عربـة تجـرها خيول .. روايـة الموازاة الأسطورية بين الحقيقـة والخيـال

عربـة تجـرها خيول .. روايـة الموازاة الأسطورية بين الحقيقـة والخيـال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمجد ريان

كان المفكرون والنقاد فيما مضى يقولون إن الأسلوب هو الرجل ، وبعد فترة رأى باختين أن كل خطاب يعود إلى فاعلين اثنين، وبالتالى إلى حوار محتمل، وبالتالى أصبح الأسلوب رجلين، ثم أصبح الأسلوب الآن هو الرجل ومجموعته الاجتماعية مجسدين عبر الممثل المفوّض وهو القارئ الذى يشارك بفعالية فى النص ذاته .

وهذا يمكن أن يكون مدخلنا للحديث عن رواية [عربة تجرها خيول ـ لحسين عبد الرحيم ] وهى تحكى عن شاب ضائع فى أحد الموانئ يمارس علاقات لامعنى لها مع البشر والتاريخ والملامح المكانية في الميناء مع ملاحظة أن كل هذه المعطيات ذات دلالات رمزية تشير إلى تاريخ الرحلة الآدمية العجيبة كلها على وجه الأرض، تتقاطع الرواية بقوة مع أحلام جيل جديد قدر له أن يعيش في عقد الثمانينيات وأن تنتمى فعالياته الثقافية إلى هذه المرحلة الحساسة التي تتوسط بين توجهين كبيرين في حياة أمتنا في كافة الأقطار العربية. ولكن هذا التقاطع لا يتناقض مع هذه الخصوصية الفنية التى تتميز بـها هذه الرواية ، بسبب هذه الحوارية الداخلية الشفافة ، والنكهة الشعرية الناتجة عن أن التعبير الروائى يتخذ مكاناً متوسطاً بين الكلمة من ناحية والغاية من ناحية أخرى . ويغرق النص فى التنوع المتناقض والمتباين الذى ينتج فى النهاية ثراء ، وإثارة للمتلقي، وبخاصة عندما تشيع في النص هذه الروح الأسطورية بما تتضمنه من تطابق بين الأشياء والكلمات، كشرط لهذه الروح، في الوقت الذى يتحقق فيه الشرط الموازي، وهو شرط الروح الروائية الذى يتطلب تعددية اللغات والخطابات والأصوات، ويتطلب الوعى باللغة كما هي في ذاتها وبذلك يتضافر البعدان الأسطوري والروائي، أو يولد معنى جديد عصري للأسطورة . ونضيف إلى ذلك هذا الحس السريالي الذى يتخلل النص مؤكداً معانى الحرية والخيال والحلم ، وتعمّد إلغاء الرقابة التى يمارسها العقل فى بعض الأحيان ، بل يستطيع حسين عبد الرحيم أن يمارس ألعاب تجريد الفكر، والمناورة الجمالية مع القدرات غير الواعية ، وهذه المعطيات تجعل النص قابلاً للتفجر الدلالى فى كل سطر بإزاء هذا القدر الكبير من الهوس الذى تطرحه الذات لمغامرة اللاوعى، وهذه الغرائبيات المتصلة التى تزعزع الكثير من اليقينيات التقليدية ، وادعاء النسيان [ أوهناك بالفعل حالة نسيان ] ، ومن هنا فليس غريبا أن ترد عبارة [ لا أتذكر ] عشرات المرات .

ينسج الكاتب روايته من خلال توالى لحظات جانبية ، ولحظات عادية أو غير مهمة ، وهناك رغبة دفينة فى امتلاك كل شيء ، وممارسة كل شئ ، وأفعال تغزو فى كل اتجاه . إن عنوان الرواية [ عربة تجرها الخيول ] يمكن أن يعطينى فى الأدبيات التقليدية معنى رمزى عن استمرار الحياة مثلاً ، ولكن الكاتب لايقصد هذا ، بل اننا يمكن أن نضع خطاً تحت أى سطر فى الرواية ليكون عنواناً [ !! ] .

وهناك قدر كبير من السخرية الكاريكاتورية المفتوحة مابعد الحداثية ، يسمى نفسه على سبيل المثال ، فيستخدم الطريقة التقليدية فى التسمية : [ حدثنا الحكيم بن الحاكم بن المتمم بن عبدالله ابن الرائى ابن عبد الرحيم الكبير المتوفى فى الماضى البعيد قائلاً : ]

يمارس الكاتب شكلاً تجريبياً ، وهو يعلم أن الرواية هى أكثر الأشكال الأدبية استقراراً ، ويطرح تفاصيل صغيرة أومتناهية فى الصغر متتالية متجاورة وغير مترابطة ظاهرياً بالمنطق التقليدى فى فهم معنى الترابط .

تتجاور الأنماط الكتابية والأسلوبية واللغوية مما يوحى مباشرة بالنـزوع ما بعد الحداثى : يمارس الكاتب مثلاً هذا التداخل بين اسم بطل النص “أنيس” واسم الإله الفرعونى “ونيس” ، وهذا مجرد مثال تفصيلى بسيط نعثر على ما يشبهه كثيراً داخل النص ، ولكن الأهم هو تجاور الرؤى الأدبية ، والأساليب الكبرى ، هناك مثلاً تجاور بين الواقعى والرومانتيكى والتراثى والمستقبلي وهكذا .

إن كل اتجاه من هذه الاتجاهات يمكن أن نعثر عليه مستقلاً واضحا ، وهذا يؤكد معنى التجاور الذى أُشير إليه ، فإذا ما تابعنا الحس الواقعى ، سنتعرف على ملامح تفصيلية دقيقة لأى معنى يطرحه ، والمسافات على سبيل المثال يوردها بالكيلومترات ، يحصيها البطل وهو فوق دراجته البخارية ، وهناك مثلاً أسماء تفصيلية لشركات ، ومقاولى أنفار ، وعمليات شحن وتفريغ ، ويورد الكاتب مكان مقر الورشة، وأسماء رؤساء الأقسام ومسؤولي المواقع فى الهندسة البحرية ، ومندوبى التوكيلات البحرية ، وأسماء الشركات : القناة للتوكيلات ـ هابكو للملاحة ـ سبلاى كومبانى ايجيبشن للسفر والرحلات .. الخ

وإذا تابعنا الحس التاريخى سنتابع تيمة أساسية ممتدة من أول الرواية حتى آخرها هى : حفر مجرى مائى تاريخى ، وبطل الرواية يقود عربة برونزية تاريخبة تجرها الخيول وهو المعنى الذى جاء منه عنوان الرواية ، وقد تركت كلمة “خيول” نكرة بدون تعريف مما قد يكسب المعنى شيئاً من السخرية .

وعندما نتابع المعنى الرومانتيكى ، سنكتشف أن الكاتب يتعمد أن يجعل بطله يلجأ إلى فتاة جميلة كلما تورط فى محنة بحيث يصبح اللقاء أشبه بحلم : [احتضنتنى ، وهوينا وبكينا، قبلتنى فانتشينا وارتويت.. حملتنى على ظهرها، وبان الجسد الشفاف، والبطن البض، والخصر الأملس الممتلئ ] .

وهناك معنى أساسي فى النص هو تعدد الاحتمالات الذى يحيط بكل شئ ، وليس المقصود هو أن الفكرة محملة بنقيضها مثلما كان فى فلسفة الحداثة ، ولكن المقصود هوأن هناك عدد من الألإكار المتوازية قابلة كلها للتحقق ، ولنتأمل هذه العبارة : [الجنود يضربون أقدامهم بأرض ترابية اسمنتية مائية (ص21) ] ، وكان ونيس يتسمع إلى موسيقى شرقية .. غربية .. أندلسية قديمة ، هادئة منسابة صاخبة (ص95)

ونلاحظ أن معاينة الكاتب للوجود من حوله هى معاينة حسية بالدرجة الأولى ، والمعطيات التى يرصدها ذات طابع صوتى وشمى ولمسى وبصرى وسمعى وهو يشعل الجوانب الحسية اشعالاً بامتداد الكتابة ، ولنتابع المسألة فى هذا المقطع الذى يضج بالمعطيات السمعية : [ وسمعت أصوات غريبة .. ثمة رياح وفحيح .. وطنين موسيقى شرقية .. غربية .. اندلسية قديمة .. هادئة منسابة صاخبة .. قلت دعونى أبحث عن قبلتى .. ثم أَذَّنَ .. وانتشر صوته فى السحر ، ودعانى ,كرر النداء (ص95) .

وتسيطر على العمل فكرة الرحيل سواء فى الرؤية الكلية أو فى التفاصيل الداخلية إذا لم نقل فى كل مقطع أو حتى سطر : هناك دائماً رغبة عارمة فى الحركة والانتقال والسفر والتغيير ، مفتتح الرواية فيه الحركة فى المكان والزمان : [ الشاطئ طويل ، طفل . صبى . فتى . “الونيس” ؟ الفنار العتيق يدور فى أفلاكه ؟! بور سعيد ، ماضى .وإنى متخيل ] ، ونتابع الرحيل أيضاً فى بداية القسم الخامس من الرواية : [ طالت الأعوام وتراكمت القرون .. وها أنذا أحيا فى العام السابع والستين بعد ثمانية عشر قرناً من الزمان تواقاً للولوج لمدينة الصعاليك ـ ص23 ] ، ليس بطل الرواية وحده التواق للسفر ، ولكن كل الشخصيات المحيطة به تشاركه هذا التوق ، والأشياء جميعاً ، عربات الفحم فىحالة حركة سريعة وهى تعبر الكوبرى الخشبى (ص31) ، وهناك رغبة مستمرة فى التسكع ، والانتقال بين المقاهى ، وهناك خوف دائم من الشرطة وهرب متصل : [ خرجت من الكوخ ليلأ .. تركته مفتوحاً والحقيبة فوق السرير ، مررت بشوارع المدينة .. المقهى مغلق.. ومخفر الشرطة :.. الجندى ساكن نائم والسلاح بجانبه .. الميدان خال ـ ص87 ] .

والقسم الأخير من الرواية مخصص لطرح معنى العودة بعد كل هذه المغامرات التى مارسها البطل فى الجغرافيا والتاريخ ، ولكن فى الحقيقة فالبطل لم يعد عودة فعلية حتى السطر الأخير فى الفصل الأخير وكأن قدره أن يظل هكذا فى حال ترحال أبدى لا يتوقف تقول الرواية فى السطور الأخيرة : [ كان الطريق ضيقاً .. طالت ليلى السير فلم اقابل أحداً … وانطفأ المصباح فوقفت أتطلع للمسار ،ووجدت لافتة تشير لميناء جديد يطل على بحرين وقارّتين ..وجدت خياماً كثيرة . سوداء .. متراصة فى طابور طويل ممتدة حتى جزيرة الفَرَمَا القديمة … ولاحت لى المقاعد الخشبية .. هزازة وخالية ووجدت الغرباء قادمين من الأطراف صرخت … ردّونى لبلادى 

           

 

 

مقالات من نفس القسم