فى مفتتح الرواية كشفت الكاتبة عن وجه الكتابة إذ ترصد حالة خاصة من الحالات الألم العضوى والنفسى التى مرت بها وجاءت الكتابة مفعمة بروح الإنسانية وكانت أهم طرق المقاومة والمواجهة ، ولقد حققت هذه الكتابة غايتها بمد جسر التواصل مع القارئ لتدوى هذه الصرخة الإنسانية فى أعماقه فتزلزله وجدانياً ، ولا بد وأن نعترف أن الإبداع الحقيقى هوالذى تنجده إشراقة الإنسان فيظل فى إطلالته فياضا بالنور و الروعة و الجمال ، ولذا جاءت الرواية صادقة إلى حد الألم .
* الواقع والخيال …
قد مزجت الكاتبة بين الواقع والخيال وأضفت عليهما بعداً فلسفياً ، حينما اعترفت أن كتابة هذه الرواية عن الربع الناقص بين مرتبتى سريرها والجدار الذى ملأته بحكايات فى وجود الألم ومع الأصدقاء والزملاء ( ترى أن النوم يأتينى حقاً ، أم أنه شخير أمى فى الغرفة المجاورة ، لذا قررت الإنتقام منها – حباً – فى كتابة الربع الناقض بين المرتبتين والجدار الذى ملأته بحكايات فى حضرة سيدنا الإلم مع أصدقائى وأحبابى وزملائى وكل الذين عرفتهم تحت ضوء خاص يوم زلزال أكتوبر 2004 ربما يمكننى أن أنام وأحلم جيداً وأتفادى الوقوع من ألأحلام مرة ثانية ) كما أن اعترافها بضرورة تحققها كإنسانه وككاتبة اكسبها حالة من الصدق والإحترام ، وأيضاً اعترافها بأن الحلم وحده هو سبيلها لتجاوز كل عثراتها وأنها ثقفت نفسها بنفسها وتجاوزت ظروف القهر فى البيت الذى نشأت فيه ، وكذلك اعترافها بأنها تزوجت عن حب من رجل عربى وسافرت معه إلى بلده لتعيش تجربة قاسية فى بلد دكتاتورى ، واعترافها أيضاً بأنها أحبت أصدقاءها أكثر من نفسها ولكن للأسف فمنهم من خذلها ، وكذلك أمنيتها أن تصبح أماً ولذا كتبت للأطفال حتى صار كل أطفال الدنيا أطفالها وأن أطفالها الحقيقيين هم كتبها ، وكذلك حاولت التمرد على وظيفتها كمحاسبة فى شركة الكهرباء ، واعتزافهاأيضا بأنها لم تكره أباها كل الكراهية وأهم اعتراف هو أن متع الدنيا عندها تم اختزالها فى متعة الكتابة والقراءة ومشاهدة السينما لتعيش حيوات كثيرة ربما تعويضا لها عن فكرة الخلود، وتلج من هذه الاعترافات الى التمرد على رعب الآلة الضخمة ” جهازالاشعة ” المحشورة فيه هذه الاعترافات وغيرها كشفت عن شفافية روحها وأجبرت المتلقي أن يلج معها إلي عمق التجربة ويعيش ويتفاعل معها.
* الألاعيب النفسية …
رغم مرورها في البداية بإجراء فحوصات وتحاليل وأشعات إلا انها تجاوزت هذا الواقع بالألاعيب النفسية وإدماجه بالخيال (حدثت نفسى بضرورة تجاوز المهزلة ببعض الألاعيب النفسية مثل إعمال الخيال وإدماجه في عالم آخر ،بعيد كل البعد عن مكان التجربة هكذا تمرست في التحايل علي كل الصعاب التي واجهتها في حياتي.) وظلت تلعب هذا الألاعيب من حين لآخر لتتجاوز الأزمات التي تمر بها وكآلية دفاع _ذكريات وتصاوير وتهاويم وأحلام _تلتقط صورة من داخل غرفة الجراحة التي تشبه السلخانة لكن بشروط أخف وطأة – على حدقولها _ومن داخل هذه الغرفة راحت تلعب لعبتها القديمة وتعود إلي المباهج الصغيرة داخل مدرسة العباسية الإعدادية وعلاقتها بالبنات وحكاية “السوتيان” الأسود الذى أشترته لها عمتها من العتبة وقد كان مغرياً للبنات لدرجة أنه دار على أثداء بنات الفصل ( فى نهاية اليوم ألقوا لى ب “السوتيان” وقد بدا مثل عظمة نهشها ألف كلب ) ثم راحت بصلابة تسرد رحلتها مع العلاج الكيماوى بعد إجراء العملية وعلاقتها مع يوسف غطاس هذا الرجل الجميل الذى داهمه المرض مثلها وراح يعبر بها مرحلة الألم النفسى ويشفى حيرتها ويجيبها عن كل شىء يخص المرض إجابة شافية .
ومضات وصور ….
فى ومضة إنسانية شديدة الحساسية تكشف فيها عن حاجة المريض إلى المساندة من البشر ( أخفيت عن أخىإحساسى بالإحتياج إلى بشر يساندوننى فى تلك اللحظة الراهنة حيث الثقل شديد على عقلى وظهرى ،بدا مترددا ًبين البقاء والذهاب إلى جمع ثواب أعظم .مسحت دمعة واصلت انحدارها فسـألنى عن ثمة ألم .) وفى ومضة أخرى تقول ( فى ذلك النهار لم أجد أحداً أبكى على صدره فبكيت على صدرى ) وتسير الرواية فى تصاعد وهبوط حسب الحالة النفسية للراوية ولم تنس أن تتحدث عن علاقتها باللاتى جوارها فى المستشفى ، عواطف شابة فى العشرين من منفلوط ونجلاء فى الثامنة عشر عاما من العريش ، وهناء ونها ، وكيف كانت تتعاطف معهن وتمسح دموعهن وهى المجروحة مثلهن ، وقدمت لنا صورة رجل الأمن الذى انهال صفعاً وركلاً على الولد الذى يعمل فى جمع القمامة داخل المدينة ، اتهمه بأنه كان يسرق باباً ليله أمس ، والولد الريفى ما زال يبكى فى قبضة يده ، كانت صورة مؤلمة على نفسها فراحت تهاجم رجل الأمن بشراسة ( هددت رجل الأمن بأننى كاتبة ولن أقبل إلا بتخليص الولد .) وهناك نموذج حى جاء ذكره فى الرواية إنها “نانسى” التى تقول عنها الجارات أنها “مقضياها عرفى ” تخرج من زيجة إلى ثانية ومنها إلى أخرى وهى نموذج للمرأة الشاذة المتسلطة وفى المقابل لذلك تحدثت عن قهر أبيها لأمها الطيبة (كانت تسرد حكايات قهر أبى لها وأن المسلسل لم ينته بعد… وأنا أخفف عنها بأنها ليست نهاية العالم لو صار لديها مرض ثالث) هذه الصور وأخرى منحت الرواية حيوية من نوع آخر بعيداًعن الألم والفلسفة .
وتعود بنا إلى نظرة فلسفية عميقة وتتحدث عن فكرة الخلود والأبدية من خلال علاقتها بالحجر الذى كان يربض أمام بيتهم ، تحرك كل الذين فى البيت بين مرض وصحة وحياة وموت وسفر وهو قابع أمام البيت يمنحها سر البقاء دون أن يدخل صراعاً من أجل ذلك كما يفعل البشر وبقية الكائنات وسيظل لغز الموت والخلود والسلام والأمان والحب والحنان زمنا ًمؤرقاً مع امتداد الوجود ،هذا الوجود الذى لا يقوم ولايصبح له معنى بغير وجودنا .
تحدثت عن اغتراب الزمان والمكان بفعل التغيرات التى طرأت على المجتمع وخاصة مدينة أكتوبر التى تسكنها وصاحب الشقة الذى يطاردها من حين لآخر ببيع الشقة ( فى التليفون حاصرنى مرة أخرى مالك الشقة المهندس ماجد ضخم الجثة “عريض المنكعين شلولخ ” هكذا كان يبدو لى ولم أره إلا مرة واحدة يوم كتابة العقد بأنه يرغب فى بيع الشقة وسوف يرسل من يتفرج عليها ) .
مستوى السرد …..
السرد جاء بسيطاً عميقاً متدفقاً، وبلغة بسيطة تميل إلى الشعر ولكنها مناسبة تماماً لتدفق الأحداث ، وكان لابد أن تستخدم ضمير المتكلم لكى تتأمل المشهد من الداخل والخارج فى آن واحد ،وكانت الراوية تمتلك زمام السرد وتبوح بعيون إنسان وأحياناً بعيون فيلسوف ، ونلاحظ أن الراوية هى التى تحرك الشخوص الحقيقية فى حياتها حسب علاقتها بهم فترسم لهم صوراً واقعية لأنهم أحباؤها وأصدقاؤها ورفقاء الحلم الهم الواحد وهم كثر فى حياتها وجاءت بذكر أسمائهم من حين لآخر ومنهم هالة البدرى وسهام بيومى وشوقية الكردي ووفاء حلمى يوسف غطاس وجميل عطية وشعبان يوسف وسلوى عبد الباقى وحياة محمود وصفاء عبد المنعم ومديحة عمارة ووداد متري وسمية رمضان وأحمد الخميس ، وكلهم أعلام فى الأدب والحياة بالإضافة إلى أمها وأبيها وعماتها وإخوانها مجدى وعاطف ومنال ، وكذلك الأطباء والممرضات والمرضي وجيرانها في مدينة 6أكتوبر ، هناك مساحات شاسعة من البوح المتعدد دون خجل على مستوى الألم والمشاعر والهموم والقضايا المتشابكة التي تؤرقها كأنثي تحيا فى مجتمع شرقي حتى الجمل الحوارية التى أجرتها على ألسنة الشخوص تتسم بالصدق على مستوى الانفعال والفكر واللغة ، كل شخصية حسب مكونها الثقافي والمعرفي واللغوي ، وقد أضفت على السرد شيئاً من الحميمية والدفء .
تضفير وختام …
وبعين الكاتبة والمثقفة راحت تضفر الأحداث بمقتطفات من مشاهير الأدب والفكر والفن أمثال برناردشو وديبونزاتى الإيطالى والشاعر محمود درويش وجان جينيه وألبيركامى وآندى بطل فيلم “وداعا ًشوشانك” ومحمود المليجى وسعاد حسنى وفيروز ومحمد منير والموسيقار موتسارت ، وفى صدر الرواية ذكرت مقولة شهيرة لكافكا وكلمة للشاعر محمود درويش وهما بمثابة مفتاح للرواية لأن فى كلامهما عوناً على تحمل الألم ومواجهة الحياة بصلابة وعزيمة ورغم ذلك فإنها تصف رحلة حياتها بأنها من شقاء إلى شقاء ( على العكس تماماً كانت الرحلة منذ الصغر تأخذنى من شقاء إلى شقاء وكأنها صخرة سيزيف أحملها على ظهرى وما أن أدرك بداية الجبل تسقط منى وأنزل لأبدأ من جديد) ولكن خط الحياة فى كفها مازال طويلاً ولم تعد سوى الكتابة رياضة روحية وأصرت ألا تسكن أو تيأس ( منذ تكشف لى الأمر قررت ألا أيأس تماماً وليحدث مايحدث وسوف أعيش لآخر لحظة يمكننى فيها ذلك ) .
ومع إصدار بيانها الأخير ضد الموت انتهت الرواية بإسقاط سياسى مهم ولاذع حول أحد المسئولين الذى سمح بدخول المواد المسرطنة إلى البلد التى أصابت فقراءه بالسرطان وأمراض وأخرى عديدة ،إنها صورة من صور الفساد المتمدد فى جسد الوطن كالوباء ، وذهب إليه هؤلاء النسوة فى بيته للانتقام منه وبعد ذلك خرجن إلى الشارع وهن نساء مشعات غير بائسات ، ومن هنا نكتشف دلالة العنوان ” يوميات امرأة مشعة ” التى سجلتها نعمات البحيرى بكل صدق وبساطة وقوة كقوة الجبال فى صمودها …. فتحية لهذه المرأة المبدعة القوية الصامدة .