عزازيل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فصل من رواية : بوسف زيدان

الرَّقُّ الثالثُ  : عَاصِمَةُ المِلْحِ والقَسْوَةِ

أتذكَّر جيداً أننى فى شبابى الذى وَلَّى ولن يعود، خرجتُ من أخميم قاصداً الإسكندرية تحدونى الآمالُ الكبار. كان الأوان ظُهراً، منتصف النهار تماماً، فقد كانوا فى الكنيسة يستعدون لصلاة الساعة السادسة، التى تؤدى عند تمام الظهر . اتجهتُ من غير ظِلٍّ إلى ضفة النيل الشرقية ، حيث الموضع الذى ترسو فيه القوارب النهرية والمراكب الشراعية. المسافةُ كانت قريبة ، غير أن المرسى كان خالياً والشمس محتدَّة.. ساعة العصر، اشتدت شمسُ شهر أبيب (تموز، يوليه) التى لاتعرف الرحمة . كان القدماء فى أزمنة مجدهم، يعتقدون أن الشمس مجلى لسطوة الإله رع الذى هو كبير آلهتهم .. آلهتهم التى اندثرت ، ومات ذِكْرُها وذاكرُوها.

عند المرسى آويتُ إلى ظل شجرة وحيدةٍ، نحيلة مثلى، تتمايل أوراقُ أغصانها على حافة ترعةٍ هزيلةٍ، تأخذ مياهها من النيل حين يعلو بفيضانه أيام الصيف. أخرجتُ من مخلاتى الأيقونة الصغيرة التى لاتفارقنى. هى صورة مريم العذراء، الطاهرة. رُحتُ أُريح عينىَّ على صفحة وجهها الهادئة ملامحه . أما كان للرب أن يهبنى أُماً نقيةً، كالعذراء؟ .. كدتُ أذهب فى سكرةِ نوم ، لولا أن انتبهتُ لمجيئ شابٍ فى حدود العشرين، يتبعه قردٌ. كلاهما جاء يتقافز فى مشيته، وكأن روحاً واحدة توزَّعت بينهما. نظر الشابُّ نحوى مبتسماً قبل أن يبدأ ماجاء من أجله، أعنى ارتقاء النخلة العالية القريبة التى كانت تنوء ببلحٍ جفَّ فى موضعه، ولم يجمعه أحدٌ خلال شهور الشتاء، فتساقط بعضه، وبقى البعض فى موضعه .

– هذا البلحُ ملئٌ بالسُّكَّرِ والرائحةِ الطيبة .

حدَّثنى الشاب بذلك ، وكأنه يعرفنى جيداً . أو لعله أراد أن يعرِّفنى بما جاء من أجله، كأنه يستأذننى فى الصعود للنخلة التى لا أملكها .. أم تراه كان يطلب البركة منى، لحسن ظنه بى أو برداء الرهبان الذى أرتديه. أشار عالياً نحو رأس النخلة، بطول ذراعه ، فسبقه القردُ. كلاهما صعد النخلة بلا مجهود كبير، وكأنه يمشى على الأرض. القردُ وصل أولاً، وراح يتقافز فرحاً بين السعف والعراجين اليابسة. راقب الفتى قرده لوهلةٍ، بحذر، حتى إذا ما اطمأن إلى خلو رأس النخلة من الأفاعى والعقارب، تابع ارتقاءه إلى قلب النخلة العالى، وراح يهز أذرعتها المتهدِّلة. بعد دقائق من المطر البلحى، نزلا بأسرع مما صعدا. التقط الشابُّ من البلح الذى لم يفسده الدود، حفناتٍ فى حِجر جلبابه حائلِ اللون، وجاء فألقاها فى حجرى من دون أن يقول شيئاً. كانت ابتسامة الفتى غريبة! لم يصبر حتى يسمع منى كلمة شكر، أو دعاءً بالبركة. أعطانى البلح، وأخذ قرده فوق كتفه، وغاب عنى متوغِّلاً بين الزروع .. ظننت يومها أن الله أرسل هذا الشاب، كبشارة ؟ أو أنه كان واحداً من ملائكة السماء الذين يملأون الأرض ، ويسعون بين الناس من غير أن يعرفهم أحد .. ولم أسأل نفسى: كيف يصحبُ الملاكُ قرداً !

بعد العصر، رسا قاربٌ كان فى طريقه إلى بلدة كبيرة اسمها ليكوبوليس (أسيوط) تمتد بيوتها على خَدِّ النيل . هى على مسيرة يومين إلى جهة الشمال من أخميم . كان أهلُ القارب فى عجلةٍ من أمرهم، وقد بادرونى بالسؤال إن كنتُ أودُّ الركوب معهم، فرأيتها إشارةً من الله تدعونى لزيارة الموضع المقدس بأسيوط، أعنى ذلك المزار الذى فى حضن الجبل المسمى قُسقام حيث أقامت السيدةُ العذراء بطفلها يسوع المسيح، أيام جاءت به إلى مصر هاربة من بطش الرومان. أصحاب القارب أبحروا سريعاً، وكان أمرُ الريح مواتياً، وشراع المركب ، فوصلتُ أسيوط ظهيرة اليوم التالى .

المدينة كبيرةٌ جداً. أهلها مسيحيون فى معظمهم، وبعضهم وثنيون. لكنهم على الجملة ناسٌ طيبون، ومساكنهم رحبةٌ ومتجاورة. يومها ظننتها أكبر مدن الدنيا ! لم أكن قد دخلت الإسكندرية، ولا أورشليم، ولا أنطاكية .. من أسيوط اتجهت غرباً ، إلى حيث الجبل الموحش الذى احتضن، يوماً ما ، العائلة المقدسة. لم أجد هناك الكثير، لكنى لم أندم على زيارة المكان .

ارتقيتُ إلى حضن الجبل ، فوجدتُ كنيسة فقيرة، حولها بعض المبانى المتهالكة التى شككتُ فى أنها تعود لزمن السيدة العذراء. بعض الرهبان المتوحِّدين كانوا يعيشون فى ذاك الموضع القفر الذى لم أشعر فيه بروحانيةٍ، حسبما كنتُ قبلها أودُّ وأتوقَّع . شعرتُ هناك بالوحشة. بعدما قضيتُ يومين هناك، عدتُ إلى أسيوط مع جماعة من زوَّار المكان، كانوا فى حدود العشرة. فى منتصف طريق عودتنا، اقترب منى رجلٌ متأنقٌ فى ملبسه، عليه رغم حَرِّ النهار عباءةٌ سوداء من الصوف الرقيق الناعم، حوافُّها محلاةٌ بخيوط من الحرير الأسود اللامع . استغربتُ هيئته ونظرته الماكرة، كان لايعلِّق فى عنقه الطويل صليباً. لما التقت أعيننا ابتسم، فازدادتْ هيئتُه مكراً، ولمعتْ عيناه ذكاءً . أخذنى وَجَلٌ منه، فأبطأت خطاى .. أبطأ خطوه حتى اقترب منى ، وتهيَّأ للكلام . نظرتُ نحوه رغماً عنى، كان وجهه مليئاً ببقع البهاق البيضاء ، التى زادتها سمرته وضوحاً. باليونانية التى قلما يستعملها الناسُ فى تلك البلاد، قال لى من غير تمهيدٍ، ما معناه: كيف جاءت العذراءُ إلى هنا هاربةً بوليدها، بعد سنوات من وفاة الحاكم الذى تزعمون أنه كان يقتل أطفال اليهود ؟ ولماذا عادت به إلى البلاد القاحلة الصفراء ، بعدما جاءت إلى وادى مصر الأخضر ؟.. قال ذلك بهدوءٍ ماكر، ثم انحرف عن طريق الجماعة العائدة إلى أسيوط، فاتخذ سبيلاً إلى جهة الشمال الشرقى ، وتوغل بين الحقول وأجمَّة الغاب المتناثرة، حتى غاب عن ناظرىَّ .. لماذا أحكى كل هذه التفاصيل !

بعدما قضيتُ بضعة أسابيع بين أديرتها وكنائسها ، حائراً ، خرجتُ من أسيوط إلى الإسكندرية فى مركب نهرى يملكه تجارٌ فقراء أصلهم من عين شمس (هليوبوليس) .. كانوا قوماً طيبين، لولا أنهم لايكفُّون عن احتساء الخمر القوى، ولا يهدأون عند سُكرهم عن الغناء الهزلى الصاخب. كنتُ يوم ركبتُ قاربهم، أرتدى زِىِّ الرهبان المصريين، الذى صار اليوم ملزماً لكل الرهبان. توقيراً لردائى رَفَضَ أهلُ القارب، بعد أن وافقوا على سفرى معهم، أن يأخذوا منى أجراً .. قال أحدهم، وكان بالطبع مسيحياً : يكفينايا يا أبانا أن تحلَّ بقاربنا بركاتك ! كانت المرة الأولى التى يدعونى فيها أحدهم بالأب .

خلال أيام الرحلة، كان أغلبُ أكلهم الجبنَ والبصلَ والسمكَ المملَّح الذى لم آكله أبداً، عملاً بنصيحة عَمِّى الذى ربَّانى بعد مصرع والدى . نذرتُ خلال الرحلة النهرية صوماً ، فلم أتناول طيلة أيام الرحلة الثمانية، إلا البلح الجاف والماء ورحيق صلواتى .. يوم وصلنا إلى أقصى نقطة كانوا يقصدونها فى شمال النيل، سألنى صاحب المركب عن وجهتى التالية، فلما أخبرته نصحنى: لا تدخل الإسكندرية فى زِىِّ الرهبان، فأنت لاتعرف فى هذا البلد الهائج، مَنْ سيلقاك أولاً ! وأهدانى ثوباً من أثوابه.

أدركتُ فى لحظة إشراقٍ أنه ينطق بالحقِّ، وأن الآب الذى فى السماء، أراد أن يوصل لى رسالةً على لسان هذا الرجل. بقلبٍ مُفعمٍ بالمحبة والامتنان دعوتُ لهم بالخير والبركة، ثم أخذت سبيلى نحو الشمال الغربى، بين حقول خضراء تمتد إلى نهاية النظر.. هالنى انبساط الأرض، واتساع الرؤية . لاجبال فى دلتا النيل لتوقف نظرة المتلفِّتِ، وإنما أرضٌ منبسطة، وزروعٌ كثيرة متصلة، وأناسٌ طيبون تخرج نساؤهم معهم إلى الحقول. بالقرب من بلدةٍ اسمها تيمن حور (دمنهور) وجدت جماعة من الفلاحين يقصدون الإسكندرية على حميرهم، فصحبتهم وقد ارتديت ثوباً مما نلبسه فى جنوب الوادى، حيث الملابس أكثر اتساعاً عند الأكمام وعند فتحة الصدر. وطويت بعنايةٍ، زِىَّ الرهبان وغطاء الرأس الذى يميزِّنا. ووضعتهما أسفل مخلاتى، تحت الكتب، وبينهما الصليبُ الخشبى العتيق .

الجماعةُ القاصدة إلى الإسكندرية، كانوا عشرة رجال وسبعة بغال وثلاثة خراف وامرأتين، إحداهما عجوزٌ. وكان دليلهم متفاصحاً لا يكفُّ عن الكلام الغامز، وكانت إشاراته لاتخلو من فُحش الوثنيين. سألنى همساً عن سبب ذهابى للإسكندرية، وضحك لما قلت له ذاهبٌ لطلب العلم :

– فى الإسكندرية ماهو أحلى من العلم !

لم أكن قد استفسرتُ منه، لكنه تطوَّع بالشرح .. همس وقد اقترب من أذنى ، حتى شممتُ من فِيه رائحةَ البصل الكريهة :

– الإسكندريةُ مدينةُ العاهرات والذهب! هل تنوى الإقامة هناك أيها الجنوبىُّ ؟

– حسبما يشاء الرَّبُّ .

– أىُّ رَبٍّ فيهم يا ابن العم ؟ فى الإسكندرية أربابٌ كثيرة! المهم أن يكون لك قريبٌ هناك ، وإلا ستعانى الكثير .

– حسبما يشاء الرب الذى مجده فى السماوات .

– آه ، أنت مسيحىٌّ. أنت إذن تملك نصف المدينة ، هنيئاً لكم يا أبناء الإله المعذَّب، المصلوب، هأ هأ ها .. لكم نصف العالم، ولاشئ لى أنا الفلاح الفصيح، بعدما شاخت آلهتى القديمة .. دنيا عجيبة !

اشتدَّتْ حرارةُ الظهيرة. سرنا ساعاتٍ متطاولة، لم يكف خلالها الدليلُ المتفاصح، السمج، عن الكلام .. سألتُ رجلاً فى وجهه طيبةٌ، فقال لى بالقبطية البحيرية ما معناه: لم يبق على وصولنا للإسكندرية إلا مسيرة ساعتين. كلما اقتربنا كان اللونُ الأخضر يتناقص، وتتباعد الحقولُ عن اتصالها مفسحةً ما بينها للحجارة والرمال. كان ازديادُ اللون الأصفر من حولنا، مزعجاً لى .. الأصفر لونُ الموت، ولونُ الجدب، ولون معابد الآلهة المندثرة. لم أكن قبلها قد رأيتُ انبساط هذه الصفرة الكالحة على الأرض، إلى آخر امتداد الأفق. هاج انزعاجى مع زعيق الدليل، الفلاح الفصيح ، وهو يصيح فينا مستعجلاً الوصول :

– إذا بلغنا الأبواب بعد الغروب ، فلا تلوموا إلا أنفسكم !

حاولت تهدئته بلطفٍ من دون جدوى، أفهمته أن العجوز التى معهم مريضةٌ، ويشقُّ عليها شقَّ الطريق بأسرع مما نفعل ، فلم يقتنع . كانت الأرضُ المزروعة قد تبدَّدت من حولنا تماماً ، وتسيَّد اللونُ الأصفر .. لونُ الخريف والخطية. لما مالت الشمسُ نحو مغيبها، بدت لنا من بعيد كتلةٌ خضراء ، ظننتها أولاً مدينة الإسكندرية، وبُحتُ بظَنِّى. الدليلُ المتفاصح سخر منى، وهو يصيح فىَّ متهكِّماً: الإسكندرية خضراء .. هه، لايستطيع لونٌ واحد أن يغلب على مدينة الألوان كلها.

عرفتُ بعد ساعةِ سيرٍ ، أن الكتلة الخضراء هى مستنقعاتٌ وأحراشٌ تحفُّ المدينة من جهة الجنوب، حيث البحيراتُ الضحلة اللصيقة بها والترعةُ الآتية إليها من فرع النيل الكانوبى. وعرفتُ أن علينا الدوران لمسافة طويلة ، لندخل المدينة من الناحية الغربية ، من بوابةٍ لها يسمونها باب القمر! وهكذا عاد اللونُ الأصفر ليطغى على الأرض ثانيةً، بعدما اكتسى مع مغيب الشمس حمرةً خفيفةً .. بعد ساعةِ سيرٍ، بدت لنا الإسكندرية من بعيد كالحلم . قال لنا الفلاح الفصيح باستخفاف ، وهو يلكز بطن حماره بكعبيه، وينطلق : سألحق الأبواب قبل الغروب ، فإنى أبيتُ داخل المدينة !

كان كاهن الكنيسة الكبيرة فى أخميم قد حكى لى أن الإسكندرية من يوم إنشائها ولزمنٍ طويلٍ تالٍ، لم تكن تسمح بمبيت أمثالنا نحن المصريين داخلها . ثم تغيَّر الأمر مع مرور الأيام، فصارت المدينة بعد انتشار ديانتنا مفتوحةً للجميع. مازلت أذكرُ هيئة الكاهن وهَزَّة رأسه وهو يضيف يومها، بالقبطية الصعيدية، ما معناه : سيأتى اليوم الذى لن نسمح فيه للوثنيين، ولا لليهود، بالمبيت. لا فى الإسكندرية، ولا فى المدن الكبيرة كلها .. غداً سوف يسكنون جميعاً خارج كل الأسوار، وتكون المدن كلها لشعب الرب !

وكنتُ أعرف أيضاً، أن خارج أسوار الإسكندرية مساكين يسكنون بيوتاً فقيرة منذ عشرات السنين. لكننى لما وصلتُ هناك، أدهشتنى كثرةُ الخيام التى تحتضنُ أحفادَ المطرودين كل ليلة، ووفرةُ البيوت الحقيرة التى بناها الفلاحون المصريون غربىَّ سور المدينة.. لما وصلنا عندهم تفرَّقت الجماعةُ من حولى، من دون أن يقول أحدٌ لأحدٍ شيئاً. ووجدتُ نفسى تائهاً بين مئات المساكين من خراف الرب، المصطخبين حول قُدورٍ تغلى طعام العشاء. بين مَقَارهم الفقيرة، أطفالٌ تتصايح لرؤية الآباء المكدودين العائدين من يوم عملٍ شاق؛ وبين الجموع يجوس حراسٌ متأفِّفون، ورهبانٌ تتدلى لحاهمُ الشعثة على نحوٍ لافت، ولايبتسمون لأحد .

صاحبُ الخيمة الكبيرة القائمة على أعمدة من طوبٍ ردئ، زعق فىَّ طالباً أجرة المبيت، فأسرعتُ بدفع المطلوب. المبيتُ عند سور الإسكندرية مكلِّفٌ للغرباء ! فى بلادنا لا أحدَ يأخذُ أجراً، إذا استضاف أحداً. لو أننى بقيتُ فى زىَّ الرهبان، كنتُ سأبيتُ فى الكنيسة النظيفة التى مررتُ بها قبلها بقليل، ووصلنى من داخلها صوتُ خطيبٍ يزعق باليونانية .. ولم أفكِّر بالطبع، ساعتها، فى تبديل ثيابى . كان ذلك سوف يثير الريبة ، وقد يجلب علىَّ المشكلات . قلتُ فى نفسى: لابأس، سأدخل المدينة فى صورتى الأصلية، إنسانٌ تعيسٌ من جنوب الوادى، كان أبوه يصطاد أسماك النيل، ويتجنَّب التماسيح وأفراس النهر . أنا من هؤلاء الذين يملأون المكان من حولى . ولن يحمينى إلا أن أندسَّ بين خراف الرَّبِّ و ألوذ بهم.

انزويتُ بطرف الخيمة الرحيبة، منهكاً. تحسَّست فى جوف مخلاتى، الرسالة التى بعثها معى القَسّ الأخميمى، الذى رسمنى راهباً، إلى صديقه القَسّ يؤانَّس الليـبى المقيم بالكنيسة الكبيرة المسماة كنيسة القمحة، يقال لها أيضاً: المرقسية، تيمناً بمرقس الرسول صاحب الإنجيل، الذى بشَّر بالمدينة وقتله حُكَّامها .. لما لمستُ رسالة التوصية بأطراف أصابعى، اطمأنتْ نفسى قليلاً .

نويتُ أن أقضى أياماً متجوِّلاً فى المدينة قبل ذهابى للكنيسة، لأرى أولاً كل ما أودُّ أن أراه. ثم أسلِّمهم نفسى، أرى ما يودُّون هم أن أرى. ظننتُ أننى سوف أتعلَّم الكثير فى الإسكندرية، كما أكَّد لى كثيرون، فطمأننى ظنِّى .. تحسَّستُ قلب مخلاتى، حتى أخرجتُ حفنةً من البلح الجاف، ورحتُ أمضغ برفق مستشعراً نعمة الرَّبِّ الذى مَنَّ علينا بإحساس الشبع من بعد جوع .

ابتسم لى رجل كان يجاورنى ، هيئته رَثَّةٌ وفى عينيه طيبةٌ. مددتُ له بعض البلحات فأخذها، ثم دسَّ يده فى مخلاته ليخرج لى قطعةً من الجبن. اعتذرتُ له، ولم أخبره بأننى كنتُ صائماً. سألنى عن موطنى الأصلى، فقلتُ من دون أن أفكِّر: نجع حمادى، فاستبشر وقال:

– أنا أصلاً من أَنْصِنا (سمالوط) ولدتُ هناك، ولكنى أعيشُ هنا منذ سنين طويلة .

تزحَّف الرجل نحوى، وراح يحكى لى عن بلدته الواقعة بقلب الصعيد، شرقىِّ النيل. قال إنه نشأ بقريةٍ قرب جبلٍ هناك يسمونه جبل الطير؛ لأن طيوراً تأتى فى كل عام وتحطُّ عنده فتملأ الأجواء، ثم ترحل فجأة بعدما يضحِّى طيرٌ منها بنفسه! بأن يُدخل رأسه فى كوةٍ بسفح الجبل، فيتلقَّف رأسه من داخلها شئ مجهولٌ، فلا يُفلته حتى يجف جسمه ويسقط ريشُهُ . فتكون تلك إشارةً لبقية الطير، كى يغطسوا فى النيل ويرحلوا فى الليل، ليعودوا العام التالى فى الموعد ذاته، ويعيدوا الكرَّة.

همس لى الرجلُ بأن فى بلدتهم مسوخاً كثيرةً، يقصد التماثيل القديمة، منها تمثالٌ عجيبٌ لرجل يضاجع امرأة ! وعلى رأس الجبل كنيسةٌ يسكنها الرهبان، اسمها كنيسة الكف؛ لأن يسوع المسيح حين مَرَّ هناك أثناء رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، ترك بها أثر كَفِّه على حجرٍ لان له، لتكون معجزةً وعبرةً للآتين من بعده .. أضاف: كما ترك هناك عصاه التى كان يهشُ بها على غنمه ! قلت للرجل الذى ما عدتُ أتذكر اسمه :

– لكن يسوع المسيح لم يأت إلى مصر، إلا رضيعاً .

– ماهذا الكلام يا ابن العم ، يسوع المسيح عاش حياته كلها، ومات، بمصر !

عرفتُ أن الرجل لايعرف شيئاً، أو لعله هو يعرف شيئاً لا أعرفه، أو أن كلينا يتوهَّم ما يعتقد أنه يعرفه. لم تكن لدى رغبةٌ فى مواصلة الكلام معه، فاعتذرتُ إليه برغبتى فى النوم، ثم غطَّيتُ رأسى بقطعة القماش القديمة التى أعطانيها صاحب الخيمة، ونويتُ أن أنام جالساً مثلما هى عادتى فى الليلات الليلاء .. أغلب ليلاتى ليلاء .

رحتُ قبل أن يدهمنى النومُ، أفكِّر فى جبل الطير، وفى الكنيسة التى بأعلى الجبل. كان يجب علىَّ المرور بهذه البلدة فى طريقى، حتى أرى ما بها من عجائب. تفوتنا فى الطريق أشياء كثيرة. بلادُ مصر مليئةٌ بالعجائب وبالمعجزات، لأنها مليئةٌ بالمؤمنين . منعنى عن النوم، ليلتها، توالى المشاهد التى مررتُ بها فى رحلتى، وفى حياتى كلها: الفتى والقرد اللذان صعدا النخلة أمامى كأنهما يطيران إلى البلح .. الكنيسةُ الصغيرة كالغرفة، حيث أمضيتُ ليلةً على ضفاف النيل بأسيوط، بعدما قادنى إليها شماسٌ أصله من بلدة تسمى قوص .. ركوبى النهر فى قارب التُّجَّار الفقراء، وصخبهم الذى لا يهدأ .. عينُ الشَّمَّاس القوصى الدامعة وهو يودِّعنى، بعد ثلاثة أيام قضيتها فى الغرفة الملحقة بالكنيسة الصغيرة التى يخدمها .. نظرُة أمى الفزعة ، حين أخبرتها بعلمى بأنها وشت بأبى لدى أقاربها من جُهَّال أهل الصليب .. جريتُ من أمامها ، ولم تستطع اللحاق بى، ولم أرها بعد ذاك اليوم قط .. بكائى الحارُّ، يوم علمت بزواجها من أحد أقاربها الذين قتلوا أبى .. صورةُ بيتنا الذى هربتُ منه، وهجرته أمى بعد هروبى وزواجها .. يومُ ارتميتُ فى حضن عمى الذى جاء يبحث عنى، فرأيته فى إهاب المخلِّص .. التحاقى بالمدرسة الكبيرة فى نجع حمادى حين كنت فى الحادية عشرة من عمرى .. زوجةُ عمى، نوبية الأصل، ورائحةُ طبخها الشهىِّ لنا قبيل الغروب ..

كاد النوم يأخذنى، لولا أننى انتبهتُ لمَّا دخل الخيمة قَسّ ضخمٌ، أجشُّ الصوت. لم يتمهَّل حتى يصل لمنتصف الخيمة الواسعة، بدأ خطبته الزاعقة فور دخوله علينا : أبارككم يا أبناء الله ، باسم يسوع المسيح الإله الرب المخلِّص ، أمنحكم البركة السماوية . يا خراف الرَّبِّ ، كونوا قريبين من يسوع المسيح ، مثلما هو قريبٌ منكم . الرَّبُّ يحبُّكم، فأحبُّوه. صَلَّوا إليه قبل نومكم وبعد صحوكم ، فتناموا بين يدى رحمته. المحبة روحُ الله، فأحبُّوا إخوانكم وأقاربكم وأولادكم ، وأحبُّوا أعداءكم ..

بالقرب منى، همس فلاحٌ خبيثُ النظرات لمن حوله، بسخريةِ الخراف الضالة: وهل يحب سيدُه كِيرُلُّس، إخوانه اليهود؟ ضحك المحيطون به بتكتُّمٍ، وأضاف أحدهم: طبعاً، كِيرُلُّس يحبهم إلى درجة موتهم وطَرْدهم خارج الأسوار .. لم يلتفت القَسّ أجشُّ الصوت ناحيتهم، لعله لم يسمعهم، أو هو لا يسمع إلا ما يحفظه ويتلوه على الناس كل ليلة. أكملَ خطبته الزاعقة التى انتزعتنى من دفين ذكرياتى، بأن قال ما معناه: يا أبناء الله، بيت الرب مفتوحٌ لكم. فتعالوا للكنيسة صبيحة الأحد، واحصلوا على البركة. أقبلوا حتى يُقبل عليكم ربكم، وتكونوا مع الرُّسُل والقدِّيسين والشهداء .

بعدما أفرغ فينا كل ما كان فى فمه من كلام، خرج القَسّ مزهواً وكأنه ألقى علينا عظة الجبل. تبعه الجندىُّ السمينُ ، الصامت، الذى دخل وراءه .. سَرَتْ فى أهل الخيمة همهماتٌ وضحكاتٌ مكتومة، انهمكوا بعدها فى أحاديثَ تافهةٍ، يمررون بها لقيمات الخبز الخشن والجبن المالح والسمك المملح. امتلأتْ سماءُ الخيمة برائحة البصل . تمددتُ فى موضعى بقرب باب الخيمة، حيث رائحة الزهومة أخف، وأسلمتُ روحى لفيضان الأحلام .

رأيتُ فى تلك الليلة رؤى كثيرة، لم أطمئن إلى واحدةٍ منها. وتقلقلت فى نومى حتى أيقظنى عند الفجر صخبُ النائمين حولى، أقصد شخيرهم العالى. وصخبُ المحيطين بالخيمة .. وبكاءُ طفلٍ رضيع، ونداءُ بائع اللبن الرايب، وصوتُ عصافير. وددتُ لو غفوتُ ثانيةً ، فأمامى يوم طويل مجهول البدء والمنتهى . أمامى عالمٌ هائلٌ، يحتجبُ عنى خلف بوابة المدينة العظمى.. غير أننى لم أستطع العودة للمنام، فاكتفيتُ بإغماض عينى إلى أن تمتلئ الأرض بالنور، وتشرق شمس الله على الأبرار والأشرار، كما هو مكتوب.

خرجتُ من الخيمة باحثاً عن بعض الماء لأمسح وجهى، فلم أجد. كان الناس مشغولين ببداية يومٍ آخر، شاق، من أيامهم .. فى ساعةٍ مبكرةٍ من الصباح، يعرفونها، اتجهوا إلى بوابة المدينة . أدهشنى أن البوابة لم تكن خلال الليل مغلقة ! بل هى لا تغلق أبداً ، ومصراعاها المفتوحان مطمورٌ أسفلهما برمالٍ متحجِّرةٍ وصدأ ملحىٍّ ، بما يدل على أنها لم تغلق منذ سنوات بعيدة .. فلماذا يبيت هؤلاء الناسُ خارج الأسوار ؟

أخذنى نهرُ الفقراء الدافق نحو البوابة. كانوا يسيرون بخطى مثقلة، لم يتدافعوا. مشيتُ معهم تاركاً نفسى لتيار النهر البائس المستسلم لمشيئة الرب. وجوه الداخلين شاحبة ، ملابسهم قديمةٌ ونظيفة، تتخللهم غبطةٌ خفيةٌ لاتشى هيئتهم بها .. تحقَّقت لوهلة خاطفة، بأن هؤلاء جميعاً، مسيحيين ووثنيين، هم أبناءُ الرب .

كان الحراسُ عند البوابة، يحدِّقون فى الداخلين بإمعان. لم يمنعوا أحداً، مع أن وقفتهم المتحفزِّة كانت توحى بأنهم على وشك المنع. سورُ المدينة عالٍ ، لم أر قبله سوراً بمثل ذاك العلو . كان فوقه حراسٌ آخرون، ينظرون إلى ناحيتنا بكسلٍ . بوابةُ السور تكفى لدخول كثيرين دفعةً. فى الباب المفتوح بابٌ أصغر ، يكفى لدخول شخصٍ واحد. يدلُّ صدأُ حوافه على أنه أيضاً، لم يفتح منذ سنوات بعيدة .. لا أتذكر أننى رأيتُ ابتسامةً واحدة ، يوم دخولى من بوابة القمر .

الإسكندرية هائلةٌ. عظيمةُ الاتساع. امتصَّت شوارعها نهر الداخلين بيسرٍ، فكأنهم نملٌ يدلف فى شَقِّ صخرةٍ عظيمة . الطرقُ مبلَّطة بأحجارٍ صغيرة، رمادية، وعلى حوافِّ معظم الشوارع أرصفةٌ. عرفت يومها معنى كلمة رصيف التى كان القَسّ الدمياطى، معلِّمى فى نجع حمادى، يذكرها خلال كلامه. الشوارع نظيفةٌ ، كأنها عروس تغتسل كل ليلة، فتصبحُ مستبشرةً. الكادحون، يغسلونها كل ليلة، ويبيتون خارج أسوارها. لم أر فى ذاك الصباح الباكر، كثيراً من سكان المدينة. فى بلادى الأولى، كانوا يقولون لنا إن الإسكندرانيين ليسوا مثلنا، فهم يحبون السَّهَر بالليل، ولا يقومون من نومهم مبكرين .

لم تدهشنى ضخامة بيوت الإسكندرية وكنائسها، فقد رأيتُ فى مصر من المعابد القديمة ماهو أضخم كثيراً من تلك البنايات. لكن الذى أدهشنى فى أنحاء المدينة، كان الدقةَ والتأنُّق: الطرقات، الجدران، واجهات المنازل، النوافذ ، المداخل المزروعة، الشرفات المحفوفة بالورود ونباتات الزينة .. المدينةُ كلها دقيقةُ الصنع، ومتأنقةٌ . غير أن هذا الجمال المنبث فى كل مكان ،لم يكن يشعرنى بأن الإسكندرية هى مدينة الله العظمى كما يسمونها .. رأيتها أقرب إلى : مدينة الإنسان !

– أيها الجنوبى، هذا طريقُ الإِستاد. فهل أنت قاصدٌ إليه، أم إلى حَىِّ المصريين ؟

– لا يا خال ، أنا ذاهبٌ إلى البحر .

– البحر فى كل مكان ! عُدْ من حيث أتيت، ثم اتجه يساراً واعبرْ الشارع الكانوبى، وواصل السير شمالاً ، واجعل كنيسة بوكاليا على يسارك، وسِرْ حتى تجد البحر .. البحرُ هو الذى سيجدك .

شكرتُ المرشد المتطوع، حارس المنـزل ، واتجهتُ كما وصف. لماذا لم يتركنى أهيمُ كما أشاء وكما شاء لى الربُّ، فأرى ما لستُ أتوقَّع؟ كنيسة بوكاليا التى ذكرها رأيتها بعد ذلك بشهور، يُقال إن رفات مرقس الرسول محفوظةٌ بها. أما يومها، فقد عبرتُ فى طريقى جسراً حجرياً صغيراً، يعلو ترعةً عذبة تجرى من جنوبىِّ المدينة إلى الشمال، حتى تصبَّ فى البحر. لم أتجه مع مسار الترعة، فضَّلتُ المضىَّ شرقاً فى الشارع الكانوبى.. هو شارعهم الكبير الذى يشق المدينة لنصفين، النصف الشمالى يسكنه الأغنياء، والفقراء يسكنون جنوباً. فقراءُ الإسكندرية أغنى من أغنياء الناس فى بلادى الأولى .

لما علت شمسُ النهار إلى كبد السماء، دبَّت الحياةُ فى الشوارع الفرعية. عدد الناس كان أكثر مما ظننتُ. مررتُ بجماعةٍ من رجال الكنيسة يتجهون شمالاً، وحولهم عمالٌ يحملون معاول. كان العمال يردِّدون خلفهم: باسم يسوع الإله الحق ، سنهدم بيوت الأوثان، ونبنى بيتاً جديداً للرب. العبارات الثلاث منظومة الإيقاع فى لفظها اليونانى، ووقعها مختلف عن نصِّها السريانىِّ هذا .. الإسكندرية لاتتكلم السريانية.

أسرعتُ خطاى مبتعداً عنهم، حتى بدت لى الكنيسة الكبيرة جهة اليسار. لم أمض فى طريقهم، وإنما سرتُ شرقاً مع الشارع الكانوبى الكبير، الأنيق، الممتد بطول المدينة من بوابة القمر التى دخلتُ منها، إلى بوابة الشمس الواقعة شرقىِّ المدينة ، ومن خلفها تمتد بيوت اليهود التى مررت عليها يوم خروجى من الإسكندرية، بعد سنواتٍ ثلاث من دخولى إليها وانزوائى بها .

الشارعُ الكانوبى دنيا كاملة . مرصوفٌ كُلُّه ، والبيوت على جانبيه أنيقةٌ، كلها، وفيه تصبُّ شوارع أخرى أصغر منه تنسرب منه جنوباً وشمالاً. كل ما حولى يومها كان بديعاً ، إلا ذلك التمثال البائس الذى يتوسَّط الطريق. عرفتُ بعدها بأسابيع، أنه تمثال لإله كانوا يسمونه سيرابيس، وقد استبقاه أسقف الإسكندرية السابق ثيوفيلوس من معبد السرابيون الكبير، بعدما هدمه على رؤوس الوثنيين المعتصمين فيه. وقد أقام الأسقفُ التمثال البائس فى وسط الطريق، ليفجع الوثنيين بمصير معبودهم، ويخلِّد انتصاره عليهم بإهانة آلهتهم إلى الأبد. جرى هدم المعبد الكبير فى العام الذى وُلدت فيه، أعنى سنة سبع عشرة ومائة للشهداء، الموافقة لسنة إحدى وتسعين وثلاثمائة للميلاد المجيد .. ولثلاثةٍ وعشرين عاماً، ظل التمثالُ خيرَ شاهدٍ على بؤس الوثنية الغابرة ! تأثَّرتُ ساعتها لرؤيته ، كان يعلوه زبل طيور البحر، وتحوطه القمامة من كل النواحى، فيبدو مضحكاً وهو مغروسٌ بقدميه فى بلاطات الشارع، من دون قاعدة تحمله .

لم أحدِّق كثيراً فى التمثال كيلا ألفتَ أنظار المسيحيين، والوثنيين، المارين من حولى. لايجب أن يلتفت إلىَّ أحدٌ، لا من أولئك، ولا من هؤلاء، ولا حتى من اليهود الذين يحظون فى المدينة بكراهية الفريقين! يكرههم الوثنيون لجشعهم، ويمقتهم المسيحيون لوشايتهم بالمخلِّص وتسليمه للرومان ليصلبوه .. ليصلبوه .. أتراه صُلب حقاً ؟

عند ميدانٍ يتوسط الشارع الطويل، أخرجنى من توالى الأفكار وانتظام خطاى ، صوتُ المنادى الزاعق باليونانية من فوق بغلته: الحاكم أوريستيس يدعو العلماء والمتعلِّمين، إلى محاضرة أستاذة كل الأزمان، صباح يوم الأحد بالمسرح الكبير. تعجبتُ لما تأكَّدتُ من أنه يقول: أستاذة كل الأزمان! هل للزمان أستاذة .. امرأة ؟ شككتُ أولاً فى صحة فهمى للعبارة، مع أن صيغتىْ المؤنَّث والمذكر فى اليونانية لا يلتبسان، لوضوح الفرق بينهما. ثم شككتُ فى صحة عقل المنادى، مع أنه بدا لى جاداً. والجديةُ، بحسب ما تعلَّمناه فى أخميم هى نقيضُ الخبل .

دفعتنى شكوكى للخروج من حرصى، فلحقتُ بالمنادى، وسألتُ تابعه الصغير، فنظر الولد فىَّ مندهشاً، ولم يجاوبنى. كان المنادى قد أوقف البغلة بضَمِّ ساقيه إلى صدرها، ومَدَّ يده فى مخلاته ليخرج قنينة طويلة العنق من الفخار الأبيض ارتشف منها جرعة، فكانت لدىَّ الفرصة لأسأله :

– يا خال ، أين ستكون المحاضرة ؟

– مالك أنت بالمحاضرات، يا فلاح ، أم تراك تطمع فى الحلوى التى يوزِّعها الحاكم هناك ؟

– أنا لا آكل الحلوى. أريدُ فقط أن أعرف منك، من هى أستاذة كل الأزمان ؟

– فلاحٌ لا يأكل الحلوى، ويتكلم اليونانية الفصيحة، ولا يعرف هيباتيا .. هذا وحَقِّ سيرابيس ، عجيبٌ !

تركنى المنادى، ومضى مستخِّفاً بى، وراح يصيح بالعبارة نفسها: الحاكم أوريستيس يدعو العلماء والمتعلمين .. غاب عنى فى شارعٍ جانبىٍّ بعدما تركنى مبهوتاً، أفكر فى المرأة التى يمكن أن تكون: أستاذة كل الأزمان !

انتبهتُ بعد تيهٍ ذهنىٍّ إلى مقصدى الذى انحرفتُ عنه قبل ساعة، أعنى الوصول إلى البحر. فأكملت مسيرتى شرقاً فى الشارع الكانوبى حتى لقيتُ شارعاً كبيراً إلى ناحية الشمال. كنتُ قد تجاوزتُ الموضع الذى وصفه لى المرشدُ المتطوع، حارسُ البيت، فأسرعتُ الخطى أملاً فى الوصول إلى مبتغاى، أو إعادة المحاولة. كنتُ كلما سرتُ شمالاً، أحسُّ بالبحر أكثر فأكثر .. شيئاً فشيئاً، صارت أرضيةُ الشوارع الفرعية رملية، وصارت البيوتُ متباعدةً عن بعضها، وأحجارُ جدرانها متآكلةً حائلةَ اللون . عرفتُ بعدها أنه فعلُ هواء البحر، الآتى من مكانٍ قريب .

رائحةُ البحر قويةٌ، وصوتُ أمواجه راح يلامس أُذنى، فيلفُّنى شعورٌ غريب. لما ظهر لى البحرُ من بين البيوت، أسرعتُ خطاى حتى جزت إلى المنطقة الرملية الواسعة، الممتدة خلف البيوت .. بيتٌ منها كبيرٌ كالقصر، كان آخر البيوت ذات الأسوار الأنيقة. عند بابه الكبير كان يجلس حارسٌ متقدِّمٌ فى السن، يرقد عند قدميه خروفٌ نحيل . مررتُ بهما من دون التفات، الحارسُ أيضاً لم ينظر ناحيتى . كان الخروفُ هو الذى نظر.

لما رأيتُ البحر محيطاً باللسان الرملى الممتد فيه، هممتُ الخطو حتى اقتربتُ من منطقة صخرية وسط اللسان، ثم سلكتُ سُبلاً رمليةً ممتدةً بين الصخور.. صخورُ الإسكندرية حادةُ الحواف، شعثةٌ وقاسية. هى لاتشبه البيض الصخرى الذى تدحرج مع النيل من السماء، فاستقر على ضِفَّتيه فى بلادى الأولى . بدا لى البحرُ يومها، كأنه بلا ضفاف! مع أنه كان يظهر لنا صغيراً فى رسوم كتاب الجغرافيا. مشيتُ مبتعداً عن الصخور، حتى انبسطت من تحت قدمى الرمالُ، وأحاطنى البحر من الجهات الثلاث .. على مقربةٍ من الموضع الذى يتلاشى فيه زَبَدُ الأمواج، ألقيتُ عنى مخلاتى التى ثقلت علىَّ من طول ما حملتها . وبحرصٍ بالغٍ تقدَّمتُ، حتى لمس ماءُ البحر أقدامى .. هالنى الامتدادُ .. كاد يُغمى علىَّ من هول اتساع الماء . مددتُ ذراعى كأننى أوشك أن أطير، وملأتُ صدرى بالهواء الآتى من فوق الموجات . أبهجنى مَسُّ البحر لكعبىَّ، ورقَّةُ ارتماءةِ موجاته المنهكة تحت قدمى .

البحرُ .. إنه الماءُ الأعظم الذى بدأ منه الوجود. من وراء هذا البحر بلادٌ، من ورائها بحرٌ أعظم يحيط بالعالم . إذ أتذكَّر الآن هذه اللحظة التى عشتها قبل عشرين سنة، أكاد أشعرُ بالرذاذ يمسُّ وجهى، وبالروعة التى أوقفتنى ساعتها على ساحله شاخصاً كالمسلاَّت العتيقة.

كانت رائحةُ البحر غريبة علىَّ ، والماء مالح . ساعتها تاقت نفسى للعوم فى هذا اليم العميم، مثلما كنتُ أسبح فى النيل أيام الطفولة. كنتُ أعرف من الكتب، أنه لاتوجد فى هذا البحر تماسيح، ولا أفراس نهرٍ، ولايعيش عند ضفافه الورل([1]) .. ولكننى كنتُ متوجِّساً ، مما يمكن أن يخبِّئه لى هذا البحر العظيم من أخطار .

تلفَّتُّ فى كل الجهات ، فلم أر فى المدى أحداً غيرى . ملتُ بكفى إلى البحر وغسلتُ وجهى بمائه المالح ، فخفَّ توجُّسى . تقدمتُ متردِّداً، حتى وصل الماءُ لركبتى . انتابنى شعورٌ آخر ما كنتُ أعرفه .. لا طين ولا لزوجة فى قاع البحر. الرملُ ممتدٌ، ومن فوقه يتتالى الموجُ. كانت الموجاتُ تهزُّنى، وتدغدغ فىَّ حَوَاسّاً منسية . أغمضتُ عينى، مستسلماً لهَزَّات الموج اللطيفة، المثيرة. كادت موجةٌ توقعنى، فضحكتُ بصوتٍ عالٍ لم أسمعه منى قبلها بسنواتٍ، ولا بعدها بسنوات.. عدتُ مسرعاً إلى الشاطئ، فوضعتُ مخلاتى قرب صخرةٍ ناتئةٍ وسط الرمال، وألقيتُ فوقها جلبابى التعيس، واندفعتُ إلى الماء .. يا إلهى ، كان قلبى لحظتها يخفق بالغبطة .

العومُ فى البحر سهلٌ ، الماءُ يحملنى ولا يجذبنى تياره مثلما كان النيلُ يفعل بى أيام الطفولة . ماءُ النيلِ عَذْبٌ وطينىُّ القاع، وهذا البحرُ مالحٌ وكاشفٌ لقاعه الرملى. كنتُ أقف وسط مائه الذى يغطى صدرى ويمسُّ كتفىَّ، ومع ذلك أرى قدمى، وأرى الرمال وقطع الصخور النائمة على القاع. النيلُ إذا نزلناه، ثار طينُ قاعه، وصار ماؤه عكراً، وقد تُخفى العَكَرةَ التماسيح. أما البحر، فلا أخطارَ فيه تهدِّد العائمين، وتبدِّد فرحة رجوعهم المؤقَّت إلى الماء الأصلى الذى بدأ منه العالم .

 

لما حملتنى صفحةُ الماء بلا جهدٍ كبيرٍ منى، جال بصرى فى السماء وفى الأفق الممتد من حولى .. ناحية الغرب لمحتُ مراكبَ كبيرة ، بعيدة. وإلى جهة الشرق كانت نوارسُ تطير على امتداد الشاطئ. النوارس كانت كثيرةً، وطيرانها مبهجٌ .. أُتراها هى الطيور التى تزور كل عام، الجبل الذى حَدَّثنى عنه الرجل فى الخيمة ؟

غمرتنى السعادةُ فوق صفحة الماء، حتى وقع ماجرى معى، فجعلنى لا أقرب البحر من بعد ذلك أبداً .. فوق صفحة الماء الرقراق، كانت نبضاتُ الدفء الداخلى تزيح عنى برودة قلبى وارتعاشة أطرافى. ولما حملنى البحرُ، شعرتُ بأننى جنينٌ يخرجُ من رَحِمٍ هائل. انتابتنى الأحاسيسُ الغريبة، وأخذتنى لهفةُ اللمس ودغدغةُ الشهوة. أنا الذى لم أعرف قبلها امرأةً فى حياتى، ولم أكن أنوى أن أعرف. غير أننى ساعتها تفكَّرتُ فى تلك اللذة، وجال ببالى أن البحرَ امرأةٌ لعوبٌ تمتِّع الرجال العائمين، من دون خطيةٍ تُحسب عليهم أو يحاسبون عليها.. البحرُ رحمةٌ من الله للمحرومين، لك المجد يا أرحم الراحمين .

تركتُ نفسى للماء الصافى، بأن استلقيتُ على ظهرى فوق صفحته، ومددتُ ذراعىَّ بطولهما. كنتُ أفعل ذلك فى صغرى ، فوق صفحة ماء النيل ، ثم صرتُ أفعله فى صومعتى، حيثما أخلو .. وأصفو! أتمدَّد على الأرض وأبسط ذراعىَّ، وأجول فى سماوات خيالى، غير أن المرة التى فعلت فيها ذلك فى بحر الإسكندرية؛ كانت مختلفة. كان ماء البحر يحملنى بأكثر مما كان النيل يفعل. كنتُ أخفَّ، وكانت الشمسُ يتلألأ نورها بين جسمى الطافى وسطح الموجات، فتنعكسُ الأضواءُ على أعضاء جسمى العارى، وتتقاطع فوق سمرة بشرتى، فتكسوها أَلَقاً نادراً.. كانت المرة الأولى، التى رأيتُ فيها أن جسمى جميلٌ وسُمرتى لطيفةٌ ! البحرُ يظهر مالا يظهره النهرُ من بدائع الصُنع الإلهى فى الكون، وفى أجسامنا .

فوق صفحة الماء تذكَّرتُ، هانئاً، استلقائى على التلة التى يرتاح فوقها البيتُ الذى وُلدتُ فيه، حيث كان الحمامُ يحطُّ من حولى .. ولما مالت الشمسُ عن وسط السماء إلى جهة الغروب ، انتبهتُ لعضَّات الجوع . بدا الشاطئُ بعيداً عنى ، ولمحتُ قرب ثيابى شخصاً يلوِّح لى بطول ذراعيه، فانتابنى قلقٌ مفاجئٌ وغاص فى صدرى توجُّسٌ. رحتُ أضربُ بساقىَّ وذراعىَّ بقوة ، لأعود سريعاً إلى ملابسى . بعد لحظات طوال كالدهر، عرفتُ أننى لا أتقدَّم نحو الشاطئ .. زِدتُ من سرعة ضرباتى فى الماء، غير أنى لم أقترب من مقصدى . أُنهكتُ فجأةً، وكادت ذراعى اليسرى تتصلَّب. تركت جسمى ليطفو، لأستريح برهةً، غير أننى فزعتُ لما أدركتُ أن الماء يجرُّنى إلى قلب البحر العميق . عاودتُ العوم منهكاً، ولكن جَذْبُ الماء كان أقوى من ضربات ذراعى المتلاحقة الفزعة .. وأدركتُ ساعتها أن البحر غادرٌ .

الشخصُ الواقف على الشاطئ كفَّ عن التلويح لى، وغاب عن عينى لما حال بيننا الموجُ.. كنتُ قد أُنهكت تماماً، وكان البحرُ لايرحم. لما تيقَّنت من أننى أغرقُ صحتُ رغماً عنى، ثم كتمت صيحاتى لأستعين بما تبقى من قوتى على الرجوع. صار الألمُ مبرِّحاً بذراعى اليسرى، لكنى واصلتُ التجديف بها . هتفتُ فى باطنى: يايسوعُ المسيح كُنْ معى الآن، وسأنذرُ كل حياتى لك . ازدادتْ ضرباتى لسطح المياه، وعانيتُ طويلاً مما زَجَجْتُ نفسى وتورَّطتُ فيه .. بعد معاناة طويلة فى مغالبة جذب الماء للوراء، وجدتنى أندفع مع ضربات ذراعى إلى ناحية الشاطئ. كان لهاثى متتابعاً، مثل زخَّات بهجتى بالنجاة .. لما وصلتُ إلى النقطة التى بقرب الشاطئ، حيث تنقلب الأمواجُ وتهدرُ، لمستْ قدمى الأرض. وشكرتُ الربَّ بقلبٍ مضطرب .

رحتُ إلى مخلاتى مترنِّحاً ، وحين لم أجد أحداً غيرى على الشاطئ الرملى الممتد، ظننتُ لوهلةٍ أن الذى كان يلوِّح لى منبِّهاً من خطر الغرق،لم يكن من البشر . وإنما هو ملاكٌ أرسله الله من السماء، لينقذنى من التوغُّل فى غواياتى .. قلتُ فى نفسى إن أبانا الذى فى السماوات رحيمٌ بنا، وإن أسراره فى الوجود لا تنتهى، وإننى لن أقرب البحر من بعد ذلك أبداً.

جلجلتْ ضحكةٌ ناعمةٌ من ناحية الصخور القريبة، فنهضتُ من استلقائى على ظهرى . نظرتُ إلى جهة الصوت مذعوراً، فرأيتُ امرأةً بيضاءَ فى ثوبٍ سكندرىٍّ مكشوف الصدر والذراعين .. أقبلت المرأةُ متمايلةً، كأنها نجتْ تواً من الغرق فى بحر الميوعة :

– أنت سبَّاحٌ ماهرٌ ، ومحظوظٌ أيضاً .

– من أنت يا سيدتى ؟

– سيدتى .. هأ هأ ، أنا أوكتافيا خادمة السيد الصقلى ، تاجر الحرير .

 

نظرتُ إليها بعينٍ زائعة كأننى فى حلم، أو كأننى متُّ غرقاً وبُعثتُ فى زمنٍ آخر. نظرت حولى، فكانت النوارس ماتزال تطير، والبيوت البعيدة فى موضعها مثلما كانت. مسَّتنى نسمةٌ باردة، فانتبهتُ .. ما الذى جاء بهذه الخادمة التى لا تبدو كالخادمات ، إلى هنا ؟ لم أجد عندى إجابة، فسألتها متلعثماً، وردَّت هى بلا تردُّد :

– أرسلنى بوسيدون.. إله البحر الذى أنقذك، فأنا من حورياته .. هأ هأ .

– أرجوك ، لا تعبثى بى .

– لا تعبس أيها الجنوبى .. سوف أخبرك بكل شئ .

قالت إن اسمها أوكتافيا، وإنها تأتى لهذا المكان معظم الأيام التى يكون فيها سيدها مسافراً مع تجارته، فيأخذ معه خدمه كلهم. فلا يبقى معها بالبيت، إلا الحارسُ الجالسُ على بابه.. هى، كما قالت، تفضِّل المجيئ إلى هنا لتحكى همومها إلى البحر، لأنه يحفظ الأسرار! أخبرتنى وهى تنظر ناحية الموج، أن هذا الشاطئ لا يرتاده الناسُ لكثرة صخوره وخطورة دوَّاماته القريبة من الشط .

– آه، عرفتُ الآن ما جرى معى .. ولكن كيف عرفتِ أنت أننى جنوبىٌّ .

– من لهجتك. وأعرف أيضاً أنك الآن جائعٌ ، من طول بقائك فى البحر ! فتعال لتأخذ شيئاً تأكله .

لم أعرف ساعتها كيف أردُّ عليها. كان الجوعُ يقتلنى ، والخجلُ. أخرجتنى هى بلطفٍ من حرجى، حين قالت بحسمٍ ممزوجٍ بميوعةٍ لم أر مثلها : هات مخلاتك ، وتعال .. مشتْ نحو شَقٍّ واسعٍ بين الصخور، وبقيتُ فى موضعى مشدوهاً مُدلَّهاً، أرقب من قريبٍ مشيتها المتدللة. كانت فى سن الأربعين، أو الثلاثين، لم أعرف. جسمها يميل قليلاً إلى البدانة، ويميل كثيراً إلى اللدونة. كانت تتمايل فى مشيها، كأنها خيط بخور . فهل تراها كانت تتعمَّد يومها إغوائى، أم أنها طبيعة النساء فى الإسكندرية ؟

سأكفُّ الآن عن الكتابة ، فالذكرياتُ تحتشد بقلبى، وتُثقل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي مصري

مقالات من نفس القسم