حاوره: سعيد أبو معلا
منذ العتبة الأولى التي تطالعنا بها رواية الشاعر والكاتب المصري “علاء خالد” نشعر بالاختلاف، أي منذ العنوان “ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر”، حيث ندرك أن في هذه الرواية ما هو مختلف وعميق ومتجاوز وغير تقليدي، وفعلاً، لا يخيب ظن القارئ، فتتحقق علاقة وطيدة مع شخصيات وعوالم الرواية طوال صفحاتها وهي الصادرة عن دار الشروق المصرية في 378 صفحة من القطع المتوسط، لتكون النتيجة أن حباً دافئاً وخاصاً نستعيده وهو تماماً ما يجعلنا قادرين على بدء يوم آخر جديد في حياتنا.
يوغل “علاء خالد” في دخول عوالم وحيوات “حي سكندري” عاش فيه، ينقل لنا التحولات التي طرأت على الطبقة الوسطى عبر سرد حميم ودافئ ومتدفق وسلس وشفاف مليء بتفاصيل شخصيات لا حصر لها وهو ما يجعل لأي قارئ منها نصيباً.
فهم الرواية سيدركه أكثر كل من يعرف الكاتب أو تواصل مع مشروعه الأبرز والمتمثل بمجلة “أمكنة”، المجلة التي تعتبر بحق من أفضل المجلات العربية الفصلية وأكثرها تفرداً وتميزاً وهي التي تعني بثقافة المكان.
الرواية الجديدة في تجربة علاء تأتي بعد أربعة دواوين شعرية تعود بالقارئ إلى الإسكندرية مطلع القرن العشرين ولغاية لحظتنا الراهنة، تضعنا في حياة مقطع أفقي أصيل من خلال قصص وحكايا بشر عاديين بطولتهم الحقيقة في أنهم أناس مروا وعاشوا فيها، حيث ينقل لنا الراوي كل تطورات وتواريخ وهواجس ساكني هذا الحي…الخ.
والرواية وفق ذلك في فصولها أو أبوابها تبني عوالم هؤلاء البشر الذين يشبهوننا جداً كقراء مختلفين تماماً، وهنا يكمن جزء من السر، وبظني فإن أي قارئ سيجد ذاته في أحد شخصيات هذه الرواية أو يمكن أن يقف على تفاصيل وحوادث ومشاعر هذا الحي وتطوراته ليجد منها ما يخصه في مزاييك الحي البسيط، وهو ما يدفع إلى الوقوف على أسرار أخرى وما يقف خلف هذه التجربة المبدعة في “ألم خفيف كريشة طائر….” من خلال هذا الحوار:
ــ قبل الحديث عن رواية “ألم خفيف…” هناك سؤال استهلالي وهو: كيف كنت قادراً على تجميع هذا المشهد البانورامي المتشابك وبهذا العمق الشديد؟
الفكرة كانت لدي منذ منتصف التسعينات، سجلت مع والدتي حكايات عائلتها دون أن أقرر ماذا سأفعل بما أسجله، لكني لم أعلم لحظتها ما هو تحديداً. كانت كل التفاصيل هامة لي فيما تحكيه أمي عن قصة عائلتها، وأثارت انتباهي مثلاً: عندما حكت لي أن جدي أخذ نصيبه من الميراث كيساً من الذهب، كلمة كيس ذهب تنقلني إلى عالم وعصر وزمن آخر مختلف وهكذا بقية التفاصيل.
كنت أجد أن ما في هذه الحكايات من خيال وأسطورة ما يحث على حكيها والاهتمام بها وكشفها. عالم أمي وقصة عائلتها كان مفتوحاً وفيه خيال وأسطورة ومواجهات كانت مملوءة بالأمور التي لم يحكها أحد.
بعد ذلك، رغبت في كتابة كل ما مر بي في الطفولة، برغبة في الثوثيق أكثر منها رغبة في التحليل، كتبت تفاصيل ومعلومات من حياتي، شكل الشارع والسكن والمدرسة والمحلات والرحلات..الخ.
فعلت ذلك في لحظة شعرت فيها أن الذاكرة مهددة.. فالتحول في مصر أفرز نتائجه وبدأنا ندخل عالما جديدا، قبلها (فترة التسعينات) كان الأمر يتم بطريقة خفية، فالتحولات في البلد (الإسكندرية مثلا) كانت محدودة مثل: بيت يتهدم، سلعة يرتفع ثمنها، أفكار جديدة تظهر…، إضافة إلى هشاشتتنا الشخصية التي كانت بمثابة المكان الذي كنت أقيس فيه مدى ضعفي من خلال علاقتي بالحياة التي أعيش فيها أو وجودي بالشارع مثلاً، فاللحظة التي تكون فيها واثقاً من مكانك تكون متماهياً فيها مع ما حولك، أما لحظة شعورك بالاغتراب يعني ان وعيك لا يقدر على مواجهة العالم الجديد المتشكل، وبالتالي تشعر بهشاشة وضعف تجعلك تدرك الفجوة بينك وبين الحياة. وهي لحظة إدراك مؤلمة، وأول رد فعل لي كمقاومة هو أنني بدأت بتسجيل ما يحصل حولي، ربما كي تقف إلى جانبي الأمور التي تخصني، ربما كي أقول لنفسي أن لدي تاريخاً معيناً وها هو يقف إلى جانبي، أو ربما كي أقول “لا” رافضاً ما يحدث من تغييرات، عملت على التوثيق لمدة سنتين، كان أمراً يتم بين وقت وآخر، والهدف منه لم يكن سردياً أو كتابة رواية إنما كان نوعاً من الحماية الشخصية والرغبة بالحياة وسط تاريخي الشخصي.
ـ ما أكبر صعوبة واجهتك في ذلك التوثيق أو حالة التذكر والاستحضار؟
ــ تمثلت الصعوبة في أنني بدوت كمن يعوم بسيل من التفاصيل دون أن أعلم ما بداخلها، في البداية لم أكن أرى معنى لهذا السيل. كنت أحضر شيئاً أو ازحم وجودي كي أدافع عنه دون أن أرى المعنى الكامن داخل التفاصيل. التذكر بحد ذاته لم يكن صعباً لأنه مدفون بداخلي وكان يحصل بشكل آلي.
أما الأمر الثاني في الصعوبة فتمثل في أن الروح التي كانت تتذكر كانت تشعر بالفقد تارة، والهشاشة تارة اخرى، وهو ما كان معيقاً للرؤية، اليوم عندما خرجت التفاصيل على شكل رواية أصبح لها معنى، الكتابة بعد 13 عاماً من التدوين الأول منح للهشاشة معنى، وأصبحت قادراً على الرؤية وتفسير تاريخي الخاص بي.
التعب الحقيقي تمثل في خوفي من استدعاء الأفكار التي قد تؤرقني أو تزحم أفكاري أو تؤلمني وتشوش حياتي في ظل عدم تصور للأبعد من ذلك، وهو تماماً ما جعل من الكتابة الأولى كتابة ليست روائية، لم تكن بحس روائي يمنحني قدرة على هضم التفاصيل مع بعضها البعض.
ـ لكنك شعرياً كتبت بعض تفاصيل الرواية أو استحضرت بعض مراحل تاريخك الشخصي من خلال الشعر، هل كان ذلك جزءاً من دفاعك عن ذاتك؟ وما المختلف بين الشعر والسرد في التعبير عما تريد؟
ــ بالطبع الشعر كان جزءاً من التعبير.. لكن التعبير لم يأخذ مكانه الكامل إلا في الرواية، علاقتي بسيرتي الذاتية مكونة من أكثر من نسخة، لا تصل إلى النسخة النهائية إلا في لحظة معينة، النسخة الأولى كانت شعراً بحكم أدواتي الشعرية التي رأيت فيها الموضوع أو حكايتي، لكن المشهد الشعري غالباً ما كان مقفولاً، فالفكرة الشعرية فيها عمق لكنها تفتقد الاتساع، كما أنني اعتمدت في شعري على المشهد لكني لم أتمكن من فتح الجملة لآخرها لسببين: أولهما طبيعة الأداة التي أستخدمها وهي الشعر، وثانيها أن الوعي لم يستطع أن يفتح الجملة الشعرية لمساحة أكبر تراها.
لقد مررت بأكثر من نسخة حتى وصلت من هذه الرواية قبل الوصول إلى هذه النسخة، هذه النسخ لا تلغي بعضها ولكن كل نسخة لها درجة من درجات تركيب وجودك.
المتابع لرحلة “علاء خالد” يجدك تطرق باب الرواية بعد أربعة دواوين شعرية، هل هذا انحياز للرواية حيث نعيش عصرَها هذه الأيام؟
ــ الفكرة جاءت من أن السرد يكشف مساحة أكبر من المشهد الشخصي، وذلك بعد أن أخذت فكرة السرد مكانها لدي بفضل مجلة “أمكنة” وتجربة الكتابة لها، كانن لدي رغبة في الكشف عن ذاتي أكثر منها أن أكون حاضراً في الساحة الأدبية كروائي.
السرد يجمع أكثر من مشهد او أكثر من فكرة داخل العمل، كما أن الفكرة الشعرية غير جدلية أو ليست حوارية، أما السرد فيتعامل مع أشياء مركبة في لحظة واحدة، حيث يحضر فيه أكثر من طرف وأكثر من شخصية، وهو ما تطلب الشكل الروائي. فخيار الكتابة كان فنياً حيث أجد أنه ارتبط بأسئلة جديدة ظهرت في حياتي، منها لحظة التحول التي جعلت من شفرة الترميز الموجودة بالشعر تخصني أنا قبل ان تخص أحداً غيري، والسبب في ذلك مرتبط بالوسيط الثقافي (سواء المرتبط بالناقد أو نوع الثقافة، أو وسائل الإعلام) وهو وسيط لم يعد قادراً على التفسير والتوصيل للقراء، فأصبح للشعرية كيان مغلق، قد يكون العيب في المتلقي أو عيب الكاتب أو عيب الزمن.
هنا تحديداً أجد أن الوسيط لم يعد قادراً على تجاوز وجودي، قبل ذلك (الستينات والسبعينات) كان هناك وسائط تنقل وتجعل الرمز متعدداً وقادراً على صنع حوار مع القراء والثقافة عموماً، ولكن الرمز من خلال الشعر الآن أصبح يخصني وحدي وأنا القادر على تفسيره طالما الثقافة لا تقدر على وضعه في كيان أكبر، فالفكرة الشعرية اليوم أصبحت تتجه للتقلص وتضعف، وهو ما جعل البعض يتجه لفكرة المشهد أو فكرة السرد داخل الشعر كحل لتلك المعضلة.
لحظة التحول الثانية هي نظرتي لنفسي، فالفرد يمر بأكثر من محطة في حياته، ولكن هناك محطة مهمة يمكن وصفها “محطة القبول” بمعنى أني غيرت من حالة الدفاع المستمر التي كونتها وأصبحت أبحث عن مكان ثان يمكن أن يكون بين الاستسلام والقبول، دخلت هذه الحالة بسبب الزواج، وبسبب تلك الفجوة بيني وبين المجتمع، إضافة إلى أنني بدأت بالعمل وأكسب رزقي من الحياة والعمل وسط الناس، حيث بدأ الوعي يدخل بمنظومة اجتماعية جديدة. وهو ما جعل وعيي هنا يتعامل مع أكثر من وجهة نظر داخله، يمكن وصفه وعياً حوارياً، حيث أصبحت أرى الأشخاص والأفكار بأكثر من وجهة نظر أو بحالة سردية مفتوحة لا تمشي على محور واحد من التفكير، وليس لها هدف واحد أو فكرة واحدة وهو ما انعكس على الرواية حيث كنت أقوم بانتقالات كثيرة، طالما الفكرة كان لها فضاء أوسع للتعبير.
سأعود إلى مجلة “أمكنة” هل لو لم تكن مجلة أمكنة موجودة هل كانت ستولد هذه الرواية؟
كان ممكناً أن تكون ولكن في شكل ثان، المجلة ساعدتني على الوصول لناس كثيرين، فالحالة السردية للمجلة دعمت الكتابة الروائية، الرواية امتداد للمجلة، فروح المجلة بدأت تكون جزءاً من تكويني، وبدأت أعمل عليها كتقنية وكأسلوب، وهو ما انعكس على روح الرواية.
هناك شخصيات موجود في الرواية التقيتها من خلال رحلتي داخل المجلة وشعرت بها مثل: “حمامات علي الدسوقي” وغيرها.
الأمر لم يقتصر على الشخصيات فقط بل امتد لأساليب الكتابة التي مررت بها وأنا أكتب للمجلة وهو ما انعكس على الرواية، هناك تمرينٌ ما حصل تجاه اللغة كي لا تكون بسيطةً وكي تكون شفافة، إنه تمرين خضته خلال سنوات المجلة العشر.
ــ عنوان الرواية “ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر” عنوان لافت وغير تقليدي كيف جاء؟
عندما اخترت عنوان الرواية كنت أتحرك وأنا متماهٍ مع العمل، فكنت أراه بطريقه ما، لكن داخل العمل كان هناك شيء آخر، هو مهم لكنه لم يكن يظهر لي بحكم تماهيَّ مع العمل، وعندما عرضت الرواية على الناشر (دار الشروق) اقترح علي عناوين أخرى، وبقينا لمدة شهر كامل نتبادل العناوين إلى أن وصل الناشر إلى اقتراح السطر الموجود بآخر الفصل الأخير.
شعرت أنه محق في هذا العنوان، فهو يمس شيئاً أصيلاً في العمل، كما وضع يده على جزئية مهمة تقف ما وراء العمل، وتحديداً الروح التي تمسك العمل كله.
هل شعرتَ أنها مغامرة خاصة مع روايتك الأولى؟
ــ هي بالفعل مغامرة، ولكن أول ديوان لي كان باسم “الجسد عالق بمشيئة حبر” وهو عنوان ديوان، كانت وقتها العناوين عبارة عن مضاف ومضاف اليه، أو كلمة واحدة. ثاني ديوان كان عنوانه “وتهب طقس الجسد إلى الرمز“.
هذا يعني أن فكرة الجملة السردية موجودة لدي، أنا أشعر أن للجملة السردية إيقاعاً أقوى، كما أن هناك شعرية في التلقي، وهو ما انعكس على الصحافة أيضا، فالعنوان أصبح مهماً ويكتب بطريقة شاعرية، وأصبح له خصوصية سردية وليست خبرية فقط، فأصبحت العناوين تعمل ظلالاً أكثر مما تخبر بشكل مباشر.
قارئ الرواية قد يحتار هل هي سيرة ذاتية أم نصف سيرة أم أنها ليست سيرة ذاتية من الأساس.. أم ماذا؟
ــ هي بين هذا وذاك، لكني أقول أن الكاتب هو جزء من الراوي وليس الراوي تماماً، فهي بين سيرتي الذاتية وبين سيرة الراوي المحمل بحلم معين.. حلمه هذا جزء مني وليس حلمي تماماً.
في تقنية الكتابة مثلاً الكاتب كان يظهر في آراء أكثر تركيباً وعمقاً وتعقيداً، وعندما راجعت الرواية حذفت مجموعة من الآراء لشعوري بأنها ليست متسقة مع شخصية الراوي وإنما مع شخصيتي أنا. فشخصية الراوي لها مجال نفسي محدد رغبت في الحفاظ عليه، كنت ألغي آراء كي يعيش الشخص أكثر ويُصدق ويكون له التناسق الحقيقي.. هنا المسافة بين الكاتب وبين الراوي هي ذاتها المسافة بين الراوي وبين سيرتي الذاتية.
مثلاً هناك شخصيات كثيرة أضيفت على وقائع الرواية الحقيقة، ليس السبب تجهيل الواقع لكن لأن واقعي لم يكن كافياً لخدمة دراما الرواية، لذلك اخترعت أشخاصاً، وهناك أشخاص استكملت سِيرهم بشكل مغاير عن واقعها…الخ، كانت هناك إضافات على مستوى الشكل تارة، وبما يناسب طموحي تجاه الشكل الأدبي الذي أكتب فيه تارة أخرى.
عموماً القارئ يميل الى تصديق ذلك ويعتبره سيرةً ذاتية ويشبع رغبته في التلصص على ما يعتقده بأنه عالمك الحقيقي والخاص؟
ــ بالطبع أنا أقدم عملاً كي يصدقه القارئ ويقنعه، أي عمل هو لعبة مع القارئ كي يصدق، لعبة لا أخدعه فيها بل أجعله يصدق، إخلاصي للشكل يعني ان هناك طرفاً أضبط أمامه ما أقدمه ليكون مقنعاً.