غاستون باشلار: شاعرية الغيوم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ترجمة: سعيد بوخليط             

 ” تحديدا شعرية، هي لعبة الغيوم، لعبة الطبيعة”

(نوفاليس، شذرات، ستوك ص 132)

 تندرج الغيوم ضمن ”المعطيات الشعرية”، الأكثر حُلُمية. إنها مضامين حُلُمية في أوج النهار. ترسم تأملات شاردة سهلة وعابرة. نكون خلال لحظة معينة ”عند الغيوم”، ثم نعود بهدوء إلى الأرض، تحت وقع تهكُّم لطيف من طرف الأشخاص الوضعيين.

لايضفي أيّ حالم على الغيمة تلك الدلالة الرصينة كما يجري الأمر بالنسبة لباقي ”رموز السماء”.باختصار، يحظى التأمل الشارد للغيوم بميزة نفسية خاصة: تأمل شارد دون مسؤولية.

المنحى المباشر لهذا التأمل الشارد، أن يكون مثلما قيل دائما، لعبة سهلة للأشكال. الغيوم مادة خيال بالنسبة لعاجِنٍ كسول. يحلم بها مثل حشوة نسيج خفيف يشتغل من تلقاء نفسه. يقرِّر التأمل الشارد – مثلما يفعل الطفل غالبا- مصير الظاهرة المتغيِّرة بحيث يمنحها نظاما موجَّها سلفا، وبصدد التبلور: ”أيها الفيل الضخم ! مدِّد خرطومكَ”، يخاطب الطفل الغيمة التي تتمطَّى، ثم أبانت عن امتثالها”.

قصد تبيان أهمية الغيمة بالنسبة إلى الموضوعات الدينية الهندية، كتب أبيل بيرغين تحديدا، في دراسته ”ديانة الفيدا”(ص 6):”ليست فقط الغيمة الحبلى بهذه المياه، مزمجِرة ومتدفقة، لكنها أيضا متحركة، يبدو كأنها توفر من تلقاء ذاتها رهانات التشكُّل الحيواني”.إذا كان الأخير ثابتا خلال الليل مع كوكبات نجوم،سيميز التشكُّل الحيواني نهارا، تحول متواصل مع الغيمة. لدى الحالم باستمرار غيمة تصبو إلى التحوُّل.تساعدنا الغيمة كي نحلم بالتحوُّل. 

لاينبغي إضفاء اهتمام مبالغ فيه على السمة السلطوية لتأمل شارد، يقدم نفسه للقدرات الإبداعية بكيفية مجانية للغاية. يشتغل بفضل العين. حين تأمُّله جيدا،قد يحمل لنا أضواء بخصوص العلاقات الضيقة بين الإرادة والخيال. أمام هذا العالم  للأشكال المتحوِّلة، حيث  تتجاوز إرادة النظر سلبية رؤية تعرض كائنات بسيطة للغاية، فالحالم أستاذ ونبيّ. إنّه نبيّ اللحظة. يكشف بنبرة تنبؤية، ما يجري آنيا أمام عينيه.إذا تمردت المادة في زاوية من السماء، فهناك غيمات أخرى هيأت سلفا مخططات ثانية يكملها الخيال- الإرادة. سيرتبط تطلعنا نحو التخيُّل بصيغة متخيَّلة زاخرة بمادة متخيَّلة.

حتما، بالنسبة لتأمل شارد يصنع المعجزات، تعتبر جلّ العناصر جيدة، يمكن للعالم بأكمله أن يحيا على ضوء نظام نظرة ميغناطيسية. لكن مع الغيوم، تبدو المهمة جسيمة وسهلة في الوقت ذاته.يتحرك كل شيء، في خضم هذا الرُّكام الكروي، وفق  المبتغى. تنزلق  جبال، تهدأ انهيارات جليدية إلى أن تخمد، وحوش حمقاء يلتهم أحدها الآخر، هكذا ينتظم الكون برمته وفق إرادة خيال الحالم. 

أحيانا تصاحب يدُ المصمِّم التأمل الشارد العاجن غاية السماء.الحلم ” يدسُّ باليد وسط العجين” من خلال عمل ضخم وخلاَّق. يتعقب جولز سوبيرفيل، في سماء الأوروغواي ضمن صفحات عمله ”أن تشرب من النبع”، ”حيوانات تفوق جمالا حيوانات السهل المعشوشب، حيوانات (لاتموت قط) تشاهدها فقط أمام عينيك تختفي، دون ألم. أشكالها متغيرة، قلقة دائما، لكنها ناعمة جدا حين مداعبتها، هل يمكن القول، بأنها غيوم  !إذا لم يكن ماتصورته مجرد جنون ”.ثم يضيف كريستيان سينيشال الذي أورد هذا النص، التالي: ”التعبير الذي ينبغي الاحتفاظ به ووصله بأمثلة عدة تشير إلى إمساك أيادينا بالعالم، امتلاك جولز سوبيرفيل لموهبة مداعبة السحب، كالنحات تماما الذي ينمذج بفضل أنامل يديه، ملامح لامرئية بالنسبة للآخرين وكذا بالنسبة إليه” (جولز سوبيرفيل، شاعر العالم الباطني ص،142 ).

تحديدا، يلتمس كريستيان سينيشال من النقد الأدبي، عدم الانحسار فقط عند تمييز شائع بين خيالات بصرية وسمعية، تمييز فظّ يبتعد بنا عن الكثير من التقديرات العميقة حول حياة الخيال، وكذا عدَّة حدوس ديناميكية مباشرة. كيف يمكننا فهم هذه المقاطع الشعرية لجولز سوبيرفيل، دون خيال محض ديناميكي، صاغته أساسا ديناميكية اليد:

تمنح الأيادي اسمها إلى الشمس، وكذا اليوم الجميل.

تستدعي”مرتجفة” التردَّد الخفيف الذي أتاها من فؤاد الإنسان غاية أقصى مستويات الأوعية الساخنة.  

(معجزة الأعمى)     

 أو أيضا في ”الحب والأيادي”:

حينما أمسكُ بكفَّي يديكِ المحتجزتين

أعيد حينئذ صياغة العالم وكذا الغيوم الرمادية.

نصوص بقدر أهميتها الكبيرة بالنسبة إلينا، يمكننا أن نتبيَّن في إطارها دليلا على أنَّ اليد ليست بالضرورة أرضية، أو حتما مرتبطة بهندسة موضوع ملموس، قريب،  صلب. يمكن لصانع السحب، بواسطة يده الضخمة، أن يظهر لنا كمختصٍّ في المادة الهوائية.

يلتزم تحديدا كتاب سينشال بالوقوف مع جولز سوبيرفيل (ص 41 ) عند شخصية ”متلهِّفة كي تتناول بين أياديها العالم اللامرئي، إنها قادرة على معانقة أكثر النزوات الهوائية خيالا وحِذقا، وكذا الحلم الأكثر تحرُّرا من إكراهات الأرض”(1).

حقا تتجلى بتدبير عذب وبطيء صور سوبيرفيل؛ إنها تدعو القارئ بدوره كي يعيد تشكيلها دون تسليمه بالمعطيات التي بلورها البصر كليا. هكذا نقرأ في عمله”مدينة مسقط الرأس”(2):

يوجد في الشارع، أطفال، ونساء

لهم غيوم متماثلة جميلة، 

احتشدت كي تبحث عن روحها

والانتقال من الظل صوب الشمس.

يشعر الذي يستوعب ديناميكيا هذه المقاطع الشعرية، بأن يديه يسوِّيها ريش. يتناول بداية، خلال يوم صيفي جميل، ندفة مهملة من وسط جوف حاوية.

نتيجة تأمله الشارد للتمدُّد، وكذا إتاحة ممكنات للتهوية أمام مادة مضغوطة جدا، سيمنح المادة الوافرة نصيبها من بياض اللون؛ هكذا يحلم بالحَمَل، والطفل، والإوزِّ السماوي.نستعيد عبر هذا السياق وبشكل أفضل قراءة مقطع شعري سابق: 

يعثر النخيل على شكل

حيث يتمايل سروره الخالص

كي يستدعي الطيور من بعيد.

أيضا تستدعي الغيمة مختلف النَّدَفِ الخفيفة، كل الريش الأبيض، والأجنحة البسيطة. تنساب آلية الغَزْلِ غاية السماء. حينما نقرأ ماكتبه جورج ساند، بخصوص حائِكة نسيج  الغيمة، سنعاين بأنَّ سرَّ أو طموح تلك الحائِكة الحالمة أن تنسج على منوال دِقّةَ غيوم  تلطِّف وتغربل ضوء السماء(3).

طور دانونزيو هذه الصورة (قصائد، مرثيات رومانية، ترجمة، هيريل ص 244):

آخر السحب، حبكات خفيفة يمضي عبرها هلال قمر رفيع، مثل مكوك ذهبي.

ينجز هذا التِّرحال الهوائي عملا صامتا؛ يختفي مرة، ومرة أخرى يومض بين الخيوط النادرة.

تتعقب تك المرأة البكماء المتأمِّلة،  خطاه في الأجواء، تحدق سدى بعينين صافيتين بعيدا جدا: أبعد من الحياة!

عبر امتداد سماء زرقاء، تلُوح صور طيور- غالبا  طائر الخطاف- تنسج خيوطا لامرئية، بمثابة تآلف بين الحركة المجنَّحة وكذا ندف غائمة. نقرأ في:”ملحد الحَمَّام البخاري”:”تحتشد أصوات الطيور فوق تجاويف الوادي الصخري القويِّ، مثل شبكة، خيوطها لامرئية، واهية على نحو لانهائي…أليس رائعا تجدّد قوام هذه اللُّحمة، لحظة ترهّلها أو تمزقها، كما لو يتحقق الأمر نتيجة رحلات مكوكية، أو تحليق سريع؟ حيث يوجد نسَّاجون صغار لديهم أجنحة؟” (4).

عندما نقرأ، صفحات من هذا القبيل، فنتهذَّب على موضوعات الخيال الهوائي، وتجلى ربما إلحاح الصور إلى حد ما، نصير حينئذ على أتم الاستعداد كي نتذوق السحر الهوائي، الحاذق بشكل مدهش ضمن مقاطع العمل الشعري” الحائِكة” لبول فاليري.

يبدو بأن قليلا من مادة السماء أمكنها الاشتغال على سطح الأرض: 

تجلس الحائِكة عند زرقة الملتقى 

ضجرة، فارتشفت السماء الزرقاء

شجيرة وهواء نقي يبعثان موردا حيا.

 ساق، حيث تستريح الريح المتسكِّعة،  

ينعطف بغير ذات جدوى، خلاصها المرصَّع بالنجوم.

تهدي وردها، بشكل مدهش، إلى دولاب مِغْزَل قديم.

انطوى كل مقطع على شيء من الهواء النقي، وكذا الهواء الأزرق، ثم استراحة نَدَفة.  

يلزم استيعاب هذه القوة الصورية لغير المتبلوِرِ التي نشعر بمفعولها من خلال”التأمل الشارد للغيوم”، ثم الاستمرارية الكلِّية للتحول وفق مشاركة ديناميكية حقيقية:”بفضل الطائر، توجد السحابة قريبا من الإنسان” يؤكد بول إيلوار (5).شريطة ضمِّ، تحليق الطائر خطِّيا، التحليق المُتَدَحْرِج والكروي، استدارة فقاعات خفيفة.تزيح الاستمرارية وفق ديناميكية، انقطاعات الكائنات الثابتة. تصبح، الأشياء لحظة ثباتها، أكثر انفصالا عن بعضها البعض، واغترابا عن الذات. عندما يبدأ تحركها، ستثير لدينا رغبات وحاجات نائمة: ”لاتنفصل المادة، الحركة، الحاجة، ثم التطلع. يستحق حقا شرف العيش تطلعكَ نحو أن تحيا”، يستخلص بول إيلوار.

بغتة، لكي نتحدث على منوال جوليز سوبيرفيل، بخصوص حركة الغيوم البطيئة  نعلم”ما يجري خلف السكون”. يميز الحركة تجانس حُلُمي أكثر من الكائن، تمزج بين الكائنات الأكثر تنوعا. يضع الخيال الديناميكي ”ضمن نفس الحركة” وليس ”داخل نفس الحقيبة”، أشياء مختلطة العناصر، ثم يتشكَّل عالم ويتوحد أمام أنظارنا. حينما كتب بول إيلوار (نفس المرجع، ص 102):” نرى غالبا غيوما فوق الطاولة. مثلما نرى في الغالب أيضا، كؤوسا، أيادي، غلايين، بطائق، فواكه، سكاكين، طيورا، وأسماكا”. إنه يؤطِّر، حسب استلهامه الحُلُمي، أشياء ثابتة من لدن كائنات الحركة.

طيلة الحلم، جسدت بداية الغيوم غاية نهايته مع الأسماك والطيور، قوى تثير الحركة. سينتهي الأمر بغيوم الطاولة كي تحلِّق وتسبح،بجانب الطيور ورفقة الأسماك، بعد أن أضفت بلطف حركة على الأشياء الفاترة. تكمن وظيفة الشاعر الأولى في أن يحرِّر انطلاقا من دواخلنا مادة تشرئِب صوب الحلم.

  في خضم رؤانا اللانهائية أمام السماء، ما إن تنحدر الغيوم إلى طاولة الحجر، بين تجويف أيادينا، سيبدو كأنّ جل الأشياء تستدير رويدا رويدا، ويكتسي البلورات ظلٌّ  أبيض. يكمن العالم رهن امتدادنا، تسكن السماء الأرض، تلامس أيادي السماء. تشتغل يد جوليز سوبيرفيل على الغيمة. بينما انتقلت الأخيرة، كي تشتغل بين يدي  بول إيلوار الحالمة.

إذا أخفق النقد الأدبي في فهم قصائد عديدة تنتمي إلى جيلنا، فلأنه سعى إلى تقييمها باعتبارها منظومة عالم أشكال، لكنها تجسِّد عالما للحركة، صيرورة شعرية. لقد نسي الدرس الكبير لنوفاليس: “القصيدة فن الديناميكية النفسية”. لأترك جانبا أشكالا غير مجدية، وبالتالي تجاوز إطار نفس اللعبة التي أبرزتها.

الغيمة، حركة بطيئة ودائرية، بيضاء،تهوي دون ضجيج، تبعث فينا حياة خيال ناعمة، مستديرة، ذات بياض خافت، صامتة، مفعمة بالندف… يستهلك الخيال جراء انتشائه الديناميكي،غيوما مثل انبثاق يحرِّض حركتنا.

لايمكن لأيِّ شيء الصمود طويلا،أمام دعوة السفر الصادرة عن الغيوم، وهي تعبر ثم تكرِّر بأناة عبور أعالي السماء الزرقاء. يبدو بالنسبة للحالم،انطواء الغيمة على إمكانية حملها كل شيء: الحزن، المعدن، والصرخة. أريج ”الفرولة الغابوية” يتساءل جوليز سوبيرفيل:

كيف يمكن لغيمة أن تجرف مختلف ذلك حينما تغدو مجرد جيوب مثقوبة؟

بيد أنه لاشيء يفاجئ هذا القليل من اللاشيء المُنسابِ. لاشيء بالنسبة إليه ثقيلا جدا قد يعجز عن الإبحار به.

مع قصيدة أخرى لجولز سوبيرفيل، يطوي أشخاص تميِّزهم المطاطية، أرجاء الكون لأنَّ الضجر أنهكهم: 

تحلق بعض الأمواج على أجنحة ثلاث ساريات سفن

ترحل القرى الصغيرة نحو السماء، أحواض مياه ونساء غَسَّالات

حقول قمح بين ثنايا آلاف ابتسامات نبات الخشخاش المنثور،

تتنافس زرافات وسط أدغال الغيوم،

يتسلق فيل قمة الهواء الجليدية؛

متوهِّجة في الماء السماوي، الدلافين وأسماك السردين

ثم تصعد ثانية زوارق غاية ابتسامة الملائكة… 

                  (تجاذبات، ص 202)

تنتهي الصفحة عند استيقاظ الأموات. لقد جرفتهم الديناميكية الهوائية للأحياء، يهتدون خلف تعالي الغيوم في السماء الزرقاء. إذن، كما تقول الكونتيسة أنا دو نويلز:”اللازورد، الموجة، التحليق، التربة، مختلف ذلك يحلِّق”.  

أيضا، تُتَناول الغيوم كرسول. يخبرنا غوبيرناتيس (أسطورة النبات ص  240 )، بأنها تجلت عند شعراء الهند:”أشبه بورقة تحملها الريح”، وتضيف إشارة ثانية: ”حتما، امتثل فريديريك فان شيلر، خلف مشاهد مسرحيته ماري ستيورات، لتأثير فكرة شعبية قديمة، حين توجهه صوب غيمة، بأمنيات وكذا تحسُّر الملِكة الأسيرة”.

لمن يريد إنكار دور الخيال الديناميكي على مستوى الحياة المتخيَّلة، يكفي التساؤل عن تفسير بخصوص غيمة ثقيلة وأخرى خفيفة، واحدة تضغط علينا، وأخرى  تجذبنا وجهة أعالي السماء. من جهة، تندرج وفق جدلية مباشرة، دعوة سوبيرفيل:”يمثل كل شيء لديَّ غيمة، وأتحرَّق شوقا لها”. من جهة ثانية، فالقصيدة النثرية الشعرية لبودلير، الأولى التي افتتح بمجموعته الشعرية. 

آه !ما الذي تعشقه إذن، أيها الغريب المدهش؟

أحب الغيوم… التي تمضي هناك …تلك الغيوم الرائعة !

دون الحاجة إلى أيِّ وصف، وبكيفية فورية، هناك غيمة تجذبنا وأخرى تكدر المزاج. لاحاجة للرعد، كي تحدث الغيمة في مسرحية الأميرة مالين (6)، رجَّة داخل القصر الملعون ل”قبو  الغُرفة العُلْوية”.تكفي غيمة قاتمة كي يسود الشقاء على امتداد الكون.

لايكفي حتى ندرك إحساس الاختناق الناجم عن سماء منخفضة، الربط بين مفاهيم الأدنى و الثقيل. مادامت مشاركة الخيال تعتبر أكثر حميمة، فالغيمة الثقيلة يتم الإحساس بها، مثل شرٍّ يكمن في السماء، ينهك الحالم، بل يقتله. 

يلزم كي نستوعب الماهية المتخيَّلة لمرض أساسه الغيمة الثقيلة والسفلى، وصله بالوظيفة الفعالة حقا لخيال الغيوم. وفق مظهره المتخيَّل الايجابي،تبدو مهمة خيال الغيوم بمثابة دعوة للارتفاء. يقتفي التأمل الشارد العادي أثر الغيمة مثل ارتقاء جوهري ينتهي غاية أعلى مستوى للتسامي، عبر ذوبان عند أعلى نقطة تكمن في السماء الزرقاء.

تذوب في الأعالي، الغيوم الحقيقية، الصغيرة. يستحيل تخيُّل اختفاء غيمة صغيرة وهي تسقط. مادامت تشكِّل عنوان تيمة للتعالي الأكثر انتظاما، ويقينا، إنها تبلور مضامين نصيحة دائمة حول التسامي.

 نستحضر مع ويليام بليك،حديث الغيمة الصغيرة إلى العذراء:”حينما أختفي، فلكي ألج حياة قد تضاعفت، في خضم سلام وكذا نَشَاوى مقدَّسة” (7).

خيال الأشكال، المادي غالبا بسذاجة، يوحي من خلال النقوش بهذه الممرَّات الطويلة التائهة وسط الغيوم حيث ترتقي مواكب المنتخَبين الصاعدين وجهة السماوات. بيد أن الصور المتجلِّية بفضل خيال الأشكال، موصولة بأصل أكثر عمقا يوجد مصدره في الخيال الديناميكي والهوائي.

 تستوفي الروح الحالمة أمام غيمة خفيفة، في الآن ذاته، الصورة المادية للتدفُّق وكذا صورة ديناميكية للتعالي. بناء على تأمل شارد كهذا، بخصوص ضياع غيمة في السماء الزرقاء، يساهم الكائن الحالم بكل وجوده في تحقُّق تسامٍ كلِّي. إنه حقا صورة التسامي المطلق، أقصى تجليات السفر. 

تقدم صفحة ليوهان غوته تحليلا مستفيضا حول خيال الغيوم. يظهر توخي الشاعر بعد تأملات طويلة في عمل الانجليزي هاوارد عالِم الأرصاد الجوية، الاندماج في الطبيعة عبر الإلهام الشعري. تجلت أربعة صور مباشرة مع: الغيوم الطبقية، الركام، الرَّهج (الغيوم الرقيقة)، الغيوم الممطرة، اختبرت جميعها في إطار علم نفس تصاعدي ظاهر.

                       الغيوم الطبقية

حينما، ينبعث ضباب عبر مِرآة المياه الهادئة، صاعدا ومنتشرا بتأوُّه، متوحِّدا كليا بالقمر، الذي يتقاسم معه تموُّج الظاهرة، سيكتسي حينها صورة أشبه بشبح يخلق أشباحا: إذن، أيتها الطبيعة، ينبغي الاعتراف بأننا نمثل جميعا أطفالا مستمتعين ومبتهجين ! ثم، يواصل ارتفاعه حيال الجبل، وقد حشد طبقات فوق طبقات، بحيث تبدو من بعيد المنطقة الوسطى مكفهرَّة، مهيَّأة كي تتساقط مطرا، أو أن تصعد بخارا.     

                       ركام  الغيوم

إن استُدعيت الكتلة الضخمة غاية أعالي المحيط الجوي، فالغيمة ستتوقف عند نطاق مدهش: تعلن من خلال شكلها المقرَّر، قوة الحركة، وماتخشونه بل وماتختبرونه، فالأعلى يضمر تهديدا، بينما يخبئ الأسفل زلزالا.   

                      الرَّهج (الغيوم الرقيقة)

جعلها الاندفاع النبيل تصعد بامتياز. خلاصها، إكراه سهل وإلهي. كومة سحب تبعثرت إلى ندف، تشبه أغناما متوثبة، محتشدة وصوفها ممشَّط بكيفية طفيفة. هكذا، فالذي يولد هنا في الأسفل بتؤدة، ينساب في نهاية المطاف صوب الأعلى  دون ضجيج، بين حضن ويدِ الأب.

                        الغيوم الممطرة

عندما تجذب قوه الأرض، ذاك المُترَاكم في الأعلى، سرعان مايتحول بغضب شديد إلى  عواصف رعدية، ينتشر ثم يتموضع مثل فيالق. وجهة فَعّالة ومنفعلة نحو الأرض! لكن ارفعوا أنظاركم مع الصورة: ينحدر الكلام،لأنه يصف؛ بينما يتطلع إلى الصعود حيث يمكث أبديا.

                  جيد أن نلاحظ 

حين تمكننا من التمييز، يلزمنا منح الشيء المفصول عطايا الحياة، والاستمتاع بحياة متواصلة.

إذا استأنس الرسام، الشاعر، مع تحليل هاوارد، خلال ساعات الصباح والمساء، بتأمله وملاحظته للمحيط الجوي، سيبقي على الخاصية،بينما تمنحها الأمواج الهوائية النغمات العذبة، المتنوعة، حتى يمسك بها، ثم يحسُّها  كي يعبر عنها(8). 

قد تزعج هذه الصفحة القارئ، جراء مزجها بين الأفكار المجردة وكذا الصور. لكن حينما نعاينها بشكل قريب جدا، سيذهلنا هذا التعدد بخصوص تخيّل جوهر الغيمة.

نكتشف استئناسا حقيقيا مع حياة الصور، حينما نتيح لهذا التعدد إمكانية التبلور أكثر، وكذا بين ركام  الغيوم المتدحرجة ثم المزمجِرَةِ،حينئذ يمكن أيضا للتأمل الشارد تحديد الاختلاف بين اللعبة والتهديد (9). كذلك، تتهيَّأ بالفعل مع غيوم ممطرة عالقة بين الصعود والنزول، تأملات شاردة عدة.

في كل الأحوال، يلزمنا حين قراءة غوته، أن نكتشف مرة أخرى بأن التأمل الشارد المرتبط بالغيمة، لايمكن مقاربته كليا من خلال تأمل الأشكال، بل يقتضي مشاركة أكثر عمقا؛ تضفي على الغيمة مادة عذبة أو مُهَدِّدَة، قوة فعل أو قوة عفو وسلام. 

يبدو بأن غوته تطلع نحو وضع معارف موضوعية كأساس للصور الشعرية نفسها. 

بشكل خاص، يتيح أحيانا التأمل الشارد المنبعِث من الغيوم تراكما لصور أكثر تباينا. تشغل سماء العاصفة الرعدية بحركتها،صخبها، وميضها، حيز مقطعين شعريين صغيرين ضمن قصيدة لنيكولاس ليناو: الغيوم قُطْعان، غيوم ملتئمة في خضم  انعطافة رَكْض، بينما تسرع بها الريح  المرافق الجيد، وهي تصفع “بسياط البرق”.

يمكننا القول، أنَّ تأمل السحب يضعنا أمام عالم، يحوي أشكالا بقدر الحركات؛ تمنح الأخيرة أشكالا، تكون متحركة، وتحولها الحركة بكيفية دائمة. إنه عالم أشكال تختبر تحولا متواصلا.

بوسع الأمزجة الشعرية المتعددة جدا أن تدلِّلَ، وفق تعبير بودلير:”هذه الجماليات المرتبطة بالأرصاد الجوية”(10). حينما ندرس سماء منظر طبيعي. يضيف بودلير: ”الغيوم بأشكالها العجيبة والمضيئة، العتمات المربِكة، الأرجاء الرحبة الخضراء والوردية، متعلِّقة الواحدة بالأخرى و رديفة لها، النيران المشتعلة المفتوحة على مصراعيها، السماوات بنسيجها الشفاف الأسود أو البنفسجي، مُجَعَّدا، ملفوفا أو ممزَّقا، ثم الآفاق التي تعيش حِدادا أو تنساب معدنا ذائبا، تصعد مختلف تجليات تلك العظمة نحو دماغي كمفعول مشروب يثمل أو مثل بلاغة الأفيون”.

بودلير، رجل المدن، شاعر الإنسان، جرفه بغتة التأمل الكوني، موضِّحا بهذا الخصوص: ” شيء مدهش، لم يحدث معي مرة واحدة، التشكي من غياب الإنسان، أمام هذا السِّحر السائل أو الهوائي”.      

  بكيفية أكثر تدقيقا، يبدو بأنَّ الخيال الديناميكي للغيمة، يمثل وسيلة وحيدة فيما يتعلق بتقديم تفسير نفسي للأساطير الشعبية التي توظف البِساط والمعطف السحريين اللذين وظفهما العديد من الرواة بصيغة جاهزة – دون الخضوع حقا إلى قواعد الخيال- ضمن سياق أغراض عتيقة، وكذا نماذج صور سوق شرقي. يستعجل دائما هؤلاء الكتَّاب كي يخبرونا بأشياء إنسانية، مفرطة الإنسانية. الغيمة، بالنسبة إليهم، وسيلة نقل يلزمها أن تقودنا نحو بلد يُطْلعنا على سلوك جديد للكوميديا الإنسانية القديمة. ضاع كل شيء جراء القوة الحُلُمية للسفر. مع ذلك، تكون الصورة زاخرة عند المنطلق؛ تُتَوخى مطنبة، متعددة. غير أنه للأسف ! يبقى المعطف السحري، معطفا جاهزا ! يُختزل الأمر عند المحلِّل النفسي إلى تقييمات معينة كي  يدرس وظيفتها على مستوى الحلم الطبيعي.

سنفهم بشكل أفضل، الدور المبدع للخيال الديناميكي، حينما نستدعي بعض الأمثلة  التي توضح استمرارية التحليق الحُلُمي، من خلال السفر بين طيات الغيمة والمعطف السحري. هكذا، كتب إدغار كينيت في عمله ”ميرلين الساحر” (ص 26):”ارتدى الساحر معطفا، ملفوفا حول كِلْيتيه، ويصدُّ بأحد قدميه العاريتين الغيوم التي تحمله بسرعة النسور”.  مثلما نرى، بلا ريب يتركَّز جدا هنا الثراء الحُلُمي.يتوخى محلِّل للمتخيَّل وصف التحليق عبر تاريخه، انطلاقا من أول ضربة لكعب رجله فوق سطح الأرض؛ لكن الحالم يمشي أصلا، على الغيمة، ويلتمس منها حافزا، بحيث تحمله مثل معطف ملفوف على كِلْيتيه، سيغدو فورا جناحا، جناح نسر. يشارك كل شيء خلال الآن ذاته، في التحليق، ضمن تكتل للصور الهوائية، بين ثنايا حزمة قوى محلِّقة.

حينما يمرِّر الأدب الصور قبل الأفكار، يتيح لنا زمن أن نحيا بهذه المجازات الكبيرة. هنا يكمن سحر فعَّال ! لكن الكاتب لايقدم لنا سوى مشهد ساحر. رغم امتلاكه لتجربة السفر داخل ذاته، لم يبرز لنا سوى سفر للمشاهدة.

بوسعنا الإدلاء بنفس الملاحظات، فيما يخص ”شراع إيلين” في الجزء الثاني من ”فاوست” (ترجمة بورشا، ص 413 ): ”تحملكَ هذه الأشرعة بتحليق سريع، فوق الأشياء المبتذلة، وسط سهل أثيري، بقدر ما يمكنكَ الاستمرار”.

 لذة التفلسف، والتعامل مع الرموز الذهنية، لاتترك للشاعر وقت فراغ كي يعيش صوره حُلُميا. بذلك، يحرمنا من أولى اندفاعات تأمله الشارد. مع العلم، أنه خلال اللحظة التي يفصلنا الحلم عن الواقع، يصبح حينها مفيدا أكثر.

نظرا لالتزام مرجعيات هذا الكتاب باستعارة أمثلتها خاصة من مجازات الأدب الواعي، فقد تركتُ خارج مجال النقاش الأطروحة الرائعة لميشيل بريال التي قدمت أسطورة هيرقل وكاكوس مثل أسطورة حقيقة عن سماء غائمة. نعلم، بأنَّ تفسير بريال في هذا الإطار، لساني أساسا. بالنسبة إليه (ص 108): “أبقار السماء إبداع لغوي”. قياسا للغة السنسكريتية، فالجذر اللفظي، الذي صاغ لفظة انطلق (ثور) يتأتى من أصل يعني،  يمضي، يسير. تتسابق غيمات في السماء. لايوجد حقا مجاز، حين ”نعت الغيوم الجارفة، بالتي تمشي”(ص 109): ”لازالت اللغة، طافية فوق السطح، ومتأكدة قليلا من اختيارها الكلمات، تنعت شيئين مختلفين بنفس السمة: إنها فقط تبدع لفظتين متجانستين”. سنلاحظ،من جهة أخرى، بأنَّ نفس السمة، تعكس ببساطة حركة وعلى الوجه الأكمل. الخيال الديناميكي متحرك هنا. بالتالي، يلزمنا الحديث عن جناس ديناميكي.

حينما نقرأ أطروحة ميشيل بريال والريشة في اليد، ندرك بأنَّ مختلف مغامرات أسطورة جيريون تجد تفسيرها من خلال ظواهر السماء الغائمة.

الأسطورة بمثابة أرصاد جوية بدائية.    

هوامش: 

مصدر المقالة:

Gaston Bachelard:Lair et Les songes.Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp:15-29.

(1) يتمتع ”صانع السحب” بامتياز كبير على مستوى مادة كونية وافرة.

(2) جولز سوبيرفيل، تجاذبات،  ص 150.

(3) ويلهلم شوارتزر: أشار إلى عدة أساطير تكشف عن حياكة  مادة الغيمة. بناء على ثقته المطلقة في الأسطورة الطبيعية، وضع في السماء الأقدار الثلاثة: تجسد الحائكات الثلاث الفجر، النهار والليل.

(4) غرهارت هاوبتمان: ملحد الحَمَّام البخاري، ص 107.

 (5)  بول إيلوار: يحثُّ على النظر، ص 97

(6)  موريس ماترلينك:الأميرة مالين.

(7)  ويليلم بليك: أولى الكتب المتكهِّنة، ترجمة ص 98.

(8) الأعمال الكاملة: ترجمة بورشا، ص.315

(9) مثلا يشعر فعلا التأمل الشارد المراهِن، عند جولز لافورغ، بأنها غيمة تعكس حركة تنتج هذا المقطع الشعري (الأعمال الكاملة ص 73). ركام  الغيوم: ترنُّح متراخ، هكذا تأتى لاهتزاز ريح تمشيط ليلة جميلة.

(10)  بودلير: تطلعات جمالية،ص 334.

 

  

مقالات من نفس القسم