رحاب إبراهيم
تأتي رواية علاء خالد الجديدة بعد تسع سنوات من قيام ثورة 25 يناير لتقدم رؤية خاصة ومختلفة.
هل نستطيع القول بأنها رؤية موضوعية ؟ ربما. ولكن الأكيد أنها رؤية غير انفعالية، تخففت من وهج اللحظة الاستثنائية وتجاوزت الحماس المشتعل الذي غلّف كل شيء حينها. ربما تقدم أيضا محاكمة بين جيلين اشتركا في الأحلام وفي الحراك الثوري أحيانا، وتبادلا الاتهامات في أكثر الأوقات.
يعتمد السرد في الرواية على المقاطع الصغيرة والتي يتبادل فيها الجميع الحكي. تستأثر الفتاة “دولت” بأكثر من نصف مقاطع الرواية سواء عن طريق حكيها الشخصي أو كتاباتها عبر صفحتها على التمبلر..بينما يأتي الراوي في المرتبة الثانية وأخيرا “محسن” الكاتب الكبير وصديق دولت.
لم يكن استئثار دولت بالحكاية مصادفة، فعلى مستوى الرمز كثيرا ما يتم الربط بين المرأة/ الأنثى والوطن باعتبارها رمز الحياة، كما أن هناك الأب الذي يفقد سطوته الأبوية فجأة، تكبر فترى القبح وثقل الظل فيه أقوى من الجمال، وهناك الحبيب الذي ينتهكها أيضا ويبدو غير قادر على تحمل مسئوليته تجاهها.
وعلى المستوى الفعلي فهي في الشريحة العمرية التي شكلت الحراك الأكبر أثناء الثورة وفرضت وجودها لأول مرة بقوة.
أما على مستوى الحكاية فهي المُقتحمة والمبادرة والمزاجية المتحكمة في سير الأمور معظم الوقت، تصنع الأكاذيب بمهارة فنية وعلى الآخر قبولها والتعامل معها كأمر واقع.
هناك أيضا الشخصية التي تعتمد قوة تأثيرها على الغياب لا الحضور، وهي شخصية الزوجة الغائبة فعليا بسبب سفرها لكندا وقت الثورة، وتقنيا بسبب عدم وجود أي صوت لها داخل الرواية. تكمن قوتها في المراقبة من بعيد حينا والتهديد بالغياب الأبدي حينا آخر ورغم قوة هذا الوجود الغائب فإن الكاتب لا يستطيع التخلص من خوض التجربة ولا التوقف في منتصفها فهي “تجربة وجودية لا يمكن أن يخرج منها أو ينسحب أو يعلن استسلامه بسبب خوفه من شعوره بالذنب. فليبق الذنب وليبق الحب وليبق التكفير إن كان له مكان”.
رغم تعدد الأصوات داخل الرواية لم يكن الفرق بينها واضحا تماما طول الوقت. تميز صوت دولت كثيرا في الحديث باللغة العامية عبر صفحتها الإلكترونية، بينما ذاب الفرق بينه وبين الكاتب في الحوار باللغة الفصحى حتى أن كليهما استخدم نفس المصطلحات مثل “الثقب الضيق في الروح و الفقاعة والمخبأ الطفولي وغيرها”.
ظل فارق السن بين محسن ودولت هاجسا مؤرقا له طول الرواية، بينما لم يشكل لها أزمة حقيقية، فهي تمزج شعورها به كأب وصديق وملاذ ومصدر للحكمة دون أن يشغلها هاجس الجسد المشغول بالفعل بصديقها مصعب ورغم ذلك فهي تلجأ له أحيانا للحفاظ على الشغف بينهما بينما يراه محسن مصدرا للقلق يحاول السيطرة عليه أو حتى التنصل منه كأن يجعل “الرغبة والمتعة تدخل في وريد الذهن مباشرة ” دون المرور على الجسد.
لم يكن الفارق العمري هاجسا من حيث إمكانية اكتمال قصة الحب بينهما فقط، ولكن من حيث الفكر أيضا وهو الأهم هنا.تبادل الجيلان الاتهامات منذ البداية وإن تعاونا أحيانا في اكتشاف الوطن من جديد
تقول دولت “كنت ناقمة بشدة على هذا الجيل العقيم الذي ينتمي له.جيل مستسلم جبان وغير واضح، لا في قراراته ولا في رؤيته لنفسه أو للحياة من حوله، ولا يريد أن يتحمل المسئولية حتى لأقرب الناس إليه” ص 10
بينما يقول محسن ص 117: “كانت تتهمني بالاستسلام، وبالخوف أحيانا. ولكنها لم تكن ترى تناقضا في عملها داخل مؤسسات المجتمع المدني، التي تحولت إلى جزيرة آمنة، وسط بحر من الصراخ والفقر والفوضى، يسعى إليها الشباب الثوري. كان يؤلمني هذا الاتهام الذي توجهه لي. قلت لها ردا على هذا الاتهام، بعين على وشك البكاء : نعم، استسلمت ولكن لم أفقد احترامي لنفسي”؟
رغم ذلك لم تكن حالة التنافر والحدة موجودة طول الوقت..أحيانا بدا أن الجيلين يسيران في طريق واحد، يمتزجان من أجل هدف واحد
تقول دولت ص 145: “لومضة من الزمن امتدت شهورا، كنا جيلا مرغوبا فيه من صداقات الكبار، نسير وهالة القداسة تسير فوق رءوسنا، تلك الرءوس التي سيحين قطافها سريعا بعد حين عندما تنتهي صلاحية هذه الهالة المقدسة وتميل الرءوس. حتى محسن الحكيم كنت أشعر بفرحه وتعلقه بصداقتي، وربما كنت إحدى واجهاته الاجتماعية التي يحتمي بها في مشوار كفاحه أمام نفسه وأمام قرائه”.
إلى جانب حالات الهجوم والدفاع والتناغم بين الجيلين هناك أيضا حالة من حالات الشك وفقدان الثقة تتضح عند الجيل المحرك للأحداث ممثلا في دولت حيث تخفت الصورة المثالية تدريجيا تاركة المحال للعديد من التفاصيل المشوهة
تقول دولت ص 133 “كانت الغنائم تقف على أبواب الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني لتسد جوع تلك البطون والطموحات لآلاف الشباب”.
“بعض زملائي ممن كانت لهم كتابات ومقالات في غاية الجمال والذكاء والثورية أصبحوا معدين لذلك المذيع المشهور الذي تجاوز السبعين ومازال شعره أسود فاحما ويعيش نموذج الدونجوان وترى آثار بريق النعمة ناضحا على وجهه. بعضهم أيضا عملوا مراسلين لقنوات لها تمويل أمريكي واضح ظهرت مع حرب العراق لتجميل صورة أمريكا في المنطقة. جميعهم من الذين ناموا ليلا على أسفلت ميدان التحرير طوال الثمانية عشر يوما وشموا قنابل الدخان مع القطط والكلاب ثم ذهبوا في الصباح واقفين على أبواب هذه القنوات”
هكذا تقول الرواية على لسان دولت ولكن هل هذا بالفعل لسانها أم أفكار محسن الحكيم نفسه أو هو الراوي الذي يطل من حين لآخر برؤيته الخاصة
يبدو صوتها الخاص أكثر وضوحا وبلا أحكام قاطعة بل يفيض بالتردد وعدم اليقين والبحث عن الحقيقة وسط مئات التفاصيل المغلوطة في ص 204-205
“كان التناقض مقبولا لحظة الثورة والأحلام. أما الآن في لحظة الحقيقة العارية فالتناقض سيؤدي إلى الموت لا محالة، لأن الحقيقة لن تقبل أي كذب بجوارها.
كنا نتعجل النجاح كما نتعجل الموت. انفتحت ثقوب عديدة في هذا الثوب الجمعي الذي لبسناه وكان يمكن للجميع المرور منها للجهة الأخرى. شباب من جيلي تحدوا الموت تحديا قياسيا في جرأته وشباب من جيلي أيضا حققوا نجاحا واعترافا سريعين. وشباب من جيلي تحولوا لأسماك نافقة لها عيون مفتوحة. المجتمع وضعنا جميعا داخل علبة سردين لنأخذ أشكالنا الأخيرة قبل أن يلتهمنا.
ذروات لم نحلم بالوصول إليها كقمة جبل إيفرست وصل إليها زملاء لنا. وحضيض لم نحلم بالوصول إليه، كالجحيم، وصل إليه زملاء لنا”
“وبدلا من أن نموت بلا معنى، منحتنا المعنى”
إلى جانب الثورة تقوم علاقة موازية هي العلاقة الملتبسة بين دولت ومحسن..فارق السن الكبير يجعلها نهايتها محسومة..فقط مؤجلة
تقوم دولت بتوثيق أحداثها عبر عشقها للتصوير كما تقوم بكتابة بعض التدوينات كذلك..حالة التوثيق التي وقع فيها الإنسان حاليا ظنا منه أنها سوف تلبي رغبته الدائمة في الخلود لكن على العكس كثرة التفاصيل والمشاهد التهمته..آلاف الصور ومقاطع الفيديو تاه خلالها المعنى المتفرد إلا القليل جدا..رغم التوثيق ظلت العلاقة ملتبسة وأحيانا غير مفهومة حتى بالنسبة لطرفيها.
يتنصل محسن من رغباته الجسدية فتارة يصف فعل الانتصاب ب ” الأبوي ” وتارة ب ” الخمسيني المتزن ” ربما هذا التعالي على الجسد هو ما منح العلاقة تفردها وأطال بقاءها نسبيا
بالمقابل كانت دولت تتصف بالنزاهة وعدم رغبتها في أن تحل محل الزوجة..هكذا نشأ نوع جديد من العلاقات الغائمة، دعمته وسائل التواصل والعالم الافتراضي..نوع لا تستطيع تسميته بشكل قاطع.
تكرر ذكر لوحة ” العناق” للفنان النمساوي جوستاف كليمت أكثر من مرة حيث يمكن اعتبارها نوعا من التوصيف للعلاقة بين دولت ومحسن حيث المرأة ضئيلة الحجم بالنسبة للرجل وتكاد تختبيء فيه، مغمضة عينيها في اطمئنان و يداها تتعلقان به بينما هو مقبل عليها بلهفة يقبلها.
تأتي القبلة على الخد لا الشفتين ربما لأن العلاقة الشعورية تتغلب هنا على العلاقة الجسدية.
ومن مفردات العلاقة بينهما أيضا كان ” الضحك ” كشكل من أشكال الونس بل اتسع أيضا ليشمل صدى الروح الجماعية المنطلقة تماما في هذه اللحظات الاستثنائية.
لجأت دولت للكذب في كثر من الأحيان، لا لقلب الحقائق وإنما لخلقها.تصف الرواية كذبها بالكذب الخلاق وكأنه حيلة فنية تتحايل بها على واقعها فتنكر شخصيات شديدة الوضوح لا سبيل لإنكارها مثل شقيقتها التوأم، وتختلق شخصيات وهمية للعيش معها ومشاركتها أحداث حياتها مثل ” عزيزة ويونس”
قبول محسن بالكذب كان كقبول حالة فنية وإنسانية مثيرة للشغف والفضول، لم يحاول كشفها ولا تعريتها بالحقائق..بل ظل يثمن قيمة هذا الخيال ويقدر معاناته.
يقول عن حالة دولت ” إن الخيال المفرط نفسه هو الدواء لهذه الحساسية المفرطة، لأنه يخلق شخصية أخرى ناجحة تقاوم شخصيتها المتألمة”
هناك أيضا ملمحا من ملامح الحياة الاستقلالية للشباب والبنات في مجتمع وسط البلد حيث الشقق الجماعية ذات العلاقات المتشابكة والمحاولات البائسة للحفاظ على الخصوصية، وحيث يتحول الطعام إلى ” أوطان غذائية ” تخص كل فرد فيها.
طوال الوقت يبدو سرد العلاقة بين دولت ومحسن كأنه مجرد رصد لمرحلة منتهية واجترار للذكريات بعد حسم العلاقة
يقول محسن ص 54 “التقي أخيرا هذان الشخصان السابحان في الخيال، وتبادلا الجروح والإيذاء ثم سلما على بعضهما في النهاية، واستمرت الحياة”
ولكن النهاية الفعلية والتي تأتي على لسان الراوي تطرح شكلا آخر مفاجئا ومتعدد الاحتمالات، تماما مثلما نستطيع أن نعتبر ثورة 25 يناير مازالت ذات نهايات واحتمالات مفتوحة ومتعددة ومستمرة طالما استمرت الحياة والأحلام.