عن الكتابة والحب في حياة أنطون تشيخوف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سأبدأ بتحذيرٍ موجّه إلي من لم يقرأ هذا الكتاب بعد، أو من هو لازال في صفحاته الأولي؛ أما من تورّط

فيه بالفعل، فإنه يعرف ما سأقوله.

حين تمسك بكتاب "أنطون تشيخوف رسائل إلي العائلة"* ضع في اعتبارك تأثيره عليك، هو ليس بكتابٍ

عادي، لن يمكنك قراءته قراءة عابرة؛ ولا بالإشتراك مع كتبٍ أخري في نفس اليوم ولا حتي نفس

الأسبوع .

أن تقرأ كتاب رسائل تشيخوف معناها أنه سوف يصيبك مسٌّ من الشغف؛ لن تستطيع أن تفكر في شيءٍ آخر

سواه؛ ولن تستطيع أن تقرأه مرة واحدة ؛ بل ولن تستطيع أن تتركه في مكتبتك بعيداً عنك لكنك ستحرص

علي قربه منك كلما أتيحت الفرصة، ستعود إليه كثيراً، ثم تمقته وتكره التأثير الذي خلّفه داخلك وتقسم أن

تلقيه بعيداً؛ ثم ما تلبث أن تحن إلي هذا الألم غير المفهوم (أو المفهوم ربما) الذي تسبب لك فيه وغرسه

بداخلك.

أما إن كنت كاتباً وإن كنت قد جرّبت العشق، فالتحذير يجب أن يكون مضاعفاً، بل كان يجب أن يُكتب علي

الغلاف بخطٍ واضح.

أكررها.. إن كنت كاتباً أوإن كنت قد جرّبت العشق، أجِّل خططك كلها، فأنت ستبدأ رحلة مع هذا الكتاب

 ستتمني أحياناً لو لم تقم بها أبداً، لكن بمجرد أن تشرع فيها لن تستطيع العودة .

مع تلك الرسائل ما من عودة.

هل تظن أني أبالغ وأعطي للأمر أكثر مما يستحق؟ جرِّب بنفسك لكن تذكر أني حذرتك.

علي مدي مائة وثلاث وخمسين صفحة من تلك الرسائل ، سأتوقف فقط عند شيئين: علاقة تشيخوف

بالكتابة؛وعلاقته بزوجته.

حيث يجبرنا علي مواجهة أكثر ما نخشاه في الكتابة وفي الحب.

أن تتسبب الكتابة في ضياعنا؛ وأن نبتعد عمن نحب.

ألم أخبرك؟ الآن الدموع في عينيك، وترتجف بشدة.

اغفر لي.. فأنا مثلك وأكثر.

أما تشيخوف نفسه فهو لا يحتاج أن نصفح عنه،فهو لم يكتب تلك الرسائل لنا بل لهم؛ نحن الذين

تلصصناعليها فأصابتنا لعنتها.

عن الكتابة يقول:

“أحلم بأن أربح أربعين ألفاً،لأتوقف تماماً عن الكتابة التي أزهدها، سئمت العمل الدائم بالكتابة للحصول علي

مقابل ضئيل بينما يتقدَّم بي العمر حثيثاً”

ويقول أيضاً:

“إن الأدب موجود دائماً في الخلفية. لم أعد أرغب في الكتابة، وحقيقةً من الصعب الجمع بين الرغبة

في الحياة والرغبة في الكتابة.”

سأصمت قليلا الآن..

نحن بحاجة لفترةٍ من الصمت بعد كلماته تلك..

…….

…….

نعم هو علي حق تماماً..فمن الصعب فعلاً، بل ومن المستحيل أن ترغب في الكتابة وفي الحياة في نفس

الوقت.

لكن هل تصدق أنه رغب فعلاً بالتوقف عن الكتابة؟أعتقد لا

ربما هذا فقط كلام يقوله المرء أحياناً، مثلما نقول سنتوقف عن طيبة القلب التي تسبب لنا المشاكل؛ ثم

نكرس أنفسنا لمساعدة أول شخص يحتاج إلينا.

والآن ماذا عن الحب؟ ماذا عن تلك الرسائل إلي زوجته أولجا كنيبر التي اضطرت أن تقيم بعيداً عنه للعمل

في مسرح موسكو أثناء اضطراره الإقامة في يالطا بسبب حالته الصحيه.

تلك مقتطفات من ثلاث رسائل :

“كنت قد عقدت العزم علي عدم الكتابة لكِ، لكن بعد أن أرسلتِ الصور،تراجعت عن موقفي، وها أنا أكتب

 لكِ. بل إنني سآتي إلي سيفايتوبول”

“لديّ مفاجأة لكِ ،لن أكتب لكِ مجدداً إلا بعد أن ترسلي لي صورتك (بورتريه)”

“متي سترسلين لي صورك؟ يا لها من خيانة”

ما هذا الهوس بالصور إلي الحد الذي يجعله يهددها بعدم الكتابة لها؟ 

ما هذا الإلحاح الهيستيري في طلبها في كل رسالةٍ يكتبها؟

ما هذا سوي اكتشافه معني أن يبتعد عن زوجته؟

ما هذا سوي تعمد للقسوة، لكنها تلك القسوة الحنونة الدافئة ،حتي تذيبها كلماته فتترك كل شيء وتهرع إليه؟

هو لا يحتاج الصور..هو يحتاج إليها هي..

لكنه لا يستطيع أن يخبرها بذلك،لأنه يعلم أنها لن تستطيع المجيء إليه مهما كانت تريد.

ها هو يقول لها:

“إذا لم نكن معاً فهذا ليس خطؤك أو خطأي؛ بل من تخطيط الشيطان الذي بذر داخلي الميكروبات وبذر

 داخلك حب الفن”  *

وفي النهاية فإن تشيخوف فارق الحياة.

أما الكلمات الأخيرة في الكتاب فهي رسائل كتبتها أولجا إليه بعد وفاته قائلة:

“الآن بينما أكتب إليك، يبدو الوضع غريباً لكن تسيطر عليّ رغبة عارمة في القيام بذلك.

وبينما أكتب إليك، أشعر أنك علي قيد الحياة ،هناك في مكانٍ ما تنتظر تلك الرسالة.

حبيبي الغالي، أين أنت الآن”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كتاب أنطون تشيخوف رسائل إلي العائلة ترجمة ياسر شعبان الصادر عن مجلة الدوحة نوفمبر 2014

* من مدونة بعنوان المترجم لياسر شعبان

مقالات من نفس القسم