عندما التقى أينشتاين وطاغور: لقاءٌ استثنائي للعقلين على حافة العلم والروحانيات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة: أمجد عطا

في الرابع عشر من تموز/يوليو سنة 1930م، رحّب أينشتاين، في بيته بضاحية برلين، بالفيلسوف والموسيقار الهندي الحائز على جائزة نوبل، روبندرونات طاغور (Rabindranath Tagore). حينها ابتدر الرجلان ما يمكن اعتباره أكثر المحادثات تحفيزاً وإثارةً للفكر في التاريخ، سابرَين في حديثهما أعماق الاحتكاكِ الأزلي بين العلم والدين.

سرد كتاب "العلم والتقاليد الهندية: عندما قابل أينشتاين طاغور" (Science and the Indian Tradition: When Einstein Met Tagore) هذا اللقاء التاريخي بين أينشتاين وطاغور، وذلك كجزء من نقاش أوسع عن النهضة الفكرية التي اجتاحت الهند في بدايات القرن العشرين، والتي نتج عنها اختلاط غريب بين التقاليد الهندية والمذهب العلمي الغربي.

المقتطفات التالية والمقتبسة من الأحاديث التي دارت بين أينشتاين وطاغور ترقص ما بين مفاهيم سبق أن اختُبِرَت، مفاهيمَ عن العلم والجمال والوعي والفلسفة، رقصًا متأملًا في أهم الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني.

..............................

أينشتاين: هل تؤمن بالإله، وأنه منفصل عن العالم؟

طاغور: ليس منفصلًا، فالذات الإنسانية اللامتناهية تَسَع الكون. لا يوجد شئ لا يمكن تضمينه في الذات الإنسانية، وهذا يبرهن على أن حقيقة الكون إنما هي حقيقة إنسانية.

 

لقد استعرت حقيقة علمية لشرح هذه الفكرة: تتكون المادة من بروتونات وإلكترونات ويوجد بينهما فراغات، مع ذلك تبدو المادة وكأنها صلبة. بالمثل أجد أن الجنس البشري يتكون من أفراد منفصلين، لكنهم مرتبطون عبر العلاقات الإنسانية، الأمر الذي يعطي وحدة حية لعالم الإنسان. يترابط الكون كله معنا بنفس الطريقة، إنه كون إنساني. لقد تتبعت هذه الفكرة من خلال الفن والأدب والوعي الديني للإنسان.

 

أينشتاين: هناك تصوران مختلفان حول طبيعة الكون:

الكون كوحدة: غير مستقل عن الإنسان

الكون كواقع: مستقل عن الإنسان.

طاغور: عندما يصير الكون في انسجام مع الإنسان الأبدي، سنعرف حقيقته وسنُحسّ بجماله.

 

أينشتاين : هذا هو التصور الإنساني البحت للكون.

طاغور: ولا يمكن أن يوجد تصور آخر. هذا الكون كون إنساني، والنظرة العلمية له بدورها نظرة إنسان علمي. هناك بعض المعايير للمنطق والتمتع تمنح الكون صفة الحقيقة، هذه هي معايير الإنسان الخالد الذي تكون تجاربه عبر تجاربنا.

 

أينشتاين: هذا هو تحقيق الكيان الإنساني.

طاغور: نعم، كيان أبدي واحد، علينا تحقيقه عبر عواطفنا، وأنشطتنا. لقد حقّقنا مفهوم الإنسان السامي وهو إنسان بلا قيود فردية عبر قيودنا. العلم مهتم بالأشياء التي لا تنحصر في الأفراد، العلم هو عالم الإنسان المبنيُّ من الحقيقة، هو ذلك العالم اللاشخصي. أما الدين فإنه يحقّق هذه الحقائق أيضا، ويربطها مع احتياجاتنا العميقة، فيصبح إدراكنا الفردي للحقيقة ذا أهمية كونية. الدين يطبّق الأخلاق على الحقيقة، ونحن نميّز الحقيقة على أنها جيدة عبر انسجامنا معها.

 

أينشتاين: هل الحقيقة إذًا، أو الجمال، غير مستقلَّين عن الإنسان؟

طاغور: نعم غير مستقلَّين.

 

أينشتاين: إذا افترضنا انعدام وجود البشر بعد الآن، عندها لن يكون تمثال أبولو بلفيدير (Apollo of Belvedere) جميلًا بعد الآن.

طاغور: نعم.

 

أينشتاين: أتفق معك في تصورك عن الجمال وأختلف معك في تصورك عن الحقيقة.

طاغور: لماذا تختلف معي بخصوص تصوري عن الحقيقة؟ الحقيقة تتحقق عبر الإنسان.

 

أينشتاين: لا يمكنني إثبات صحة تصوّري بخصوص الحقيقة، لكن تصوّري هذا بمثابة ديني.

طاغور: الجمال يكون في مثالية الانسجام الكامل، وهذه المثالية هي الكينونة الكونية. أما الحقيقة فهي الفهم المثالي للعقل الكوني. نقترب نحن كأفراد، من الحقيقة عبر الأخطاء والهفوات، وعبر تجاربنا المتراكمة، وعبر وعينا المستنير، كيف إذًا يُمكننا أن نعرف الحقيقة بغير ذلك؟

 

أينشتاين: علمياً لا يمكنني إثبات أن الحقيقة يجب إدراكها كحقيقة صحيحة بشكلٍ مستقلٍّ عن الإنسان، لكن اعتقادي راسخ في هذه المسألة. على سبيل المثال، أنا أعتقد أن نظرية فيثاغورس في الهندسة تقرر معلومة تكاد تكون حقيقية، وذلك يكون بشكل لا علاقة له بوجود الإنسان. على أية حال، إذا كان هنالك فعلًا واقع مستقل عن الإنسان، فإن هناك حقيقة ستكون نسبية بالنسبة لهذا الواقع. وبنفس المنطق، فإن نفي استقلالية الواقع المستقل عن الإنسان سيؤدي لنفي الحقيقة النسبية لهذا الواقع.

 

طاغور: الحقيقة، والتي هي متوحدة مع الكينونة الكونية، يجب أن تكون إنسانية في جوهرها، وإلا لما أمكن لنا كأفراد أن ندعو كل ما هو صحيح بالنسبة إلينا بأنه حقيقة -على الأقل- أعني الحقيقة العلمية التي لا يُتوصّل إليها بغير المنطق -أو بعبارة أخرى- لا يُتَوصّل إليها بغير كائن مفكر، أي الإنسان. بحسب الفلسفة الهندية، فإنه يوجد ما يسمى “براهمان” (Brahman)، والذي هو الحقيقة المطلقة التي لا يمكن تصوُّرها عبر عزل عقل الفرد، ولا يمكن وصفها بالكلمات، لكن يمكن إدراكها وبشكل كامل عبر دمج الفرد في لانهائية هذه الحقيقة المطلقة. لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن أن تنتمي للعلم. طبيعة الحقيقة التي نناقشها عبارة عن أمر ظاهر، أو إذا أمكنني القول، هي ما يظهر صحيحًا لعقل الإنسان، وبالتالي للإنسان، ويمكن تسمية هذه الحقيقة بالمايا (maya) أو الوهم.

 

أينشتاين: إذن وفقاً لتصوّرك هذا، والذي أظنه متطابقًا مع التصور الهندي، فإن هذا الوهم ليس وهمًا فرديًا بل هو وهم البشرية ككل؟

طاغور: ينتمي النوع الفرد أيضًا إلى الوحدة، أي إلى الإنسانية. لذلك فإن العقل الإنساني الكلي يدرك الحقيقة ويلتقي هذا العقل هنديًا كان أو أوروبيًا في هذا الإدراك العام.

 

أينشتاين: تُستخدم كلمة “نوع” في اللغة الألمانية للدلالة على كل ما هو بشري، في واقع الأمر حتى القرود والضفادع قد تنتمي لهذه الكلمة.

طاغور: في العلم نستخدم منهج التخلص من المعوّقات التي تقابل عقولنا المنفردة، عبر هذا التخلّص نتمكن من إدراك الحقيقة الموجودة في عقل الإنسان الكوني.

 

أينشتاين: تكمن المشكلة فيما إذا كانت الحقيقة مستقلّة أو غير مستقلّة عن وعينا.

طاغور: ما نسميه حقيقة يكمن في التناسق المعقول بين المكونات الذاتية والموضوعية للواقع، وكلاهما ينتمي للإنسان ذي الشخصية الخارقة.

 

أينشتاين: حتى في حياتنا اليومية، فإننا نحس بأننا مضطرّون لأن نعزو حقيقةً ما مستقلةً عن البشر إلى الأشياء التي نستخدمها. نحن نقوم بهذا الأمر، لكي نربط تجاربنا الحسية بطريقة منطقية. علي سبيل المثال، دعنا نفترض أنه لا يوجد أي إنسان في هذا المنزل، مع ذلك فإن تلك الطاولة لن تتأثر بغياب الإنسان وستظل كما هي موجودة في مكانها كطاولة.

 

طاغور: نعم، ستظل في مكانها لكن خارج العقل الفردي وليس خارج العقل الكلي الكوني. يمكن للطاولة التي أتصورها أن تكون قابلة للتصور باستخدام نفس نوع الوعي الذي أتمتع به.

 

أينشتاين: إذا افترضنا أنه لا يوجد أي إنسان في المنزل، ستظل الطاولة موجودة كما هي. لكن ألا يناقض هذا وجهة نظرك؟ لأنه وفقًا لوجهة نظرك، لا يمكن تفسير معنى أن تكون الطاولة موجودة بشكلٍ مستقل عنا.  أما وجهة النظر الطبيعية بخصوص وجود الحقيقة بشكل مستقل عن الإنسان فهي وجهة نظر لا يمكن شرحها ولا إثباتها، هي مجرد اعتقاد لا يمكن أن يفتقر إليه أي شخص ولا حتى الكائنات البدائية. نحن نعزو إلى الحقيقة موضوعيةَ الإنسان الخارق، وهذا أمر لا مفر لنا منه، فهذا الواقع المستقل عن وجودنا، وعن تجربتنا، وعن عقلنا، مع ذلك ليس بإمكاننا شرح ما الذي يعنيه هذا الواقع.

 

طاغور: تمكن العلم من إثبات أن حقيقة الطاولة كشيء صلب ليس إلا مظهرًا، لذا فإن ما يدركه العقل الإنساني كطاولة يصبح بلا معنى في غياب الإدراك العقلي هذا. في نفس الوقت يجب الإقرار بأن حقيقة أن الواقع الفيزيائي في أقصي تجليّاته، لا يُمثل إلا عدة مراكز قُوى كهربائية مستقلة موجودة في حالة دوران، هي حقيقة تنتمي للعقل الإنساني أيضاً.

في سبيل فهم الحقيقة هنالك صراع أبدي بين عقل الإنسان الكوني ونفس العقل المحصور في الإنسان الفردي. في العلم، والفلسفة، وفي أخلاقنا تتم عملية مصالحة بين هذين العقلين. على أية حال، إذا كانت هناك حقيقة مستقلة بشكل مطلق عن الإنسانية، فإن مثل هذه الحقيقة غير موجودة على الإطلاق بالنسبة لنا.

ليس من الصعب أن نتخيل عقلًا يحصّل تسلسل الأشياء بالنسبة إليه في الزمن فقط وليس في المكان، مثل تسلسل النغمات في نوتة موسيقية. بالنسبة لهذا العقل، فهم الواقع مرتبط بواقعية الموسيقى، وفي هذا الواقع تبدو النظرية الفيثاغورية بلا معنًى. للورقة وجود واقعي يختلف اختلافًا غير محدود عن الوجود الواقعي للأدب. بالنسبة لعقل العثة التي تأكل الورقة لا وجود لشيئ اسمه الأدب، لكن بالنسبة للعقل الإنساني فإن الأدب حقيقة وله قيمة أعظم من الورقة التي كتب عليها. بنفس الطريقة، إذا كانت هنالك حقيقة ليس لها أي علاقة حسية أو عقلانية مع العقل الإنساني فإن هذه الحقائق ستظلُّ أمرًا معدومًا طالما ظللنا نحن بشرًا.

 

أينشتاين: في هذه الحالة أنا أكثر تديّناً مما أنت عليه!

طاغور: ديني يكمن في التّصالح بين الإنسان ذي الشخصية الخارقة، والروح الإنسانية الكونية، في ذاتي الفردية.

……………………..

*نقلاً عن موقع “ناسا بالعربي”

 

 

مقالات من نفس القسم