عذاب مسلح

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جثة هادئة ولطيفة ,

لن ترهق ذويها باللهاث خلف طبيب الصحة ووكيل النيابة

للحصول على تصريح بالدفن ,

في العتمة ,

على بعد أمتار من ظهر البيت

شرقَ شجرة المشمش التى اعتاد صاحبها أن يمضي تحتها قيلولته ,

في الحفرة التي لن يسموها قبراً

ستنام طيّعة دون أن تنتظر دمعة من أحد ,

من يدري

ربما بعد شهرين أو ثلاث

وفي المكان نفسه

تنبت أقحوانة

و من تلقاء نفسها

تتكفل هي بالمهمة  .

2

لو أمهلتهُ الطلقةُ

لعرف أن الحروب الأربعة التي عاصرها ,

زوجاتهُ الثلاث ,

ولدهُ الأصغر على وجه الخصوص وهو يحبّ على يديهِ ويستعطفهُ أن يسافر معه إلى البلاد البعيدة ,

كرم العنب السمّاري  الذي كان يباهي به جيرانه قبل أن يرحلوا ,

الحرباء التى تظل تلصفُ بالأخضر الزاهي فوق غصن العوسج  , تظن أنه لن يراها , لن يتطلع لعينيها الحجريتين وهما تدوران حول نقطة ثابتة ,

عصا اللوز التي لم تعترض على دأبهِ ومشاويرهِ الطويلة رغم تآكل كعبها الجلدي ,  لم يصمد لشهرٍ واحدٍ بعد أن أمضى الإسكافي ساعة أو أكثر في تثبيته باللاصق والمسامير المدببة الصغيرة ,

حتى رمل الدرب وحصاه , جمهوره المخلص ,

كل هذا لم يكن كافياً ليقنع السلاح الذي أعطاهُ ظهره هو وصاحبه

أن الشنار  لا يبول ,

وأن شجرة الزيتون التي تتوسط البيت

زرعها أبوه ذات شتاء قديم

ولم يوصه بأن يقصّ لحيتها .

3

هتف في قلبه :ليست الجاذبية , لو كان نيوتن حياً لنتفت شعر ذقنه ,لم يتوقف كثيراً أمام : هل كان نيوتن حليق الذقن أم كان يطلق لحيته ؟ , قال لنفسه : لو لم تخرب التفاحة لما سقطت من الشجرة ! , لولا خرب كرم الزيتون لما شردت أسراب الدويري والحجل , لولا خربت البيوت لما رحل الناس ,

..  أما الكلاب الضالة ملعونة الوالدين فقد اختفت هي الأخرى بعد أن فشل بكل الطرق في إبعادها عن حلال البيت من نعاج وماعز ودجاج , باستطاعته الآن أن يربي ما يشاء في البيت ! , أي بيت ؟

ملعونة الوالدين لو استطاع أن يعرف إلى أين رحلت لما كان في حاجة لبراهين يثبت بها نظريته .

4

سقطت الدانة فوق سقف البيت , طبيعي أن لا ينجو شئ , أحدٌ ما كان يسعل وهو يجاهد أن يسحب ما يشبه جسداً . محكومة بالأنقاض تتكور البقايا , قاعدة أريكة هنا , قاعدة مرحاض مقلوبة على قفاها هناك , صنبور ميت , حائط يميل على وشك , فوضى بلا رئة توزع الغبار , نصف ليمونة ين حجرين , أبخرة الشاي دون أن يسأل أحد : كيف لم ينقلب الكوب على قفاه ؟ , كان واقفاً ما يزال كأن شيئاً لم يتغير , أو كأنه ينتظر فماً هو وحده من يدلهُ على سر علاقة الشاي بالليمون . 

5

فاجأهُ المسلحون وهو يجلسُ فوق حجرٍ من بقايا بيتهِ , يدخن سيجارته ويجادل جاره الذي اختار حجراً أقل ارتفاعاً ليجلس فوقه حول حال البلاد البعيدة التي سيرحلان إليها , فرّ ذكران من الدويري كانا يتعاركا في الجوار , أشار كبيرهم من بعيد فهب جاره واقفاً , حرك سبابته : لا لا أنت , إلى الداخل جداً دخل نصل السبابة فحدث ما كان يخشاه , قدمُ أحدٍ غيره كانت تخطو  , ” ألا تعرف أن التدخين حرام ؟ ” قال الملثم الذي لم يغادر السيارة فتحركت غيمة سيشكرها في وقت لاحق , دعس السيجارة تحت القدم التي عادت لتكون قدمه , مدّ علبة التبغ وهو يستعطف : ” بالله عليك افرمها بيديك  ” , أشار إليه الملثم أن يفعل هو ففعل وهو يمدّ القداحة :” حتي تتأكد أنني لن أفعل ثانية ” , بودٍ هذه المرة قال كبيرهم : ” احتفظ بها ربما تحتاجها ” , تتابع الود فكاد أن يتورط ويقول أنه لن يمضي الليلة هنا لكن غيمة أخرى وقفت فوق رأسه ليبلع لسانه فيسأله الملثم : ” مع من تقف في هذه الحرب ؟ ” , بروحه التي دخلت إلى مخبئها قال متلعثماً : ” أي حرب ؟! , أشار الملثم إلى الأنقاض فتجمدت أطرافه , بإلهام من حمامة وحيدة لم تشرد مع سرب الحمام الذي كانت زوجته تربيه تمالك ما بقى من حواسه ليقول : ” اسمع يا رجل لو قلت لك أنني مع الطرف الأول ربما تكون أنت من الطرف الثاني , ولو قلت لك أنني مع الطرف الثاني ربما تكون أنت من الطرف الثاني , أنا مع حلالي وأهل بيتي ” , ضحك الملثم وأشار للسائق فاستدارت اللاندكروز وتحركت تجر خلفها خطاً طويلاً من الغبار .

6

كل ليلةٍ تتدللُ عليه , لا جيران هناك , ولا أطفال يختبئون تحت أغطيتهم , يفتحون آذانهم على غنجها وتوسلاتها التي بالكاد يسمعها ذكر الحمام فيرتعش ريش ظهره , ويتحرك في فقصه نشواناً ؛  الليلة – بعد هذا الدويّ الذي بدأ من بعيد –  لم ينادها  , هي التي رمت بكامل بشرتها الخلاسية بين يديه , لا أحد يعلم من أين عتمة جاء هذا الكروان الذي أطلق صيحة أولى وأخيرة , بعد نهارين وبجهد شاق رفع العابر بقايا السقف ليجدهما ملتحمين , على وجهها بقايا ابتسامة , أما هو فكأنه كان يبكي .

………………….

 ( * ) مقاطع من نص طويل 

مقالات من نفس القسم