عن مأساة الرجل و الحصان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد المنعم رمضان

مقدمة

عندما كنت صغيرا جدا , قبلما يتكون عمرى من رقمين متجاورين , لم يكن يسمح لى أبواى أن أذهب لألعب مع أولاد الجيران بالشارع أو ما شابه, كانا يلعبان هما معى أو يتركاننى لهوايتى المفضلة آنذاك , مشاهدة التليفزيون. فكنت أتصل تليفونيا بصديقى حينئذ (محمود) بشكل يومى منتظم, وبآخر المكالمة نتفق على ميعاد مكالمتنا التالية باليوم التالى, و نتفنن فى تحديد الميعاد المناسب لكلينا. هذا على الرغم من أن كلا منا سيكون مستلقيا على سريره , لا يفعل شيئا أكثر من التثاؤب. و لكننا فقط كنا نبحث عن أى شيء ننتظره وعندما نطوله, لابد أن نحدد هدفا آخر كى ننتظره لعله يحمل أى جديد.

ملحوظة:

إن كنت تبحث عن مأساة تقليدية , تبكيك و تنوح وأنت تقرأها وتذرف الدموع و تظهر مواهبك المدفونة فى البكاء, فأنا آسف, لا أعدك بهذا. أما إذا كنت تبحث عن مأساة حقيقية تحياها يوميا وتتجاهلها, فقد أعدك بهذا.

 

المشهد الأول

  الديكور يخلو من أى شئ , خشبة المسرح لم يمسسها مهندس ديكور بعد , صحراء خالية من أى شئ سوى الرمل و الطوب و الحصى. يوجد بأطراف المكان الممتد بعض الخيام و بعض الأناس الذين يحيون بها, يوجد أيضا شجر و مزروعات طفيلية متناثرة , توجد حيوانات تجرى هنا و هناك , و يوجد بئر عميقة , بئر وحيدة بين مسافات متباعدة من الصحارى.

يدخل المكان رجل يجر حصانا, يرتدى عباءة أنيقة زاهية الألون و غطاء للرأس مزركشا و به قطعة من الأحجار الكريمة. يقترب من رجل جالس بالقرب من البئر, يرتدى جلبابا أبيض فضفاضا , و رجله تمتد أمامه بشكل مستقيم , أسمر اللون و شعره منكوش. يتقدم التاجر نحو البئر ساحبا حصانه ببضائعه المتراصة على ظهره مادا مقدمة الحصان نحو البئر.

البدوى : يا سيد … ما الأمر ؟؟

التاجر : الحصان عطشان , سنأخذ له شربة من هذه البئر . فكما ترى بضائعى ثقيلة على ظهره ومشوارى طويل . سأسقيه القليل من الماء كى يستطيع أن يكمل حمل بضائعى لمستقرها.

البدوى : نعم , يبدو مرهقا حقا , و لكن ماذا ستدفع لى بالمقابل ؟؟

التاجر : أدفع لك !! , لماذا ؟؟

البدوى : نعم يا سيد , فأنا مالك هذه البئر و كى تشرب منه لابد أن تدفع لى.

التاجر : ملكك؟؟ كيف هذا ؟؟ أليس هو نتاج الأرض و خيرها ؟

البدوى : قد يكون.. و لكنى أقول لك أنه ملكى و أنا صاحبه و أريد ثمنا مقابل لشرب حصانك منه , فليس أمامك الكثير من الحلول , هو حل من ثلاثة , إما أن تدفع لى ثمنا مناسبا لما سيشربه حصانك , و إما أن ترحل و تبحث لك فى تلك الصحراء الممتدة عن بئر أخرى تحفظ لك حياة حصانك , و إما أن تقتلنى و تستولى على البئر من بعدى.

التاجر: ممم… إذن , ماذا تريد ؟؟

البدوى : ثمنا عادلا لما سيشربه حصانك من البئر .

التاجر : ممم… سأعطيك قدر ما يشرب الحصان من البضائع التى يحملها . فإذا شرب الحصان كوبا , سأعطيك كوبا مما أحمل من بضائع.

البدوى : يا رجل , لا تظننى ساذجا , فقد يشرب حصانك مقدار كوب من الماء يحمله لأخر العالم , و تعطينى أنت مقدار كوب من بضائعك تلك لا يساوى شيئا لى … أنا لا أريد هذا النوع من الأثمان… أفضل أن يكون الثمن ثابتا محددا مهما كان مقدار ما شربه حصانك , حتى ولو جفف البئر.

التاجر : إذن سأعطيك نصف شوال مما أحمل.

البدوى : و ماذا تحمل داخل أشولتك تلك ؟؟

التاجر : قمحا و دقيقا و ما شابه مما لذ و طاب.

البدوى : أظن أن نصف شوال هو ثمنا مجزيا فعلا.

التاجر : أكثر من مجز … لولا حاجتى و لولا أنك رجل طيب لما فعلت هذا أبدا ( صمت) إذن اتفقنا؟؟

البدوى : ليس بعد… فأنا هنا لا أستعمل القمح و الدقيق و تلك الأشياء . حتى زوجتى لا تعرف ماذا تصنع منها … فطعامنا هو ما نصطاده من الحيوانات و ما نقطفه من ثمار الأشجار , فقط لا غير .

التاجر : أرهقتنى يا رجل . يبدو أنك تريد مالا , ما رأيك بتلك الدنانير ؟؟ (حاملا بعضها بيده)

البدوى : لم تفهمنى بعد … ماذا تظننى سأفعل بتلك الدنانير فى هذه الصحراء الجرداء , نحن لا نتعامل بها , نأكل كما وصفت لك و نشرب من هذه البئر و نعيش بأكواخ من خوص الشجر.

التاجر : لا مال , لا بضائع , ماذا تريد منى إذن ؟؟ أنا لا أملك شيئا سوى مالى و بضائعى و ما على من ثياب, أتود أن تأخذ معطفى هذا , إنه أنيق , أليس كذلك؟؟ سيجذب إليك النساء , أعتقد أن هذا شئ موجود لديكم , ما أجملهن .

البدوى : النساء لدينا لن تفهم أن هذا المعطف غال و أنيق , جميعنا هنا نرتدى نفس تلك الملابس التى أرتديها , يصنعها لنا حسن, صانع الملابس.

التاجر : إذن لابد و أنكم تحتاجون بضائع أو أموالا لتعطوها لهذا الحسن؟

البدوى : كلا.. هو يصنع الملابس , غيره يصنع البيوت , غيرهما يصطاد الحيوانات , و غيرهم يلتقط الفاكهة , و أنا أعطيهم الماء… لا مال , لا مقايضة , تخلصنا من تلك العادات القبيحة منذ أزمان مضت.

التاجر : إذن , ألا تريد معطفى , أظنه مختلفا عما يصنعه حسن , سيجذب إليك النساء , أعدك بهذا … و أرى أنك تهوى النساء.

البدوى : من منا لا يفعل ؟ و لكنهن لن يفهمن أن هذا المعطف جميل , سيسخرن منى , أى شئ مختلف عن المعتاد , حتى ولو كان للأفضل , فهو مادة مغرية و جذابة للسخرية و أنا أعيش هنا منعزلا عمن حولى , لا أود أن يسخر منى أحد أو أن أسخر من أحد.

التاجر : رجل قنوع أنت إذن , وهو ما لا يبدو فى نقاشك الممتد معى حول ثمن شربة ماء ؟؟!!

البدوى : أتستهون بها ؟؟ إن قطرة الماء تلك تحمل حيوات بين رقرقتها.. إنها تساوى الحياة كاملة.

التاجر : و لكن كيف لى أن أعطيك ثمنا موازيا للحياة كلها … لا أعلم إلى ماذا ترمى ؟؟ أنا لا أملك سوى ما قلته لك سابقا ,بضائع , ملابس , مال…

البدوى : بل تملك

التاجر : و ما هو ؟

البدوى : الحصان

التاجر : (ضاحكا) هل هى مزحه ؟؟

البدوى : كلا… ألن يموت حصانك لو لم يشرب ؟ إذن فتلك القطرات تساوى حياته… أنا أريد ان أشترى منك حياته مقابل تلك القطرات و هو أعدل ثمن لها.

التاجر : يا رجل , هل جننت ؟؟ كيف هذا ؟؟ و من سيحمل عنى بضائعى , و لماذا سأسقيه أصلا إن كنت سأعطيك أياه.

البدوى : كن هادئا , الحل سهل و بسيط و لكنك لا تعمل عقلك… سيشرب الحصان من البئر كما يشاء , حتى يكتفى, فهو حصانى بعد حين . و ستأخذه حاملا عنك بضائعك إلى حيث أنت ذاهب , تبيع بضائعك و تتكسب المال و فى طريق عودتك , ستمر على و تعطينى إياه .

التاجر : و من أدراك أننى سأمر من هنا ؟؟ 

البدوى : لو لم تسأل هذا السؤال لعلمت أنك لن تمر , فهل من هارب ينبه حارسه قبلما يهرب ؟ هذا إضافة إلى أنك لو تعرف طريقا آخر لما سلكت هذا الطريق الوعر أصلا و لما أذللت نفسك كل هذا الذل مقابل قطرة ماء.

التاجر : إذن أنا مضطر أن أوافق على ذلك ؟؟

البدوى : أعتقد هذا.

التاجر : و إن عبرت و لم أعطك إياه .. أوسعتك ضربا مثلا و هربت ؟؟

البدوى : لو كنت تنوى ذلك لفعلته من الآن.

         إذن , متى ستعود لأكون بانتظارك ؟؟

التاجر: هل اعتبرتنى موافقا ؟؟ أنا لم أوافق بعد.

البدوى : أنت لست بموقف اختيار… لو كانت إجابتك غير الموافقة , لكنت فعلت شيئا مختلفا عن الكلام.

( يسحب الحصان من بين يدى التاجر)

لا داع لأن تخبرنى بموعد عودتك فسأكون موجودا هنا أيا كان , بانتظار عودتك إلى و فى حسن استقبالك أنت و حصانى .

 

المشهد الثانى

 

بعد عدة أيام…

 التاجر بثياب متسخة و التراب يغمره , لا يصطحب معه الحصان و لا البضائع . يقترب من البدوى الجالس بجوار البئر تماما كما رآه بالمرة السابقة و كأنه لم يتحرك من مكانه منذ حينها.

البدوى : ( بدون أى تأثر يذكر) أين الحصان ؟؟

التاجر : يالك من بدوى فظ حقا , ألا تلقى على السلام أولا , تسأل عما أصابنى ؟؟ ألا ترانى فى حال سيئة ؟؟

البدوى : أين الحصان ؟؟

التاجر : يبدو أنك لا تهتم بتلك الأشياء مطلقا … إذن فلا يوجد حصان

 ( يسكت منتظرا رده و لكنه لا يتكلم و لا تتحرك أى من عضلات جسده المسترخى )

     سرق الحصان … بعدما جبت المدينة بحثا بين التجار عن أفضل الأسعار لبضائعى و بعتها و تحصلت على النقود , و فى أثناء رحلتى عائدا إليك و إلى قريتى , سيطر على النعاس و غلبنى النوم فربطت الحصان إلى شجرة عتيقة تبدو و كأنها هناك منذ آلاف السنين , و أسندت ظهرى على جذعها و استغرقت بنوم عميق. استيقظت بعد ساعات طويلة و وجدتنى وحيدا و قد سرق حصانى و تركت العقلة مربوطة إلى الشجرة دونما الحصان.

البدوى : يالك من متمدين ساذج حقا … هل أبلغوك بتلك المدينة أن البدويين سذج و تستطيع خداعهم ببعض الأكاذيب الملفقة , هل أبلغوك أن حيلتك المكشوفة تلك ستنطلى على ؟؟

التاجر :  ماذا تقول ؟؟ أنا لست مخادعا أو كذابا و لا أقبل أن تتهمنى بمثل تلك الأشياء. إن كنت تريد بدلا عن حصانك هذا , أى كم من الأموال , فسأدفع لك كل ما تريد.

البدوى : و لماذا لم يسرق اللص أموالك أيضا كما سرق الحصان ؟؟

التاجر : لا أعلم , عليك أن تسأله هو عن هذا الأمر … يبدو أنه لم يعلم أنى أحمل معى نقودا .

البدوى : لص ساذج إذن … يرى رجلا فى طريق تجارة يرتدى أغلى الثياب و يصطحب حصانا فتيا و لا يفكر مجرد تفكير أنه يحمل فى جعبته الكثبر من الدنانير… يالها من مجموعة من المصادفات المتتابعة , يبدو أننى لابد و أن أكون قمة بالسذاجة كى أصدقك. أشعر أنك توجه إلى عقلى الكثير من الإهانات بكلامك السفيه هذا .

التاجر : و ماذا تظننى فعلت به ؟؟ أخفيته أم قتلته مثلا ؟؟؟

البدوى : لم أتوقع أن يكون ردك بتلك السذاجة , بعته بالطبع.

التاجر : يا رجل , ما الداعى لى أن أكذب , أنا أعرض عليك أموالى مقابلا للحصان , ألا تظن أن ذلك قد يكلفنى المزيد ؟؟

البدوى : هذا لأنك تعلم أنى لا أريد تلك الأموال و أنها لا تساوى شيئا بالنسبة لى فى تلك الصحراء … و لكن أتعلم ماذا ؟؟ فأنا أكثر ذكاء منك … يبدو أنكم فى عيشتكم المدنية تلك تتعاملون مع مجموعة من الأغبياء و لذا لا تتوقعون أن تقابلوا من يفهم أكاذيبكم المفضوحة … أنا سآخذ كل ما فى جيبك من نقود ماعدا ثمن الحصان , و تعود إلى حيث كنت , تشترى لى حصانا و أنا أنتظرك هنا , تأتينى بالحصان , أعطيك نقودك.

التاجر : هل من المفترض أن أوافق على اقتراحك هذا ؟؟ أعطيك كل أموالى كى آتى مجددا فلا أجدك , هل هذا منطق ؟؟ أنت تعلم أنى لا أعرف طريقا آخر سوى هذا و أن فرضا على أن أمر من هنا و أن آتيك بحصانك اللعين , لماذا إذن تأخذ نقودى رهنا ؟؟

البدوى : فلنعتبره نوعا من العقاب لمحاولتك الساذجة لخداعى.

التاجر : تعاقبنى ؟؟ هل أنت أبى ؟؟ أما أنك الله ؟؟

البدوى : الا تتعلم من تجاربك السابقة أيها الثرثار , أنا لا أهوى النقاش كثيرا , و كلمتى الأولى هى كلمتى الأخيرة , قد يكون هذا بسبب اختلاف طبيعتنا , أنا أعيش بالصحراء لا أكلم إلا المارة الذين يأتون مسرعين و يهجروننى مسرعين … و أنت تاجر , تبيع و تشترى و تزيد السعر حينا و تقلله حينا و ترسم الحيل و الألاعيب لتخدع زبائنك … و لكن أتعلم , أنا لست من هؤلاء… أنا لست زبونا تماطله فى الأسعار … أنا هنا أضع الشروط و عليك إما أن تقبلها أو ترفضها. و إن رفضتها فلا يكون بتلك الكلمات الجوفاء التى لن تغير من الموقف شيئا … أخرج سلاحا , أوسعنى ضربا , أقتلنى , ألقنى فى البئر … إما هذا أو ترحل الآن بعدما تعطينى كل دنانيرك و تذهب من حيث أتيت لتأتينى بحصانى .

التاجر : و إن ذهبت الآن إلى بيتنا و لم أعرك بالا ؟؟

البدوى : سيكون على أنا إذن أن أخرج سلاحا , أوسعك ضربا , أقتلك أو ألقيك فى البئر.

التاجر : أتهددنى ؟؟

البدوى : مممم… لا أعلم و لكنى لا أعتقد أن هذا هو التعبير الصحيح … أنا أملى شروطى و أفرض عقوبتى عليك لأنك أخلفت عقدنا الذى عقدناه.

التاجر : (مخرجا مجموعة من الدنانير من جيبه)

         خذ هذه الأكياس من الدنانير حتى أذهب و أعود إليك بالحصان.

البدوى : بل كل ما فى جيبك عدا ثمن الحصان , نحن لسنا بمكان مناسب للتفاوض و تلك المهاترات , أنا لست ساذجا , فأنا أعلم ثمن الحصان جيدا … أنسيت أننى أتعامل دوما مع أمثالك كلما مروا من هنا بحثا عن قطرة ماء ؟

لحظة صمت و نظرة مطولة من الطرفين تنتهى بإخراج التاجر لمزيد من الدنانير و يغلق الستار بشكل مؤقت.

 

 

المشهد الثالث

 

تكرار لنفس المشاهد السابقة غير أن الحصان الذى يصطحبه التاجر ليس كسابقه

البدوى : يا أهلا … طال انتظارى لك..

التاجر : ها هو حصانك

البدوى : لا تكن فظا يا رجل , ألا تلقى على السلام , تسألنى عن الأحوال .

التاجر : لا داعى للسؤال , تبدو على أفضل حال .

البدوى : و لكن الحصان لا يبدو كذلك … لم تخيب ظنى بك , كنت أتوقع محاولة أخرى للخداع , فأنت تتميز بالكذب و الغباء ككل بنى جنسك .

التاجر : ( بعصبية مفتعلة) خداع.. خداع .. خداع… ما نهاية هذا الحوار السخيف ؟؟ لقد فاتنى الكثير من الزمان فى التجوال من أجل حصانك … ألا تظن أنك عطلتنى عن تجارتى بما فيه الكفاية … لقد مللت , سئمت, اغتظت من أسلوبك المستفز … أنت رجل بلا حياة , يومك كأمسك كغدك , لا شئ مميز لحياتك العقيمة . قد تستمتع باستعبادى , هات لى الحصان , خذ لى الحصان , غير لى الحصان , ملعون هذا الحصان … هذا هراء , ألهذا الحد أنت تعانى من الفراغ ؟؟

البدوى : أخفتنى يا رجل بصوتك العالى .. أنت تعلم جيدا أنك أنت من فعلت بنفسك هذا كله , كم بجيبك من النقود ؟؟

التاجر : نقود ماذا ؟؟ ألم تأخذ كل ما كان معى عدا ثمن الحصان و هاهو الحصان أى أن جيبى يخلو من أى دينار.

البدوى : مازلت مصمما على التمادى فى الخداع و الكذب , هذا الحصان لا يساوى نصف ثمن الآخر , إنه بالكاد حمار … أتستغفلنى يا رجل ؟؟ ألا تعلم أن أموالك معى و أنى قد ألقيها بالبئر و أفقدك المزيد و المزيد عما وفرته من دنانير بشرائك هذا الحصان الرخيص.

التاجر : ماذا تريد منى يا رجل ؟؟ ماذا تريد ؟؟ هل استعبدتنى ؟؟

البدوى : أنت رجل مخادع و أنا أريد الثمن الذى أتفقنا عليه منذ زمن … هل هناك عيب بهذا ؟؟ و لأوفر على كلينا الكثير من الكلام فهنالك حل واحد , لا ثانى له , أن تذهب بحصانك العجيب هذا إلى حيث اشتريته  لتأتينى بالبديل المناسب.

التاجر : لن أفعل

البدوى : تتحدانى إذن ؟؟

التاجر : أنت من تفقدنى صبرى

البدوى : ستذهب أم لا ؟؟

التاجر : لا

البدوى : مازالت نقودك فى حوزتى

التاجر : أذكر هذا جيدا

البدوى : إذن فاعتبر أنه ليس معى شيء و اترك هذا الشئ الغريب الذى تدعى أنه حصان و أرحل.

التاجر : دون أن آخذ نقودى ؟؟

البدوى : هذا بكل تأكيد … دون تردد .

التاجر : يا سيدى , كن متفهما , ألا تعلم أن …

البدوى : (مقاطعا ) : هل تعلم أنت ؟؟ لقد جاءتنى فكرة نيرة , أعتقدها أفضل من كل ما فكرنا فيه من قبل .

التاجر : ألا وهى ؟؟

البدوى : أنا لا أحب المال , أو بمعنى أصح لا أريده , لا أحتاجه فى صحرائى هذه , سألقيه أمامك فى هذا البئر  كيسا تلو الآخر و أتمتع بالنظر إلى وجهك المتحسر , ستكون ملامحك حينها كافية لتطفئ نار صدرى و أعتبرها بديلا عن حقى المسلوب.

التاجر : يا رجل اعقل يا رجل … أجننت ؟؟ أتلقى بالمال فى البئر؟؟

يسحب أول الأكياس و يلقيه فى البئر و ينكشف فمه عن ابتسامة أكثر من عريضة.

التاجر : أنت مجنون , حقا مجنون … كل هذا بسبب قطرة ماء , فكيف الحال لو كنت خالقها ؟؟ لست مجرد مستفيد أحمق منها … بدوى غبى , لا تعى ما تفعله.

ينفرج فم البدوى عن ضحكة متألقة

البدوى : ألا ترى أنك الغبى الحقيقى , تضيع ثروتك و وقتك و جهدك لأنك تتلذذ بخداعى و تظن نفسك ذكيا و أنت أقل شأنا من ذلك بكثير . أود أن أراك و أنت تتابع كيسك القادم و هو يغرق داخل بئرى.

التاجر : توقف… أرجوك توقف… أنا غبى و مخادع و كاذب و ابن عاهرة إن أردت و لكن أترك لى مالى , أنت لا تحتاجه , و لكن أنا فى حاجة إليه, أرجوك.

البدوى : إذن فعليك بما اقترحته , تأخذ هذا العجوز إلى أهله و تأتينى بحصان آخر لا يقل عن الأول و لا يزيد .

التاجر : أظننى و مثل كل مرة مضطر أن أوافق.

البدوى : أظنك كذلك.

 

المشهد الرابع

 

التاجر : هاهو الحصان , أكثر شبابا من حصانى الأول و أشد بأسا و أكثر صحة و أقوى و أسرع و أجمل … أقسم لك أنه الأغلى بالسوق.

البدوى : كيف حالك ؟؟

التاجر : بخير , إن كنت لن تعاود الكرة نفسها مرة أخرى.

البدوى : لا أظننى سأفعل , فهو يبدو جيدا حقا .

التاجر (متنفسا بصوت عال) : الحمد لله .

البدوى : هاهى دنانيرك ( يعطيه الأكياس) , كاملة , حتى الكيس الذى ألقيته بالبئر . كان طافيا على سطح الماء , و لكنك كعادتك كنت غبيا بما فيه الكفاية ألا تلقى نظرة على كيسك الملقى  , تأكد أنهم كاملين إن أردت.

التاجر : أشكرك … أتعلم ؟ عندما ذهبت للسوق بآخر مرة تلك وجدت حصانى الأصلى معروضا للبيع , و لكننى خفت أشتريه فلا يعجبك و تدعى أنه ليس نفسه, فجئت لك بالأفضل و الأغلى من بين كل الخيول … سأقول لك شيئا آخر , لقد كنت محقا دائما , أنا حاولت خداعك كثيرا و لقد كلفنى هذا الكثير من وقتى و عمرى و دنانيرى , أنا خدعتك و بعت الحصان أول الأمر و ادعيت أنه سرق كما تصورت فعلا , و وجدته معروضا فى السوق منذ أيام  أغلى مما بعته , فعلمت أننى كنت غبيا فعلا.

البدوى : طالما قلت لك هذا ( يضحك ) , متى ستأتى ثانية ؟؟

التاجر : أنا لن أمر من هنا ثانية أبدا , لن ألدغ من هذا الجحر مرة أخرى , كفانى , و من الآن فصاعدا سأزيد من إرب الماء التى أحملها معى أثناء السفر حتى لا أحتاج إلى آباركم.

البدوى : و لكنك ستزورنى .

التاجر : و بكم ستعطينى شربة الماء ؟

البدوى : بعمرك ( يضحك)

التاجر : إذن فلن استطيع أن أزورك أكثر من مرة واحدة …. و لكن , و رغم كل شئ , لقد استمتعت بتلك الفترة المرهقة , لقد كانت مختلفة و غير تقليدية … لقد سعدت بلقاءاتك المتكررة , أو بمعنى أصح و كى لا أكون كاذبا , أنا لم أسعد بها بساعتها على الإطلاق أما الآن فأنا سعيد بها . سأستأذنك الآن أن أعود من حيث أتيت منذ شهر ضاع فى شربة ماء … فأنا مرهق جدا , لم أمتط سريرى منذ زمن بعيد , أفتقد نومتى و زوجتى و بيتى , سأتركك الآن و لكنى سأعود يوما ما …

 ( يتصفحان و يتقدم التاجر بعيدا بينما يقف البدوى و الحصان بجوار البئر )

البدوى : (صارخا ) ألم تنس شيئا ؟؟

التاجر : ( مستديرا) ماذا ؟؟

البدوى : حصانك يا رجل

التاجر: (مستغربا ) ماذا ؟؟ ( متقدما نحو البدوى )

البدوى : حصانك … أتظن أننى سآخذه مقابل شربة ماء عن جد ؟؟

التاجر : بالتأكيد لم تكن تمزح !!

البدوى : ستعيش و تموت غبيا … ألم تفكر للحظة واحدة ماذا سأفعل بهذا الحصان و أنا لا أتحرك من جلستى تلك… مثلما النقود لا تعنينى كثيرا و لن تفيدنى , فكذلك الحصان .

التاجر : (مستفزا) و لماذا فعلت بى كل هذا ؟؟

البدوى : ألا تشعر بمدى سخافة الحياة و ركود أحداثها و مللها و تشابه أيامها المستمرة دون توقف , ألا تسأم من استيقاظك و أنت تعلم أن يومك لا يحمل إليك الجديد… و لكنى كنت استيقظ كل يوم و أنا أنتظرك و أتساءل ماذا ستفعل هذه المرة , هل ستأتينى بنفس الحصان , أم ستتهجم على , أم ستأتينى بحمار كما الحصان و ماذا ستكون حججك … و إذا مر اليوم دون أن تأتى , أنتظرك باليوم التالى , حتى تأتى و نتجاذب الحديث المثير بيننا الذى كنت استمتع بتكراره بين أركان رأسى و أحاول بكل مرة أن أعيدك من جديد كى أستمتع بانتظارك … فكلما أمسكت بما أريد , بحثت عن جديد أنتظره , مهما كان تافها أو صغيرا , و لكن هكذا هى الحياة سلسلة من الانتظارات المستمرة دون أى معنى و دون أى هدف يذكر…  لكننا نتنظر تلك الأهداف فإذا لمسناها , نكتشف أننا نريد المزيد , نريد شيئا آخر , أبعد من أن تلمسه أيدينا , فنسعى و نبحث و ننتظر حتى نصل إليه لنجد شيئا آخر أبعد ننتظره … و كل دون معنى, مثلما كنت أنتظرك بكل مرة .

التاجر : أنت فيلسوف

البدوى : أنا أعلم الحياة…. و أملها… أرجع من حيث أتيت و أنا سأنتظر شخصا آخر , تاجر مثلك , ألاعبه نفس لعبتك … و لكنى لا أتوقع أن أقابل لاعبا ماهرا مثلك من جديد.

التاجر : لاعب غبي تقصد … سأعود كى ألقاك من جديد , و لكنى لن أحدد ميعادا لهذا كى أتركك تنتظرنى .

البدوى :  سأنتظرك … فذلك هو قدرى , ليس اختيارى .

 

( تغلق الستار لتعاد المشاهد من جديد و بشكل متتال دون توقف ) .

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم