخل العنصر الأكثر حِذقا ونقاء، لذلك يعتبر حتما من بين مختلف قوالب الإبداع الأخيرة، الأكثر استقالة وروعة”.

أيضا، بين صفحات رواية ”فيوليت”، كتبت مارسلين فالمور Valmore (3) :”أيّها الطائر!وقد غدوتَ هناك بتحليقكَ بعيدا جدا، فماذا كنتَ قبل تحولكَ إلى هذه الأغنيات الحرة المتناثرة فوق رؤوسنا؟ ربما، تشظى أخيرا، فكر مُسْتَعْبد؛خطاب إلهي يحتويه العنف داخل روح، فامتلكتَ أجنحة مثلما استعدتُ أجنحتي”.

حتما ستوجَّه إلينا اعتراضات، توضح بأن تأكيدات من هذا القبيل لاتلائم سوى تأملات شاردة عبثية. لكننا نجيب دائما، بأن هذه التأملات الشاردة طبيعية؛تنتعش طبعا لدى روح حالمة، بمعنى روح تتواصل عندها على امتداد اليوم تجارب الليل.

ليس توسنيل شاعرا، لسوء الحظ :يعيش حقا استمرارية الحلم الليلي غاية التأمل الشارد اليقظ، لكنه لم يختبر الاستمرارية التي توحِّد التأمل الشارد بالقصيدة. لم تشكِّل بالنسبة إليه، فتوة الطائر الدائمة، غير انطباع مضطرب بينما يجسِّد تقييما مذهلا؛لأنه لم يتعقب هذا الطائر الجميل بحكايات. طائر، يجعلنا ننسى الزمان، ينتزعنا من رحلات الأرض الخَطِّية كي يقودنا، مثلما يقول جون لوسكور، عبر سفر ثابت لا ترنّ خلاله الساعات قط، ولا يؤثر السن أبدا. مع ذلك، ينبغي الانتباه إلى إدراك توسنيل القنّاص ومحنِّط الحيوانات، عدم قابلية طيور الحلم للموت. بحيث لم يضعنا أيّ حلم طبيعي حيال موت طائر محلِّق.

تعكس الطيور المدلَّلَة، قصة أخرى؛تموت سريعا نتيجة حتمية يعرفها جيدا أهل الاختصاص النفسي. لايسقط قط مع حلم ديناميكي، من السماء عموديا، طائر صعقته الموت، فلم ينته أبدا تحليق حُلُمي بسقوط عمودي. التحليق الحُلُمي ظاهرة غبطة نائمة، متجردا عن أيّ تراجيدية. بحيث، لا نحلِّق في الحلم سوى إذا كنا سعداء. أيضا، كم هي صادقة الإشارة الواردة عند بيير إيمانويل في ”الميت الشاب، رسائل، 1942” :

لاتوجد مشقة أمام الطائر

ولا تحليقات قاتمة.

الطائر قوة مثيرة توقظ مجمل الطبيعة. بوسعنا أن نقرأ في كتاب نويلز”هيمنة الكونتيسة”، هذه الصفحة التي يمكننا عنونتها :”عمودية الربيع بفضل الطائر”(ص 267) :”عاد الربيع. غمر الأرض كلها، صغيرا، خفيفا، أخضر، منتصبا. سنسمع وسط الغابات صرخة طائر متواصلة، صرخة ربيع لاذع، ساطع. يبدو هذا الطائر، كأن حنجرته الحانقة، احتوت ورقة صغيرة جديدة لذيذة من شجرة التربنتين. يبعث صرخته دون توقف، كما لو يتوخى تحفيز، تلك الورود الضعيفة، المحبوسة في الأرض. تخاطب صرخته أزهار الزنبق، النرجس، والخزامى، قائلة :”هيَّا، اصطدام مرة أخرى، مجهود أكثر، اخترقوا بشكل أفضل الأرض الصلبة، وانقضوا، فأجواء الهواء قريبا:”أيتها السماء، تعالي، فأنا طائركِ”. أيضا، وعلى نحو أكثر عذوبة، نصادف هذه الملاحظة(ص 265) :”بمجرد رؤيتكَ تحيا، يهدأ الفكر؛ أرواح صاعدة، قوم ينجذب صوب القمة، حيث الأجنحة!الطيور !ثم نبل الهواء”.

لقد قدم عمل فيكتور هيغو العديد من الصور جعلت الطائر روحا :

أعشق. آه يارياح، طاردي الشتاء.

السهول متعطِّرة.

يبدو أنَّ الطائر، وسط غابات أشير،

بمثابة روح بين الأغصان.

كما لو أنِّي أسبح في هواء يستدعيني.

وكما لو أنِّي صاحب روح.

نسجها ريش طائر.

 (نهاية الشيطان. سِفر نشيد الأنشاد).

ربما، المقاطع الشعرية التالية لجون تاريدو (3)، توضح بكيفية أكثر كمالا التماثل الحُلُمي بين صورة الطائر وكذا قوة التحليق الباطنية :

يحيطني حلم مدهش

أسير وأنا أبعثُ طيورا،

كل ماألمسه يكمن داخلي

ثم خسرتُ مختلف الحدود.

…………………………………………….

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes. Essai sur l imagination du mouvement(1943). pp :78- 85.

(1) يمثل طائر الرفراف، بألوانه الساطعة، استثناء. فهل امتلك مختلف انعكاسات النهر؟

(2)فرانسيس جيمس :أسطورة الجناح أو ماري إليزابيث(ص 77). حينما تسمع إليزابيث العندليب يشدو، تدرك بأن الطائر”في حاجة لانهائية كي يحلق ويعشق أبعد من الأجنحة”. الجناح مصدر مجازات لانهائية للتمدد.

(3)جون تارديو : شاهد متواري، ص 30 .

 

 

مقالات من نفس القسم