من الصعب الكتابة عن ديوان بهذا الجمال الفاحش بهدوء محايد أو بروح متأملة عادية ، من الصعب لأنه من أول قصيدة، يحب الانتباه، ليس هذا ديوان يٌقرأ لتمضية الوقت، يجب القراءة بمنتهى الجدية، لأن القصائد ستجعل القلب يدق وستلكمنا الأفكار وستنزع عنا ورق التوت.
يبدأ الديوان بقصيدة عن الغياب ليانيس ريتسوس، وأظن أن الديوان كله هو محاولة ضد الغياب، محاولة للفهم العنيف وترك أثر على الأرض نابض دوماً رغم الغياب الحتمي يوماً ما.
التيمات كلها تمضغها سارة “وتجرسها” لا تستثني أحداً، المجتمع، الأم، الأب، الذقون، الشعراء، الأفكار المتسلطة، ابنتها ، الحب ، نفسها …. لا مسلمات ، لا مقدسات …. حتى نفسها ، لا تجعلنا نغوص داخلها لنرى امرأة بل لنرى إحباطا انسانيا تعكسه امرأة بلا جنسانية ما ، فها هي تلكم تصوراتنا الشبقية في أول قصيدة : “من يجرؤ أن يلمس هذا المسخ؟!!” تهدم الثوابت فوق رؤسنا بلا مقدمات وتستفزنا …
لنغوص قليلاً لأبعد من هذا الاستفزاز المتعمد لنرى في حديثها مع الله هذا التساؤل الضخم عن العدالة في الحياة ، عن احباطها الشديد ووجعها الدفين ، نرى أيضاً نفوراً لا يخفت تجاه الأطر المستقرة حتى الشعر ، ترى أن الشعراء يكتبون اشعاراً للتباهي ولا تستثني نفسها فتقول: أكتب شعراً لنفس الأسباب.”
تمتلك سارة أيضاً وعياً حاداً بالوجود ، بالحياة وبالموت ، ولا تمنحها الأطر العادية أي اجابات ، فتصنع أطراً خاصة بها وتختار أن تكون على الهامش الذي يحتقر استقرار المركز وغياب الدهشة والخنوع ، هذا الوعي الحاد الحساس والحسي لا ينغلق على المكون البدائي الأنثوي ، أنها تدركه بعمق ولكنها تتأفف من طريقة التعبير عنه هي ” ضد نوال السعداوي” و”ضد فاروق جويدة وعبد المعطي حجازي“..
سارة لا تتخذ مسافة (يتخذها الكتاب عادة) بين ما تكتب وبين الواقع، رغم كون المسافة مهمة للحفاظ على تفرد المبدع، إلا أنها في نفس الوقت تخلق لديه حالة من التعالي والغربة عن المحيط ، وهو ما يعطي انطباع خاطئ أنها تكتب عن مفردات البيت وتفاصيل حياة المرأة اليومية، هذه التفاصيل هي مجرد أدوات متلاصقة لما تقول وما تبحث عنه من فهم بدائي نيئ للمعاني ولنفسها وللوجود ولله ، أنها تريد أن تؤسس لعالم فيه اعادة تعريف للمعاني واعادة هيكلة العلاقات لذلك لا تخاف من المسافة ولا تتخذ مسافة وترحب بالصدام و”تستلهم من كل قبيح” ، ولا تخجل من تسلط الأفكار عليها التي تبدو في التفاصيل والتي تعكس أيضاً حساسية مفرطة: “من الممتع أن تنظر إلى كل شخص على أنه قاتلك المحتمل” أو هذا التعريف المثير للحياة على أنها “انفصام للشخصية وفعل استمناء” والذي من الممكن ترجمته على أنه الانسلاخ عن الواقع والبحث المسكين عن العزاء وهو تعريف لا ينطوي على حياة ….
هي بحق كما كتبت: “العقل الملتاع للحق والمنغمس أبداً في الباطل”
هكذا تعرف نفسها بلا ادعاء ، وربما هكذا يجب توصيف مسار الانسان ومأساته في هذه الحياة ….
أنا شعرت انه من العدل ان اقول لها ان هذا أجمل ديوان شعر قرأته في حياتي ، استحوذ علي تماما حتى النهاية ، ولا يوجد شاعر فعل بي ذلك ، ولأنه قوي لا يحايد ولا يهادن ، مكتوب بروح وقلب بلا حسابات ، بكل عنفوان القلب في لحظات الثورة والحيرة والاحباط معمول بكل وجع ، بكل صدق غير مهتم برد الفعل …بالطبع تبدو هذه كتابة مخنثة ، هادئة ، لا تتناسب مع موهبة سارة الفطرية في كتابة الشعر ، تبدو في الحقيقة كوحش شعر ، يمضغ كل شيء ولا خوف عليه من شيء ، لأنه سيعود في هيئة قصائد..
ووسط كل تلك الثورة نجد إحباطا نحو الوجود وخيبة أمل تترجمها بعمق تلك القصيدة المدهشة:
فيض
عندما تزداد الوحشة
أدرك أنه لا مثالية في الحب
ولا روحانية في العشق
وأن الرغبات الفجة
ھي …
أصدق من كل معاني الحب التافه
الموصوم بالعذرية
احباط نعم ،لكنها قادرة على رؤية الاشياء في طورها النيء البديهي المدهش الذي نجمله بملايين الطرق والمسميات …
يبقى الحديث عن الغلاف الذي صممته أيضاً ويبدو فيه روحها الهازئة ، كأنه كولاج من مواد مختلفة لتظهر شرفات بيت ثابتة على خلفية من الكرتون ، ثم هذه البقع المتوهجة لكتابة اسم الديوان واسمها ، ثم في ركن ما كلمة شعر ،غلاف تلعب فيه سارة لعبة صنع الشربات الفسيخ ….
ننتظر الكثير من سارة الواعدة ، ننتظر المزيد من التصويب نحو عرينا وقبحنا لتصيبنا في مقتل..تماماً.