عبر رواية ومجموعة قصصية ومجموعتين شعريتين صار واضحا أن ياسر يشتغل على وقائع من حياته الشخصية البعيدة والقريبة . أثناء القراءة قد يصحبك سؤال عن الكاتب/ الرواي ، عن السيرة الذاتية ( هو سؤال بائس لكنه موجود! ) . بعد القراءة يخفت السؤال تدريجيا ، ينشأ سؤال آخر يزحزح هذه الفرضية ولايلغيها . المراوحة بين الفرضية وبين إلغائها ولّدت عندي انشغالا : ما الذي جرى لسؤال السيرة ؟ من أين تأتي العذوبة ؟ لِمَ تسير مختارا مع الراوي ( قانون الوراثة ) مستمتعا ، متسامحا مع فراغات يتركها ليعبرإلى غيرها .
الرواي يستمسك بلحظة آنية طويلة يميِّز مزيتها ؛ لكونها لحظة كـ ” صفير ممتد لم ينقطع كموسيقى تصويرية لهذا المشهد . تركيب النغم الصالح لاستدرار الحنين لمشهد أنتج آلاف المرات ورسخ في الذاكرة التي سيداعبها اللحن فيبعث المشهد “ ، وأحيانا يعود إلى الطفولة حيث الطريق المفروش بالعجين من البيت إلى المدرسة ، ومع ذلك يظل منتظما ، أو إلى الشوارع التي حفظها عن ظهر قلب ليس لأنها – فقط – ملاعب الطفولة ، وإنما – أساسا- لأنها تحمل تاريخ العائلة ، لا يتحرى تاريخ الطفولة وما يليها لمساءلته أو للقاء نفسه هناك بعد لأي ، لكن لحكايته ، الحكاية هنا مرادف للمشي ، منذ القراءة الأولى أشعر كأنني أمشي في جولة طويلة رغم قصر الرواية ، الجولة تستهدف أصلا المرور ( الثقيل ) على حوادث وشخوص . لعل وعسى ! فكرة المشي لها أصل في الكتاب : نزول الراوي من المترو داخلا مخمد محمود (باب اللوق ) ، ثم عابدين وما حوله ، المكان الشاهد على صعود ” الجد ” درجة في سلم الحياة . هذا الفصل ( الفاشيون ) الذي يقضيه الراوي ماشيا ، في قراءتي الأولى لقانون الوراثة جعلني أعممه على الرواية ككل ؛ تمشي جوارالرواي تنتظر ما لا يتوقع ، خصوصا بعد ظهور حنا !! . محمد محمود سيوصله إلى شارع قولة ، و” قولة “سيفضي به إلى الشارع الحارة ( البلاقسة ) المحل المختار لكازانوفا شعبي ، يقدم خدماته لمنطقة محدودة ، إلا أنه – باقتدار – يغطيها بالكامل ، إنه حنا ، بيّاع الهوى والجاز . وسط هذه الجغرافيا سيحضر الجد ، لأسباب معقدة يعزف الجد عن الحياة ويغدو مكتئبا ، لا أحد يستطيع الاقتراب من بوابة الجد الموصدة ، سوى فتحي ، صاحب المغامرة الخطرة مع شباب الفاشيين….
لمَ تسيرُ مختارا مع الرواي ؟ الإجابة في كلمة واحدة : الانتقائية ، بكلمات أكثر : الانتقائية الصارمة التي هي بداية مطاف ، بعد الرمية السردية الأول ، يتعقد قانون الانتقاء ، إذ عليه أن يتسلم ويسلم بشروط ، إلامَ يسلم ؟ قانون الانتقاء أعقد من ذلك . الانتقائية حاضرة في أعمال أخرى تختلف عن هذه النصوص في الدوافع والأهداف . فما الجديد ؟ هل من المناسب هنا أن نستخدم تعبيرإمبرتو إيكو ” إكراهات الكتابة ” ؟هل الانتقائية واحدة من إكراهات الكتابة عند ياسر ؟ الانتقاء لا يلعب بمفرده ، يتحاور مع غاياته ، كل منهما يحفز الآخر ؛ فـ ( الإكراه هو الذي يمكن الرواية من التطور وفق معنى محدد من جهة ، ومن جهة ثانية فإن فكرة هذا المعنى ، التي لا تزال غامضة ، هي التي توحي بهذا الإكراه ).
الانتقائية هنا منحت ( الوقائع) ” نفَسا روائيا ” . عندما يحضر الحس الحكائي تحضر متطلباته ، تتعين أداته الفارزة مرة ، الجالبة أحيانا لوقائع لا تمتُّ بصلة ، لكنها تنتمي وبقوة ! ، يصير للوقائع كلمتها التي تفضي إلى ظهور متغير جديد ، هذا المتغير يعيد توزيع الأنصبة على مشاهد السرد طبقا لاستحقاقات آنية ، أو دواع جمالية ، أو هكذا رمية مقامرة ! ، فلا يعود ” هل حدث بالفعل ؟ ” سؤالا ذا معنى ؟ ” . النفس الروائي ” لا تستحضره الانتقائية فقط ، لكن اللغة بالأساس ، اللغة تنتقي تميز ما آنَ له أن يقع تحت طائلتها ، ويُعجب ! إعجاب السارد ذاته ، قبل الإعجابات المنتظرة .
الانتقائية عند ياسر تتعين أيضا في معدلات الاهتمام بما ظهر فعلا في العمل ، يتبدى ذلك في المرور العابر ببعض التفاصيل ، والتباطؤ عند البعض الآخر ، في الحالة الأخيرة تعلو أهمية طريقة الحكي على المحكي ، (كنت قد تحدثت مع ياسر عن هذا الملمح ، فأخبرني أن أستاذنا الكبير علاء الديب أشار إليه في قراءته لقانون الوراثة) .في هذه الحالة يحدث نوع من التلكؤ المستحب ، كأن الكاتب لا الراوي يريد لما يحكيه أن يطول ، أن يأخذ زمنه العادل .التلكؤ هنا لا يعني التزيد في ذكر التفاصيل ، إنما يشير إلى إطالة أمد القراءة .قد يكون مبعثه الطريقة الخاطفة للتعبير الشعري التي تستدعي بدورها تلقيا هادئا ، أو السخرية التي هي أحد ملامح لغة السرد في هذه النصوص ، السخرية التي تجتهد لتقول ما لم يقل بغيرها ، أو لتقول المضاعف ، أو لنقل السخرية التي ( تجعل العمل يزهر عموديا ) . أحسبه أحد أهم ملامح الكتابة عن ياسر ، كأن اللغة ( التعبير) – بتصعيد خفيف منا – حاضرة قبل المشهد ، والبحث جار عن الوقائع ! هذه سمة شعرية لا نثرية ، أتصور أن التنازع بين أولوية المشهد السردي وأولوية التعبير أفضى إلى محصلة مختلفة في المجموعة الأخيرة . في ” يونس في أحشاء الحوت” نلمح خبرة التجول في سنوات العمر وقد ارتفعت درجات ، إذ صارت الانتقائية ” إكراها ” يتولد عنه عدد من الخيارت الحرة! يعمل الكاتب هنا على وحدات صغيرة ، يبحث عن رواية بعينها للحادثة ، لم يعد – في الغالب – منشغلا بمجرد التخفف بالحكاية ، الحكاية صارت بعيدة – لزمت حدودها ، فصار اللعب معها محتملا ( بالمعنيين ) .يجب أن أتذكر هنا ” قصة “ترتيب الأرفف ” كنموذج دال .في حين أن اللغة في ” قانون الوراثة ” يقع عليها العبء الأكبر لجعل الحكاية الشخصية للجميع .نرى الكاتب في ” يونس في أحشاء الحوت ” يستعين بوسائل مضافة ؛ بحثا عن ” مَلْكَة ” نوعية للحكاية ، قد يروي الحكاية من آخرها ، أو يشي إليك صراحة أو ضمنيا أنه سيتغاضي عن بعض التفاصيل ، قد يناقش معك حيلته بصوت عال .
تبدأ قصة”ترتيب الأرفف ” بحلم ( الرجوع إلى أيام المدرسة بنفس العمر الحالي ) ، الهدف من العودة إصلاح خطأ وقع هناك . الحكاية الأساس تأخذ سطورا محدودة في القصة ؛ لتفسح المجال لآلية الرجوع إلى الماضي كي تشرح نفسها عبر مشاهد متباعدة متقاربة : فيلمي ” العودة إلى المستقبل ” و ” فورست جامب ” اللذين يصادفان الرواي ، نظرا لطبيعة عمله ! – الرجل الذي يشرب سينالكو الثمانينيات في 2008 – الطبيبة التي تحضر في الحلم وما بعده . في عيادتها ، في الأحلام يتحول شريط الصوت الخاص بالرواي إلى فيديو يعرض على شاشة كبيرة ، يتفحص مشاهد تتعلق باليوم البعيد القريب .مسألة الشاشة – كمثل من أمثلة – تخبر عن توسل حكائي آخر ، يحمل عن اللغة ما كان أحد تبعاتها.
في الصفحات الأولى من” قانون الوراثة ” يتحدث الرواي عن عودة الأب من الخليج وانتظامه في حياة الأسرة مرة أخرى ، لن يصرح بسلطة الأب سيلّمح فقط ” ضبط وربط . أين تذهب هذا المساء “ ، وفي حديثه عن الطريق بين البيت والمدرسة ” إنما التدخين وسيلته الوحيدة للاحتجاج على طول الطريق المفروش بالعجين “ هاتان الجملتان تكشفان بعضا من سمات لغة السرد عند ياسر عبد اللطيف . فضلا عن الإيجاز تشير الجملة الأولى إلى اللعب مع اللغة ؛ إذ تتحول “أين تذهب هذا المساء “من جملة مولدة لخيارات مبهجة إلىمساءلة تنتظر- حالا – جوابا شافيا وإلا ، فيما تؤشر الجملة الثانية على ” تفصيح ” التعبيرات العامية . دون بحث يمكن أن أتذكر هنا جملة من ديوان ” جولة ليلية ” تندمج فيها المفردة العامية داخل سياق فصيح: ” تنحبس فيها أنفاس قطر بأكمله لتهدر القادرة جددت حبك ليه ” عن أم كلثوم – القصبجي ( أشار صديقنا العزيز هاني درويش مرة إلى الملمح الأخير ، وعن رغبته في تتبعه في نصوص ياسر – صباح الفل يا هانوش ) .
تميل لغة السرد إيضا ، في أحد مستوياتها ، إلى الطرافة : طرافة المفردة وطرافة التركيب ، في سبيل الطرافة قد تجد نفسك أمام مفردة مهجورة أو تركيب تراثي بامتياز.
قد تسأل نفسك ، وأنت تقرا : لِمَ يقول المؤلف : ” بولاق أبي العلاء ” / أو وعلى القمطر في اللجنة أصبت بما يشبه الدوار.او هلا أعطيتني سيجارة يا سلمون / أو في وصفه لأحمدشاكر : هضيم الوجه أسوده ……لماذا لا يقول مثلما نقول ؟!.
هل التراثي هنا يأتي نتيجة أن الطبقة الأولى ( وهي طبقة ذات شأن ) من اللغة عند الكاتب تراثية بحكم القراءات الأولى أو النشأة ؟ لا أعرف.
يبدو لي هذا المنحى أحيانا مزاجا شخصيا ، وفي أحيان أخرى يظهر كآلة للمفارقة وتوليد السخرية ( أبلى الطلاب اليساريون وطلاب اليمين القومي بلاء حسنا “وقد يظهر لتزويد المشهد السردي بمؤثرات زمانه .
عموما الطرافة هنا وما ينتج عنها من سخرية تتحرى الظرف لا الاستظراف ، مس خفيف يبعث الابتسام لا الضحك المفرط .الابتسام – على خلاف الضحك – أقرب إلى حدث فردي ، ينطوي على استجابات مختلفة ، وإن ابتسم الجميع.
أخيرا لدي فكرة عن أحد ظهورات اللغة عند ياسر ، لا أعرف حظها من الوجود ، ولا أملك دليلا ملموسا عليها ، لكني سأحاول :
يتسلمك الحزن أو الفرح أحيانا في صورة أصلية لا تتكرر، الحزين مثلا في هذه الحالة قد يرى نفسه يمشي مختصرا كل الحزانى الذين راقوه في فيلم أو في الحياة ، ومن كل صوب ، فيصير ممتلئا بآخرين ، يرى نفسه موكبا لا فردا . لكن لا أحد يستطيع أن يماري في أن المذكور حزين لأسبابه ، هو حزن أو فرح- رغم كل هذه الجلبة – لا تنازع على ملكيته . أحيانا يبدو خطاب ياسر قريبا من هذا ،نصبح بإزاء مفهوم الكتابة المحبب عند الكاتب ، أو لنقل جلالة الكتابة ، نجد نبرة الصوت تتسع لآخرين يسيرون معه ، يلعبون لصالحه ، خصوصا في الفقرات التي تأتي لتمهد لحدث ، أو ترسم مسرحا . سأضرب مثلا من ” يونس في أحشاء البحر ” :
” خرج الطلاب في الصباح الباكر إلى المدارس في زحام كأنه الخروج الكبير ، خروج اليهود من مصر المنازل جنة العسل واللبن ، والصحراء سماء لاهبة ، تدافع بالمناكب، راكبو دراجات وأغلبية من المشاة وفي قلب المعمعة لمحتها ..”
أخيرا أخيرا بمناسبة الغرام بالغريب والمهجور الذي هو مزاج شخصي ، بمعنى أن مجال عمله يبدأ من الحياة ويمتد إلى الكتابة أتذكر هنا : مرةً بعد أن شربنا شايا وشايا ، قال ياسر بمجاملته المعهودة بعد أن صوَّب سبابته بلطف : ( جديد القميص ده يا ميجو . صح ؟ قشطة عليه ، قطع كام ده ؟ ) .هي وصلت لـ قطع كام ؟! . كان يقولها بطريقة عادية ، لا يرجو من ورائها شيئا ، لا ضحكة ، ولا حتى ابتسامة ، أو هكذا فهمت .