حميد الشامي
عندما تلج إلى عوالم الفنان التشكيلي العراقي-البلجيكي ستار نعمة، لا تكتفي بالتحديق، بل تغرق في دهاليز اللون وسحر الرؤيا، وتشعر بحياة كاملة تتجلى في كل لوحة وعمل فني. إنه الرائي الذي نفخ الروح في كومة من الكرتون والورق، كما فعل في أحد معارض الكتاب ببغداد، حيث تحولت تلك المواد الجامدة إلى أجساد-أرواح أسرت الأنظار، وتفوق بجمالها لمعان اغلفة الكتب أو وجوه الناشرين والمؤلفين الخشبية.
بصمات لا تشبه غيرها: من بغداد إلى بروكسل
ولد ستار نعمة في العراق عام 1960، وشق طريقه في عالم الفن ليصبح واحدًا من أبرز الأسماء في المشهد التشكيلي المعاصر. بدأ مسيرته الفنية في بغداد، حيث درس الفن، ثم انتقل إلى بلجيكا في عام 1993، ليواصل دراساته الفنية في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة ببروكسل. هذا الانتقال الجغرافي والثقافي أثرى تجربته الفنية، وفتح له آفاقًا جديدة للتعبير، مع الإبقاء على الذاكرة متدفقة في نسيج غُرس بداخله. فأعماله الأولى، التي كانت تستلهم بعض تفاصيلها من البيئة العراقية، كانت تشبه ستار نعمة العراقي، ولا تشبه العراق-العراق؛ وهكذا كانت أعماله تولد ببيئة حية أخرى وجذور أخرى وأنفاس متعددة، تطورت لتشمل أبعادًا إنسانية لا نهائية الاحتواء أو التكهن.
لقد صارت أعمال نعمة محط اهتمام جماهيري واسع، فهو فنان فيلسوف، راوٍ باللون، يمضي ببصمات لا تشبه غيره. يحلق بأعماله إلى آفاق بعيدة، يغوص في تفاصيل لونية وتكتيكات دلالية تترك أثرًا عميقًا ودهشة في نفس المتلقي. في الوقت الذي ظل فيه الفن التشكيلي العراقي، في معظمه، ينبش في تفاصيل لونية مكررة من أبجديات التراث والموروث الجميل، استطاع ستار نعمة أن ينبثق بعوالم متداخلة لأكثر من حيز فني، ليجعل الإنسان، بجسده وأطواره وتوقه للحرية، محورًا لأعماله.
الإنسان واطواره محور ستار نعمة: رقص وغضب وضحكات ونجاة ولجوء
تتخذ لوحات وصور نعمة طابعًا نضاليًا مكافحًا، أو ساخرًا، أو حتى غرائبيًا، كلها تحمل تحديًا وجدية ورؤية فلسفية عميقة. تعبر أعماله عن مسارات متباينة، كأنها تحكي سيرًا ذاتية متوازية للإبداع والموهبة، للوطن والمنفى، للهروب والذاكرة، للانعتاق والمكوث، للرغبات والروح، للميثولوجيا والرواية، للفن والمصير.
من أبرز أعماله التي تجسد هذا التوجه مجموعته “رقصات الغضب”، التي تعكس الصراع الداخلي والخارجي للإنسان في مواجهة الظلم والقيد بتعدد فاعليه، وتُظهر الأجساد البشرية في حالات من التمرد والانفجار اللوني. بينما في سلسلة “صرخات الصمت”، يتناول نعمة قضايا الصمت والعزلة والبحث عن الذات في عالم مضطرب، مستخدمًا تدرجات لونية عميقة تثير التأمل. وتبرز أيضًا أعماله التركيبية، مثل تلك التي عرضها في معرض الكتاب، والتي أشارت إلى قدرته على تجاوز حدود اللوحة التقليدية.
فسيفساء الروح: حيث تلتقي الفنون والحياة بكل تجلياتها
وهكذا، يمضي بك ستار نعمة في غور دهاليز الشعور الأول، العطش الأول، الشوق الأول، الاكتشاف الأول، الحكاية الأولى، الرعشة الأولى، والرقصة الأخيرة. فالعيش لأجل الفن مهنة يتقنها وتحكم كل أوقاته. كأن هذا الفنان المتمرس قد وشم كل عمل فني لوحة او صورة بفسيفساء روحه، وحملها سيرة شاسعة للمكان والشعور والذكريات والأحلام التي تتعدد وتتداخل لتروي سيرًا متعددة لعالم من التبلورات الوجودية للذات المبدعة، ولمرآتها في اكتمالات رؤيوية وإبداعية أخرى، تتجلى في الشعر والنثر والقصة والحكي والرقص والمسرح والسينما. إنه فنان لا يرسم فحسب، بل ينسج حكايات عميقة تمضي معك إلى أعماق الدهشة والمرايا.