“عن الذي يُربي حجرًا في بيته”.. الحياة بين قوسين.

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 حسام المقدم 

كتابة "الطاهر شرقاوي" مخلصة -حد التوحد والتفاني- للهواء الذي تتنفسه. هواء لا يغادر الشوارع المحيطة ومداخل العمارات والمقاهي المُرتادة، نظرات العابرين وفتارين المحلات وإيماءة قطة أو كلب. بل حتى الأحجار غير العادية التي تُخبئ الكثير في تماسكها اللوني اللافت للنظر. 

في رواية “فانيليا” كان الولد الكاتب وكانت البنت الغريبة المغتربة العائشة على راحتها في الشقة مع الكنبة والديناصور الصغير الأخضر الجميل” أبريل”! كان فكرة في أحلامها، ثم صحت فوجدته أمامها: (أنت أبريل.. أليس كذلك؟ هز الديناصور رأسه وابتسم). هناك مشط خشبي مسكون بالعشق. يراقبها الولد وهي تمشي حافية في الشارع بقدميها الصغيرتين، حاملة صندلها في يدها. تحتفظ في أدراجها بأشياء مختلفة من زلط ملون وعملات قديمة وقرون خروب جافة ومكاحل خشبية. لا نعرف عن الولد الكثير سوى أنه يكتب، والكتابة لديه انتقام من محصل النور والفاكهاني الغشاش ومخبر الحكومة والأتوبيس المتأخر، وأن كل حبيباته تحتوي أسماؤهن على حرف السين. هذه المرة، وفي متتالية موسيقية على ذات اللحن الأسيان، ينقل الطاهر موسيقاه للولد الكاتب الذي “يربي حجرا في بيته”، المتوحد غريب الأطوار، الساكن وسط جيران وأصدقاء كلهم حرف ال”س”. لهذا الحرف حضور لاشك: إنه السر، الهسيس الخافت الذي تهمس به الشخصية المنطوية لنفسها، مخافة أي شيء متوقع الحدوث، في تلك الحالة من الارتياب القدري الدائم. في هذه الكتابة لابد من التوقف أمام كل شاردة تبدو عادية، لكنها ليست كذلك بالنسبة لهذا المتوحد المتوجس الخائر على الدوام، عاشق الأحجار الملونة بمختلف الأحجام، أقربها لنفسه هو البني الذي يكاد أن يسيل في الفم بطعم الشيكولاته! في عمق الليل، ونباح قطيع الكلاب الحاجز لمرور البشر، يمر هو بسهولة بعد صمت مفاجئ للنباح وهدوء الكلاب، وقطة جاره تقفز من شباك الصالة لتأتي إليه. الحجر نفسه يُكلمه، أو هكذا يتخيل، ويطلب منه أن يرفع صوت الموسيقى قليلا. هو ليس صوفيا ليصل إلى هذا التوحد مع الوجود، وليس بوذيا خاض قتل ذاته ليعبر إلى الأسمى والأنقى. إنه واحد عادي هش ومرهق ومتجنب لكل مصاصي الدماء من البشر، هؤلاء المقتحمون الثقيلون على الدوام. إنه ببساطته، وأحلامه القليلة صوفي وبوذي وكل ما يمكن: (تخيل: قمر يطل عليك من السماء، وليل، وصبار، ونسمة هواء باردة تدغدغ الجسد الساخن، إنها الجنة بالنسبة لي). لقد اعترف لأصدقائه عن سر صمته بأنه يصمت (كي أسمع العالم). وسماع العالم هو في أصوات الأقدام على مدخل العمارة، في انسحاب الظل على الجدران، في رؤيته لنفسه أيام الجيش وعدم القدرة على استيضاح أكان هو أم لا، في شتائم الجار الليلية للحكومة والجيران ونفسه، في القلم الذي يضيع فجأة فيعرف أن إخوته – هذه الكائنات غير الأرضية كما أخبرته أمه قديما- جاءوا للعب معه.

  في بداية الرواية اتصال من “سيرين” تُذكره بموعد الغد. سيرين تحب الحياة كما البنت في “فانيليا”، تضحك وتتقافز ضحكتها وتجري. واللحن هذه المرة يعزفه الولد المنتظر للموعد الذي تنتهي الرواية بأنه على وشك الذهاب إليه. يوم واحد في حياته، متوحدا غائبا مع أصوات العالم، وعبر لغة انسابت لينطق معها الحجر والداخل المتواري. فصول تُسلم لفصول بمزاج قصصي لا يخفى، وذات قادرة – في زمن الزحام والتوهان والدخان- على التوقف والشرود مع قطة تلحس بطنها ثم تغفو، لتبدو الحياة كفاصلة بين قوسين، اقتباس من نص حالم لحياة أخرى يمكن أن تُعاش. 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي مصري 

مقالات من نفس القسم