تتجاوب مع حلقات المنشدين:
ناح الحمام واليمام والكروان غنى
واللى ابتلى بالغرام لا نام ولا اتهنى
تتمايل على الإيقاع يمنة ويسرة
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب دينى وإيمانى
تتلعثم وهى تقول لأمها:
– شىء لا أعرفه يجذبنى إلى الأديرة البعيدة، أستعيذ بالله، وأقرأ السور الثلاث التى أحفظها للصلاة: الفاتحة والمعوذتين. أتوضأ، أصلى أستكين، لكن ضوء السيدة الطاهرة يتراءى لى، يجذبنى وحنينى إليها يتزايد.
تربت أمها عليها وتقول إن الأمر عادى، فكلنا مؤمنون بالعذراء.
لكن نورها يأخذنى حتى عن نفسى أقلد صورتها، أترك شعرى الأحمر ينسدل خلف ظهرى، وأضع شالًا أسود على رأسى دون أن أعقد طرفيه، أرتدى دلاية عليها صورتها.
بعد رحلتنا فى المنيا إلى جبل الطير، كأنى رأيت هذا المكان من قبل، الجبل لونه ترابى صلد، يشبه جملًا خرافيًا تتعدد أسنمته، أشعر باليد الكبيرة التى لا أنساها، أستيقظ ودفؤها ما زال على وجهى، أسال أمى: هل زرنا هذا المكان من قبل؟..
تصمت هذا الصمت الناطق، لكنها لا تريحنى.
– يا بنتى ياما لفينا موالد، هفتكر إيه ولا إيه؟.
يا أمى، لو تعلمين حين أغفو يأتينى وجه، يبتسم لى، يهز رأسه اطمئنانًا، ما يفزعنى أنه ليس وجهك، يا أمى ماذا يعترينى؟، شعور يقودنى لحيرة عاصفة تقتلع جذورى.
امتدادًا لحيرتها سافرت إلى المنصورة، كان صباح يوم أحد، الشمس حانية ونسمة خفيفة ترطب روحها، دفعتها ترديدات قديمة لا تتبين معانيها داخل روحها إلى أن تدخل الكنيسة فى شارع «السكة الجديدة»، اقتربت من صورة العذراء وتحتها على الحامل أرضية من الرمل، وبقايا عشرات الشموع التى أشعلها محبون للسيدة ذات الحزن الساكن فى عينيها، والتى تحملت أقصى ما يمكن أن تتحمله فتاة بريئة طاهرة من نظرات الشك والريبة، ولم تفقد ثقتها فى ربها أو تهتز لحظة.. الثبات الذى يملأ عينيها، واليقين الذى يكلل هامتها تمنت «نجاة» لو أنها تملك بعضًا منه، لمست الصورة الزيتية وطلبت العون وشفتاها ترتجفان وتتمتم: يا رب.
اقترب منها خادم الكنيسة وسألها: هل ترغبين فى إيقاد شمعة؟.
هزت رأسها ومدت يدها، ومن شمعة تكاد تزوى ويتلاشى نورها فى عتمة العالم أضاءت شمعتها وهى تقرأ المكتوب بخط النسخ فى الجزء السفلى من الصورة: لتكن الشمعة التى أشعلها نورًا منك يا رب، لتضىء طريقى أثناء المصاعب، إننى أقدم هذه الشمعة وأنا أقدم حياتى لتكون ملكًا لك يا رب، فساعدنى أن أصلى واهدنى فى قراراتى، ارحمنى من الشرور، وهبنى الصحة، وعلمنى كيف أساعد الآخرين، لتكن هذه الشمعة نورًا إلهيًا منك يا ربى لتحرق أنانيتى وكبريائى وخطاياى كلها، لتكن شعلة منك يا سيدى لتدفئ قلبى وتمنحنى السلام والصحة لعائلتى وللعالم بأسره.
فى اللحظات التى كانت تردد دعاءها وهى تبتهل إلى الله، شعرت بالنور يملأ روحها وأضاء عقلها الصغير، قرار اتخذته وتعهدت أن تنفذه حينما تتاح لها الفرصة، ورغم الراحة التى شملتها إلا أن الحزن الذى ستسببه لأمها ولأبيها جعلها تبكى وملأ عينيها بالدموع لكنها لمحت السيدة المباركة تبتسم لها أو ربما خيل هذا إليها.
كانت الموعظة قد انتهت.
بدأ الحاضرون ينتظمون فى طابور التناول.
الطابور الذى أمامها يقترب ويقترب، والخطوات التى تحفظها قدمها تفاجئها، مدفوعة للأمام وهى تتمنى أن تستيقظ من الحلم الذى أصبحت تعيشه ولا تستطيع أن ترويه لأحد ولا يقدر عقلها على فك ألغازه، أصبحت أمام الأب، انحنت، ناولها قطعة خبز على طرف لسانها وقليلًا من النبيذ، ظلت مستكينة لعلها تفيق وتجد أمها إلى جوارها، تحثها على الاستيقاظ للحاق بأول قطار للدلتا والتوجه للسيد البدوى، لكن اليد هى يد الأب، أمسك بيدها وساعدها على النهوض وعندما نظرت إليه لمس كتفها وباركها وقال لها:
– ستتزوجين يا ابنتى هذا العام فتذكرينا عنده.
دفعتها بقية الطابور حتى خرجت من الكنيسة وهى ما زالت معتقدة أن كل هذا حلم.