عن الأماكنِ وفسادِها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد جاد الكريم

"إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة"

ربما كانت هذه الآية الكريمة تتردد في أذن الكاتب الكبير صبري موسى قبل أو أثناء كتابة روايته الخالدة "فساد الأمكنة" التي تفرغ لكتابتها مدة عامين عاش في المكان الذي جرت فيها أحداث الرواية وهو الصحراء الشرقية، قرب حدود السودان حيث "جبل الدرهيب" الذي تُستخرج منه مادة "التلك" ومنجم السكري ثروة الذهب المخبوءة في بطن الجبل.

إذن، فالمكان أو الأمكنة التي جرت فيها الأحداث صحراء، شاسعة، أرض بكر، وحلم أبدي للراحة بعيدا عن زعيق المدينة وطنينها المؤذي، شهوة المكان تتفجر بمجرد وصول لمسات عمال المناجم واستخراج كنوزها، الطبيعة تلد بعد فعل التنقيب كما المرأة تمامًا، فرحة “نيكولا” بطل الرواية الإيطالي ذي الأصل القوقازي الذي جاء من أوربا ليسكن في براح الطبيعة البراح، تاركا “إيليا” زوجته مصطحبا معه بعد ذلك “إيليا” الأخرى، “إيليا” الابنة التي تزحف نحو مراهقة ملتهبة تاركة طفولتها وبراءتها بين السراديب الباردة، والسراديب الحارة التي تنضج على سطحها الحوريات الجميلات وهن يَشْبُبْنَ على نار الطبيعة.

“إيليا” الحلوة، ذات الجسد الأبيض والشعر الذهبي في قلب صحراء تحرق وجوه وأجساد ساكنيها فلا يرون بقعة بيضاء إذا نظروا في مرآتهم، أو تعروا في أوقات راحتهم.

“إيليا” تلحس رغبة صديق والدها الخواجة “أنطون بك” (العقيم)، الذي  ينتظر حتى تنضج فينالها زوجة فيمهد الطريق لوصولها إلى أحضان “صاحب الجلالة” عاشق العذراوات، ليفوز برضا الملك فيمنحه الباشوية ويصير “صاحب السعادة بحق وحقيق، ومن هنا تبدأ المأساة.

صاحب الجلالة، ملك مصر في زمن عشرينات القرن الفائت، لا تذكر اسمه الرواية، لكنه بالتأكيد هو الملك فؤاد، وصول هذا الملك إلى منطقة عمل “نيكولا” هو وصول الفساد لهذه الأمكنة، لتَصدُق الآية الكريمة، يدبُّ الفساد مع وقوع أول حالة لاغتصاب طفلة في طور النضوج، بمباركة من حاشية الملك، ومنهم “أنطون بك” صديق “نيكولا”.

بفساد الأمكنة التي عشقها “نيكولا” وتغزَّل فيها كامرأة لم تُخلق بعد، ” وحشد طاقته كلها لينسج حلما بأن ينشئ في هذا الجبل مدينة عامرة بالخصوبة والحركة”

فالمكان الحلم يدنس وتتبخر طهارته، بفقدان ابنته لعذريتها التي تبعها فقدان أبيها لعقله، فيواريها في كهف مغلقا عليها منافذ الحياة، بعدما يشعر أنه هو من قام باغتصابها.

يبرر الكاتب بشكل مقبول حَميِّة “نيكولا وغضبه جراء ما حدث لابنته، بأن أصله قوقازي بالرغم من أن إيطاليا هي موطنه، وذلك على لسان “أنطون بك”

خلال هذا الحدث الرئيس يحكي لنا الكاتب عوالم الصحراء وحكاياتها الساحرة، قصة البئر المليئة بالحيات والطريشات التي يموت فيها “أيسا” الشاب البدوي الذي أحبه نيوكولا، أيضا قصة “عبده كريشاب” وموت جنية البحر تحت أقدامه، حكايات هذا العالم المذهل لا تنهي بأسطورتها وعفويتها، ضفرها الكاتب في متن عمله، وبقيت مأسأة “نيكولا” وابنته “إيليا” هي الدالة على أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها بجشعهم وشهواتهم ونزقهم، وأن الحاشية هي التي تمد جسر الفساد بنفاقها الذي ترجو من خلاله منافع شخصية ومكاسب مادية.

تفسد الأمكنة بدخول الأغراب( الخواجات) لنهب ثرواته في حين أن أصحاب المكان لا يأخذون منه شيئا، وأقصى مناهم أن يعملوا عمالا في هذه المناجم.

سار السرد بين الأسطوري-  وهو الأمتع-  والتوثيقي الذي يحكي عن البيئة التي اجترحها الكاتب وحكى عنها تفاصيل علمية تخص المكان وهي اتي أثقلت الرواية بعض الشيء، ورغم ذلك تظل رواية “فساد الأمكنة” إحدى علامات الأدب العربي المضيئة، والتي تحتاج لإزالة الغبار عن هذه الماسة الفريدة لترى النور.

ــــــــــــــــــــــ

*روائي مصري

مقالات من نفس القسم