علّمني البحر صيد المعنى

nora ebied
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نورة عبيد

في حادثة ليست الأولى، جرف بحر قليبية طفلة الثلاث سنوات “مريم” على مرأى من أبيها الّذي عاند التّيّار حتّى أجبره على الرّجوع إلى شاطئ لا مريم عليه تنثر ماءه… بقيت مريم على البحر حتّى عثر عليها بشاطئ مدينة بن خيار بعد يومين ونصف من وقوع الحادثة… الحادثة هزّت الرّأي العام التّونسيّ والعربيّ والأجنبي طيلة الثلاثة الأيّام الأخيرة من شهر يونيو 2025. رحم الله مريم وصبرا جميلا للوالدين… هنا شهادة عن البحر والسّرد.

 

هناك في موطن رأسي – حارة الشعراء- أوّلُ عهدٍ لي بالبحر، يوم سألت جدّي عن هيئة كالصّخور تلوح كوجه جميل ويديْن. قال:” كاحلا ساحرة أغلق البحرُ عليهما شُطآنه” الجزيرة زمبرا وأختها زمبرتا. فسبحت إلى جزيرتي زمبرا وزمبرتا! كان ذلك عبر البحر. أركبتني أمّي ظهرها لتعلّمني السّباحة. رمتني وأفلت. وتركتني وأبي الّذي يخاف البحر؛ السّباحة! هو البحر. شاطئ “بيت العسّه” المهجور من قرية دار علوش… وهو البحر؛ اللّيل والسّهر بكلّ مدينة تطلّ على البحر. أسلمت له الضّجر. هو غرفتي المطلّة على الشاطئ الأحمر بمدينة الحمامات. أهجره صباحا وأعاقره ليلا. كلّ ليلة!هو بحر “سيدي داود الصّنهاجي” هو الصّخرة الكرسيّ تتوسّط الأمواج إذا أسلمت قدّها للصّخور وأحواض ماء بحر قد أسن! هديره الضّاري بقربص شفاء ودواء. حام بمقدار، بارد بمقدار، صخر وجبل وهواء. والبشر على بابه وصفات طبيّة. والطّريق إليه رحلة حجازيّة. مقهى سيدي البحري بقليبية حيث خلع القلب دثاره. ومقهى الرّمال بحمام الأغزاز حيث كشف رسيس الموج حفيف العاشقين المتسلّلين للحافه. والغروب بمضيق البسفور والبواخر كالرّواسي تسرق البحر صفاءه. والنّحام الورديّ بمحميّة قربة يراقص في خفّة ورشاقة قوته. فيعلّمنا قيس المسافة بين السّوق والرّيش! قصر “سيدي ظريف” يسدّ طريق البحر عن السائلين واليائسين والعاشقين. محطّة تونس الشّماليّة وشارع الحبيب بورقيبة الطّويل من باب بحر إلى منتهى سيدي بوسعيد. حلق الوادي والكرم والمرسى الجويّة شواطئ الراجلين والبائسين والسّعداء بأقلَّ تكاليف السّعادة! سيدي بوسعيد والمرسى وقرطاج الحكمة شواطئ الرّاكبين بحر العلم والخبرة والمحنة. وبحر قرطاج الرّئاسة قصر للقصر دونه هرج البغام والعوام والعوّامين… وعليك أن تركب البرّ لتركب البحر. ذهبت إليه حمارا أحمل أسفارا.. ألقيتها هناك. وهناك زوربا يرقص فرقصت معه. و زكريا المرسلني وشكيبة يعزفان القبل. والشيخ يراود البحر. والعيد الهميسي يخلع غربته وعريه على أوّل موجة من بحر طبرقة في طلقته الأولى “شعلة”. والموت والجرذ يعيدان التّرتيل ماذا أقول ؟ حكايات ألف ليلة وليلة والحوريات والسّندباد آيات التّخييل الأولى. هو البحرونوارسي المهيضة الحائمة بقوارب الصّيد في كلّ ميناء قديم كميناء بني خيار. هو البحر لم يكن خيارا أنّ أرتَّب مواقيتي بمواعيده البعيدة السّعيدة. هو البحر سيرة السّباحة إلى جزيرتي زمبراوزمبرا بعد أنّ شبّت نارُهما كيقين في بذرة القلق الأولى منذ عشرين سنة. كلّ ذلك كان منذ أربعين سنة. هو البحر الراوي الأوّل. آمر القصّة. وزّع آياته بين تقاذف الأمواج. فسيروا على شواطئه و”انظروا كيف بدأ الخلق؟ ” “فالوقت وموج البحر لا ينتظرون أحدا ” قال تشوسر. ارتقى البحر كيقين يخطّ في الوجد القلق… والقلم إذ حضر يعيد ترجمة سيرة البحر صورا ومواعظ كذرّ الرّمال في البحر! لقد أخبر أفونسو كروش أنّ هناك قصائد تصلح لرؤية البحر! فصاحبت البحر. ومضيت في صحبته حتّى استبدّ بي. بات المكان والزّمان والخصم والحكم والطّاعم والصّابر والضّجر. كالجذمور أنّى شئت تأتيه. كلّ شواطئه بدايات ونهايات ومتنه الهتن سموات ورواسي إلى حين. فيه تسكن جودة الحياة. في مكنون الأديم لا يقبل بالقوارب المتصدّعة والفاشلين من السّابحين والصّيّادين والمتفرّجين والمصطافين حتّى لا يلفظهم. أتاني البحر لافظا للزبد. فعلّمني صيد المعنى! وأدركت أنّ أصغر قارب يعرف أكثر ممّا يعرف أكبرُ ميناء. في كلّ بحر حكايات، فاستكتب اللؤلؤ والمحّار! في كلّ بحر حكايات استجمعت الموت والحياة. كانت أمّي “الريس الأوّل” علّمتني جري الرّياح البحريّة وأسماءها؛ سماويّ وبرّانيّ وشلوق وباش وشرس وبحاري. هناك بشاطئ “بيت العسّه” كان البحر كلّ شيء. ودونه لا شيء. تحوّل مائدة ومركبا، لعبة ومرفأ، ممسى ومصبحا طيلة النّصف الأوّل من “أوسو”. صرنا “نحن عائلتنا ” من الأكابر. حياتنا على البحر لا شقاء فيها. هي هدية جهدنا بعد كدّ وجدّ. اغتسال من عرق وأرق وملل نأتيه بزاد من مأكل وملبس وكتب. أكلنا الكوروسون المجلوب من مدينة قليبية ونحن نفترش رمله النديّ المخلوط بنبات الذّريع الذي كنسه الموج المتقلّب على شفته المكتنزة بأجساد المصطافين اللاّمعة كالحنين. تمتّعنا بشيّ الكلامار المعطّر بعبق البحر… تمتّعنا بفنّ الرّسم والتّشكيل. البحر أمامنا اللّوحة الكبرى تهبنا الغموض والعبوس والتأمّل والتحوّل. شروق البحر وغروب البحر صرنا نقول. بات الشّمس ونحن نراقب تبديل المهج. صار الأرض والسّماء ونحن نراقب أفول الألوان. نعايش الانصهار والانتصار للجّة كركوة الجياد جميعها تغرق في صخب البحر… علّمني البحر الهدير والهديل والصّهيل والقبض على الأصوات والنغمات واستحضارها ولو في حلكة القبر! علّمني البحر المحاورة: تحمحما ونداء وصياحا وهرجا ومرجا وسكونا وشقشقة ووشوشة وصفيرا وعويلا وولولة وزغردة وخريرا ورقرقة.. فكان نداء أعلى للعجيج والتّحتحة واللّجب والبقبقة… إنّه الأجيج. شيّدنا مساكن شعبيّةً كقاربنا الشّعبي برماله المعجونة بأصابعنا الرّقيقة. ورأينا كيف يأكلها البحر! وأعيانا صيد السّميكات القادمة إلينا في هودج رقص شرقيّ بديع. وعبثا تحاول أصابعنا الرّقيقة القبض عليها. وانخرطنا في اللّقاء لنعلب ونكتشف سرّ التنفّس تحت الماء. كنّا ستّة انتشرنا تحت الماء نتباهى بتقليد السّمك. وكان كلّ واحد منّا يتوق إلى الفوز بلقب السبّاح الأمهر ذاك الذي يُمضي وقتا أكثر تحت الماء. كأنّنا في جوف الصّمت مخلصين للقاع والسّكون… ننتظر الخاسر الأوّل حتّى يبرز الخاسرون. ويعلو فوق الموج وفوقنا الفائز الأوحد. لا أتذكّر الآن إلاّ صيحة ابنةِ خالتي “سلمى” “شعييب”… كان شعيب قد غرق. قد شرب ماء أقعده عن التّنفّس والحركة. فسقط في القاع. تشابكنا جميعا نجرّه إلى الشاطئ. كانت سلمى تسحب لسانه وتسحب معه الماء… ماء البحر الزّائد عن النّصاب لأوّل مرّة أنسى البحر. كأنّه سحب. ملقى كلاشيء في انتظار دبيب الحياة في اسم شعيب. طار به أبي إلى أقرب مشفى. وتركنا كاليتامى في قبضة البحر… عند المساء عدنا وشعيب واستقبلتنا أمّي كالحة كماء البحر تسأل عن غدر البحر………. هو البحر أسراب صور تخطف الأنظار. بقايا وصايا لكلّ فيها نصيب. صخب وعويل شجن ونحيب، طيور وصقور، شروق وغروب، حيتان ووزف، صدف ومرجان، ألواح وأشرعة ومواخر، وعليّ أن أكون كالدّقل أشتدّ كلّما اشتدّ “السّْرَدْ”. البحر سارد يقبع في المعمعان. القلب النابض بكلّ شيء وفي كلّ شيء. يقصد لذاته المتعدّدة في أوقات مختلفة لقاصد مختلف. على حافته تجد الباكي والشّاكي والمنتصر والمغدور والملفوظ والسّارق ومن يراقص القمر المنعكس على صفحته ومن يغالب موجه ومن يركبه، ومن يتدرّب ليكون ربّانا وريّسا وعاشقا وخليلا… هو البحر ضحيّة الحارقين والمارقين والتّجار… كلّ التّجار المارقين المعتدين على سعته وبطشه. فيجهل فوق جهل الجاهلين. فيعلّمك ومخلوقاته كيف يخنق الحياة. كيف لا تكون على سطح الحياة في نقص في الزّاد والعتاد والصّحبة والماهيّة. ماذا أقول قد سرقت البحر لأتعلّم الوصف والسّرد والحجاج.. خطاب اجترح سننه هو البحر: الهول في مقدّماته. داخله مفقود والخارج منه مولود. وأنا ارتويت من ضجره لأروي هشاشة المدّ والجزر. على بحر كأنّ الريح تحتي!

………………………..

*كاتبة تونسيّة

*شهادة عن البحر والسّرد من ندوة أقيمت بمدينة مدنين 2020

 

مقالات من نفس القسم