الكوثر وهي المصحة النفسية التي يدخلها الراوي البطل تمثل بالنسبة له ملجأ آمنا، ضد عدد كبير من الصدمات التي تعرض لها، فالبطل ينتمي لجيل ولد في الستينات على حافة انهيار الحلم الناصري، وكبر وترعرع في ظل موجة من التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرضها الرواية ببساطة ويدسها الكاتب وكأنها غير مقصودة، فالبطل يتم إلحاقه متأخرا سنة عن موعد الإلزام التعليمي بفضل كفاح والدته وإصرارها على إلحاقه بالمدرسة، ويستمر في العمل كصبي لعدة حرف خلال طفولته، مما يعرضه لأزمات وصدمات خلال فترة التكوين، لتصير ملمحا هاما من شخصيته، فها هو البطل شابا يتقلب بين الشعر والصحافة، وهاهو ناضجا يتقلب بين زوجتين لا تستطيع أي منهما فهمه أو الاستمرار معه كزوجة، فالزوجة الأولى دعاء مستجاب، أم اولاده التي اأحبها صبيا في مدينة المنصورة الجميلة، تلك المدينة التي تسكن وعي الراوي البطل وذكرياته فلا يني يذكرها بين سطور وفقرات الرواية، حيث تعود به الذاكرة إلى وفاة أبيه ووفاة أمه، وكيف تم دفنهما بينما يتنتظره قبر في مدينة أكتوبر، وكأنه يشير إلى الزمن الذي يقطع صلته مع جذوره.
مع دعاء مستجاب استكشف البطل منطقة رجولته المبكرة، وتلمس معها ـولى خطواته نحو المشاعر البريئة ثم تزوجها شابا. تتحول شخصية دعاء مستجاب مع الزمن إلى امرأة كئيبة تميل الى الانعزال، ولاتستطيع تأدية دورها كزوجة وأم، فهي رغم تدينها وقيامها بأداء العبادات والطقوس الدينية من صلاة وعمرة وحج الا انها فارغة القلب ولا تشعر باهمية زوجها الا حين تخطفه امرأة اخرى فتسعى جاهدة، لا لإعادته الى حضنها وانما لاستعادة كرامتها كأمرأة، بل انها تحرض ابنتها على الانفصال عن زوجها، وتقريبا هي في خصام مع الجميع طوال الوقت حتى خلال ازماتهم الصحية مما يفقد هذه الشخصية اي ملمح يجعلك تتعاطف معها .
وبين فكي امرأتين يطحن الرجل الشاعر، فالزوجة الجديدة زميلته في العمل تمارس ضغوطا اجتماعية عليه، لكي يعلن زواجهما الذي حرص على اخفائه عن اسرته حفاظا عليها .
لايستطيع البطل مواجهة كل ذلك، فيصاب بنوبة اكتئاب شديدة تستدعي انعزاله لتلقي العلاج بمصحة الكوثر، وهنا ينتقل السرد لمستوى آخر من رصد لأزمات اجتماعية ونفسية يلتقي أصحابها كمرضى نفسيين بالمصحة.
يتنقل السرد بين عدة عوالم مابين وسط القاهرة حيث عمل الرواي في إحدى الصحف وزملائه ورفاقه ومابين المنصورة حيث نشأ البطل، وتتوالى ذكرياته عبر سطور الرواية متداخلة مع واقعه بحيث يصعب الفصل أحيانا بين ازمات الطفولة والصبا وتلك التي تداهمه رجلا ناضجا وابا لبنتين وجد.
وبنفس الرشاقة ينقل لنا الكاتب اجواء وعوالم عربية ارتادها البطل، خاصة حين سافر الى فلسطين، وتظل الرواية تجوب بنا زمنيا ومكانيا بين طبقات وعي الراوي وذاكرته الى ان تصل الى الكوثر حيث يوحي الاسم الذي يعد احد اسماء الجنة، بأن البطل لايجد راحته من عناء ضغوط العمل والزواج والاحباط السياسي الا بين جدران مصحة نفسية لها تاريخ متميز، حيث يتردد ان من أنشأها هو الفنان حسين صدقي الذي كان يميل الى جماعة الاخوان المسلمين، واوصى بحرق اعماله الفنية بعد وفاته.
المصحة تقع في ميدان يحمل اسمه، وأحد نزلائها يدعي أنه قريبه، ويلوح خطر هدمها الذي يتواطأ ورثة الفنان التائب على تنفيذه ليقيموا مكانها برجا.
تظل الرواية كاشفة للعديد من الازمات التي اجتاجت الوطن، خلال عمر البطل الراوي بدءا من طفولة بائسة فقيرة في عهد يدعي الاشتراكية مرورا بانفتاح اقتصادي يدعي الوفرة وصولا الى ثورة تم احباطها على ايدي الجيش والاخوان المسلمين كما تؤرخ الرواية في مقطع هام منها، حيث يقول البطل: “احكمت دبابات الجيش ومدرعاته السيطرة على المنافذ المؤدية الى ميدان التحرير ومبنى التلفزيون، ولا انسى مطلقا أني رأيت المشير طنطاوي على الهواء مباشرة وهو يقول للمتظاهرين المتحلقين حوله امام ماسبيرو: قولوا للمرشد ييجي عشان نتفاوض”.
ربما تم محو هذا المشهد بعد ذلك، لكن الذي حدث فعلا هو ان المجلس العسكري تفاوض مع الاخوان، وسهل وصولهم الى الحكم ثم وضع عراقيل كثيرة امامهم قبل ان يعزلهم.
ومازالت الرواية التي حملت معاناة البطل تحمل بين طياتها معاناة وطن، وأزمة جيل وتشير الى روايات قادمة تغوص تؤرخ وتقدم الفن غير المدعي والكاشف لمؤلفها وكاتبها المغامر عبر طبقات النفس الانسانية علي عطا.