عن الانتقائية ولغة السرد.. في نصوص ياسر عبد اللطيف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مجاهد الطيب

 يتصدر رواية " قانون الوراثة "  فصل صغير  معنون بـ  "مقدمات " ، من هنا تبدأ الجولة التي  يمر فيها الرواي ، بما انتقاه ، مرورا عابرا وغير عابر ، يعتمد لغة شديدة الإيجاز تلامس الطفولة والأب والمدرسة والأصدقاء ، تقترب جدا – دون تفاصيل -  من " دنيا " التي ستحتل  حياته لسنوات طويلة .يظهر المدرس حارس الخلق القويم لينهره :  " " مسافر أبوك للسعودية .. أنت الأخ الأكبر .... قدوة حسنة ......صدق الله العظيم ".فضلا عن أن الجملة الأخيرة حولت نصيحة المدرس (المسئولة ) إلى مسخرة ، فإنها تعتمد الإيجاز ، الاقتصاد في اللغة هناقد يسرب نفاد صبر أو هروبا فوريا من عفاريت  التزيُّد  ،  مما قيل وعيدَ  في كتب أخرى!  - قانون الوراثة هي العمل السردي الأول للكاتب. الكتابة الأولى قد تتفادي  المشتبهات من التفاصيل . التفادي الزائد قد يجور .الكتابة الأولي – في حالتنا هذه - كالكتابة الخبيرة في شيء ، كلٌّ يوقر هاجس الاستغناء ، لكن لدوافع مختلفة . ماجاء عابرا في المقدمة سيعاود بعضه الظهور لاحقا .وستفاجئك الرحلة بغيره . في كل الأحوال الفصل الأول سيدفعك  إلى ما يلي من فصول ، أو كما قيل  :  " المقدمات تبني  قارئا "  .

عبر رواية ومجموعة قصصية ومجموعتين شعريتين  صار واضحا أن  ياسر يشتغل على وقائع من حياته الشخصية البعيدة والقريبة . أثناء القراءة قد يصحبك سؤال عن الكاتب/ الرواي ، عن السيرة الذاتية ( هو سؤال بائس لكنه موجود! ) . بعد القراءة يخفت السؤال تدريجيا ، ينشأ سؤال آخر يزحزح هذه الفرضية ولايلغيها . المراوحة بين الفرضية وبين إلغائها ولّدت عندي انشغالا : ما الذي جرى لسؤال السيرة ؟ من أين تأتي العذوبة ؟ لِمَ تسير مختارا مع الراوي ( قانون الوراثة ) مستمتعا ، متسامحا مع فراغات يتركها ليعبرإلى غيرها .

الرواي يستمسك بلحظة آنية  طويلة يميِّز مزيتها  ؛ لكونها لحظة كـ ” صفير ممتد لم ينقطع كموسيقى تصويرية لهذا المشهد . تركيب النغم الصالح لاستدرار الحنين لمشهد أنتج آلاف المرات ورسخ في الذاكرة التي سيداعبها اللحن فيبعث المشهد “ ، وأحيانا يعود إلى الطفولة  حيث الطريق المفروش بالعجين من البيت إلى المدرسة ، ومع ذلك يظل منتظما ،  أو إلى الشوارع التي حفظها عن ظهر قلب ليس لأنها – فقط –  ملاعب الطفولة ، وإنما – أساسا- لأنها تحمل تاريخ العائلة ، لا يتحرى تاريخ الطفولة وما يليها لمساءلته أو للقاء نفسه هناك بعد لأي ، لكن لحكايته ، الحكاية هنا مرادف للمشي ، منذ القراءة الأولى أشعر كأنني أمشي في جولة طويلة رغم قصر الرواية ، الجولة تستهدف أصلا المرور ( الثقيل ) على حوادث وشخوص . لعل  وعسى ! فكرة المشي  لها أصل في الكتاب : نزول الراوي من المترو داخلا مخمد محمود (باب اللوق ) ، ثم عابدين وما حوله ، المكان الشاهد على صعود ” الجد ”  درجة في سلم الحياة  . هذا الفصل ( الفاشيون ) الذي يقضيه الراوي ماشيا ، في قراءتي الأولى لقانون الوراثة جعلني أعممه على الرواية ككل ؛ تمشي جوارالرواي  تنتظر ما لا يتوقع ، خصوصا بعد ظهور حنا !! . محمد محمود سيوصله إلى شارع قولة ، و” قولة “سيفضي به إلى الشارع الحارة ( البلاقسة ) المحل المختار لكازانوفا شعبي ، يقدم خدماته لمنطقة محدودة ، إلا أنه – باقتدار – يغطيها بالكامل  ، إنه حنا ، بيّاع الهوى  والجاز . وسط هذه الجغرافيا سيحضر الجد ، لأسباب معقدة يعزف الجد عن الحياة ويغدو مكتئبا ، لا أحد يستطيع الاقتراب من بوابة الجد  الموصدة ، سوى فتحي ، صاحب المغامرة الخطرة مع شباب الفاشيين….

 

لمَ تسيرُ مختارا مع الرواي ؟ الإجابة في كلمة واحدة : الانتقائية ، بكلمات أكثر : الانتقائية الصارمة التي هي بداية مطاف ، بعد الرمية السردية الأول ، يتعقد قانون الانتقاء ، إذ عليه أن يتسلم  ويسلم بشروط ، إلامَ يسلم ؟   قانون الانتقاء أعقد من ذلك . الانتقائية حاضرة في أعمال أخرى تختلف عن هذه النصوص في الدوافع والأهداف . فما الجديد ؟  هل من المناسب هنا  أن نستخدم  تعبيرإمبرتو إيكو ” إكراهات الكتابة ” ؟هل الانتقائية واحدة من إكراهات الكتابة عند ياسر ؟ الانتقاء لا يلعب بمفرده ،  يتحاور مع غاياته ، كل منهما يحفز الآخر ؛ فـ ( الإكراه هو الذي يمكن الرواية من التطور وفق معنى محدد من جهة ، ومن جهة ثانية فإن فكرة هذا المعنى ، التي لا تزال غامضة ، هي التي توحي بهذا الإكراه  ).

   الانتقائية هنا منحت ( الوقائع) ” نفَسا روائيا ” . عندما يحضر الحس الحكائي تحضر متطلباته ، تتعين أداته الفارزة مرة ، الجالبة أحيانا  لوقائع لا تمتُّ بصلة ، لكنها تنتمي وبقوة ! ،  يصير للوقائع كلمتها  التي تفضي إلى  ظهور متغير جديد ، هذا المتغير يعيد توزيع الأنصبة على مشاهد السرد طبقا لاستحقاقات آنية ، أو دواع جمالية ، أو هكذا رمية مقامرة ! ، فلا  يعود ” هل حدث بالفعل ؟ ” سؤالا ذا معنى  ؟ ” . النفس الروائي ” لا تستحضره الانتقائية فقط ، لكن اللغة بالأساس ، اللغة تنتقي تميز ما آنَ له أن يقع تحت طائلتها ، ويُعجب ! إعجاب السارد ذاته ، قبل الإعجابات المنتظرة  .

   الانتقائية عند ياسر تتعين  أيضا في معدلات الاهتمام بما ظهر فعلا  في العمل ، يتبدى ذلك في المرور العابر ببعض التفاصيل ، والتباطؤ عند البعض الآخر ، في الحالة الأخيرة تعلو أهمية طريقة الحكي على المحكي ، (كنت قد تحدثت مع  ياسر عن هذا الملمح ، فأخبرني أن أستاذنا الكبير علاء الديب أشار إليه في قراءته لقانون الوراثة) .في هذه الحالة  يحدث نوع من التلكؤ المستحب ، كأن الكاتب لا الراوي يريد لما يحكيه أن يطول ، أن يأخذ زمنه العادل .التلكؤ هنا لا يعني التزيد في ذكر التفاصيل ،  إنما  يشير إلى  إطالة أمد القراءة .قد يكون مبعثه الطريقة الخاطفة للتعبير الشعري التي تستدعي بدورها تلقيا هادئا ، أو السخرية التي هي أحد ملامح لغة السرد في هذه النصوص ، السخرية التي تجتهد لتقول ما لم يقل بغيرها ، أو لتقول المضاعف ، أو لنقل السخرية التي ( تجعل العمل يزهر عموديا ) .  أحسبه أحد أهم ملامح الكتابة عن ياسر ،  كأن اللغة ( التعبير) – بتصعيد خفيف منا – حاضرة قبل المشهد ، والبحث جار عن الوقائع ! هذه سمة شعرية لا نثرية ، أتصور أن التنازع بين أولوية المشهد السردي وأولوية التعبير أفضى إلى محصلة مختلفة في المجموعة الأخيرة . في ” يونس في أحشاء الحوت” نلمح خبرة التجول  في سنوات العمر وقد ارتفعت درجات ، إذ صارت الانتقائية ” إكراها ” يتولد عنه عدد من الخيارت الحرة!  يعمل الكاتب هنا على وحدات صغيرة ، يبحث  عن رواية بعينها للحادثة ، لم يعد – في الغالب – منشغلا بمجرد التخفف بالحكاية ، الحكاية صارت بعيدة – لزمت حدودها ، فصار اللعب معها محتملا ( بالمعنيين )  .يجب أن أتذكر هنا ” قصة “ترتيب  الأرفف ” كنموذج دال .في حين أن اللغة في ” قانون الوراثة ” يقع عليها العبء الأكبر لجعل الحكاية الشخصية للجميع .نرى الكاتب في ” يونس في أحشاء الحوت ” يستعين بوسائل مضافة ؛ بحثا عن ” مَلْكَة ” نوعية للحكاية ، قد يروي الحكاية من آخرها ، أو يشي إليك صراحة أو ضمنيا أنه سيتغاضي عن بعض التفاصيل ، قد يناقش معك حيلته بصوت عال .

تبدأ قصة”ترتيب  الأرفف ”  بحلم ( الرجوع إلى أيام المدرسة  بنفس العمر الحالي ) ، الهدف من العودة إصلاح خطأ وقع هناك . الحكاية الأساس تأخذ سطورا محدودة في القصة ؛ لتفسح المجال لآلية الرجوع إلى الماضي كي تشرح نفسها عبر مشاهد متباعدة متقاربة : فيلمي ” العودة إلى المستقبل ” و ” فورست جامب ” اللذين يصادفان الرواي  ، نظرا لطبيعة عمله !  – الرجل الذي يشرب سينالكو الثمانينيات في 2008 – الطبيبة التي تحضر في الحلم وما بعده . في عيادتها ، في الأحلام يتحول شريط الصوت الخاص بالرواي  إلى فيديو يعرض على شاشة كبيرة ، يتفحص مشاهد  تتعلق باليوم البعيد القريب .مسألة الشاشة – كمثل من أمثلة –   تخبر عن توسل حكائي آخر ، يحمل عن اللغة ما كان  أحد تبعاتها.

   في الصفحات الأولى من”  قانون الوراثة ”  يتحدث الرواي عن عودة الأب من الخليج  وانتظامه في حياة الأسرة مرة أخرى ، لن يصرح بسلطة الأب  سيلّمح  فقط ” ضبط وربط . أين تذهب هذا المساء “ ، وفي حديثه  عن الطريق بين البيت والمدرسة ” إنما التدخين وسيلته الوحيدة للاحتجاج على طول الطريق  المفروش بالعجين  “ هاتان الجملتان تكشفان بعضا من  سمات لغة السرد عند ياسر عبد اللطيف . فضلا عن الإيجاز تشير الجملة الأولى إلى اللعب مع اللغة ؛ إذ تتحول “أين تذهب هذا المساء “من جملة مولدة لخيارات مبهجة إلىمساءلة   تنتظر- حالا – جوابا شافيا وإلا ،  فيما تؤشر الجملة الثانية على ” تفصيح ” التعبيرات العامية  . دون بحث يمكن أن أتذكر هنا جملة من  ديوان ” جولة ليلية ” تندمج فيها المفردة العامية داخل سياق  فصيح:  ” تنحبس فيها أنفاس قطر بأكمله لتهدر القادرة جددت حبك ليه ” عن أم كلثوم – القصبجي    ( أشار صديقنا العزيز هاني درويش مرة إلى  الملمح الأخير ، وعن رغبته في تتبعه في نصوص ياسر – صباح الفل يا هانوش ) .

 تميل لغة السرد إيضا ، في أحد مستوياتها ، إلى الطرافة : طرافة المفردة وطرافة التركيب ، في سبيل  الطرافة قد تجد نفسك  أمام مفردة مهجورة  أو تركيب تراثي بامتياز.

   قد تسأل نفسك ، وأنت تقرا :  لِمَ يقول المؤلف : ” بولاق أبي العلاء ” / أو وعلى القمطر في اللجنة أصبت بما يشبه الدوار.او هلا أعطيتني سيجارة يا سلمون / أو في وصفه لأحمدشاكر : هضيم الوجه أسوده ……لماذا لا يقول مثلما نقول ؟!.

  هل التراثي هنا يأتي نتيجة أن الطبقة الأولى ( وهي طبقة ذات شأن ) من اللغة عند الكاتب تراثية بحكم القراءات الأولى أو النشأة ؟ لا أعرف.

   يبدو لي هذا المنحى أحيانا  مزاجا شخصيا ، وفي أحيان أخرى يظهر كآلة للمفارقة وتوليد السخرية  ( أبلى الطلاب اليساريون وطلاب اليمين القومي  بلاء حسنا “وقد يظهر لتزويد المشهد السردي بمؤثرات زمانه .

   عموما الطرافة هنا وما ينتج عنها من سخرية تتحرى الظرف لا الاستظراف ، مس خفيف يبعث الابتسام لا الضحك المفرط .الابتسام – على خلاف الضحك – أقرب إلى حدث فردي ، ينطوي على استجابات مختلفة  ، وإن ابتسم الجميع.

   أخيرا لدي فكرة عن أحد  ظهورات اللغة عند ياسر ، لا أعرف حظها من الوجود ، ولا أملك دليلا ملموسا عليها ، لكني سأحاول :                                                                                                    

يتسلمك الحزن أو الفرح أحيانا في صورة أصلية لا تتكرر،  الحزين مثلا في هذه الحالة قد يرى نفسه يمشي مختصرا كل الحزانى الذين راقوه في فيلم أو في الحياة ، ومن كل صوب ، فيصير ممتلئا بآخرين ، يرى نفسه موكبا لا فردا . لكن لا أحد  يستطيع أن يماري في أن المذكور حزين لأسبابه ، هو حزن أو فرح- رغم كل هذه الجلبة –  لا تنازع على ملكيته . أحيانا يبدو خطاب ياسر قريبا من هذا ،نصبح بإزاء  مفهوم الكتابة المحبب عند الكاتب ،  أو لنقل جلالة الكتابة  ، نجد نبرة الصوت تتسع لآخرين يسيرون معه ، يلعبون لصالحه ،  خصوصا في الفقرات التي تأتي لتمهد لحدث ، أو ترسم مسرحا . سأضرب مثلا من ” يونس في أحشاء البحر ” :

” خرج الطلاب في الصباح الباكر إلى المدارس في زحام كأنه الخروج الكبير ، خروج اليهود من مصر المنازل جنة العسل واللبن ،  والصحراء سماء لاهبة ، تدافع بالمناكب، راكبو دراجات وأغلبية من المشاة وفي قلب المعمعة لمحتها ..”

 أخيرا أخيرا  بمناسبة الغرام بالغريب والمهجور الذي هو مزاج شخصي ، بمعنى أن مجال عمله يبدأ من الحياة  ويمتد إلى الكتابة  أتذكر هنا :  مرةً بعد أن شربنا شايا وشايا ،  قال ياسر بمجاملته  المعهودة  بعد أن صوَّب سبابته بلطف :  ( جديد القميص ده  يا ميجو . صح ؟  قشطة عليه  ، قطع كام ده ؟ ) .هي وصلت لـ  قطع كام ؟! . كان يقولها بطريقة عادية ، لا يرجو من ورائها شيئا ، لا ضحكة ، ولا حتى ابتسامة ،  أو هكذا فهمت .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم