قرأت بشغف روايته الأخيرة (روائح مقاهي المكسيك) في 159 ص عن دار سليكي اخوان 2014 ، فتخيلت أو بالأحرى استنشقت نفس الوقائع والشخوص والزمان والمكان، بمقهى بوشريط لأب صديقي (ع ) تجاه مكتبة القادري بالجديدة ، مقهى تتوسطها شجرة تين كبيرة لا زالت لحد الآن…
إنه روائي رحالة يقول ما يريده في كتاباته وحواراته له رؤية معتادة أنيقة بسيطة بساطة الامور على شاكلة جواز المرور الى القلب .
شاب لم يأكل الشيب من منكبيه بعد، مثقل بحمولة الخصوبة والابداع ، مثقف معتكف ، يساري سابق لا يغلق الباب على الاراء التي تحيط وتجانب الصواب فيه منه ، كتاباته تعكس دون شك قلق القارئ ومخاوفه بالريبة والتشكيك ومغامرة البحث (وأنا أحجز تذكرتي من بهو محطة القطار، استرعى انتباهي عنوان مركب وغريب لهذه الرواية: “أنا والشيبة العاصية؟ أو لم لم تنتظريني يا أمي؟ ص16.ومن هذا الايهام بواقعية الاحداث هنا تشكلت تركيبة عنوان الرواية التي بين أيدينا “روائح مقاهي المكسيك .
لا نستطيع أن ننسى الوقائع كفاية تنفذ واحدة تلو الأخرى كأوراق البرقوق مباشرة الى القلب المتسع للهموم موسيقى متموجة ودرجات من السلم الموسيقي وأحداث لا تتكرر الا لتقول شيئا معينا ومحددا. يستعين في كتاباته بآلة الحفر ، يمشي طويلا ويستمع كثيرا ثم يدس يديه في قفة ملآى بالمواد والألوان ويستخرج لنا مادة دسمة من عناوين: العايدية ووفاة الشيبة العاصية ومذكرات الشيبة العاصية . الرواية ككل، هي حكي متواصل مكتوب في الدرجة الثالثة من القطار يجوب الأصقاع كل يوم ويخالط الحياة الحقيقية منذ أن شد فضوله تعليق الناشر على الصفحة الاخيرة ..
وصف بصور لاذعة وسخرية سامة مكثفة مقطرة بماء زلال، ماء قبائل بني ملال وبني اعمير يضع يده على الجراح ليختفي مرة ومرات منزويا متأملا غاضبا كارها (قاصدا الخلاء تحسبا لأي هجوم غاشم يأتي على ما تبقى من فحولتي ودادا تتبعني في مشهد كوميدي : -اوقف غير نطل ،-اوقف نشوف او نقلب ليك..)ص12
روايته جمرة للكل، ونافذة للعديد من الكتاب السابقين. بصمته الادبية كاملة وشاملة أنيقة عليها Madin كفيح وما أدراك ما كفيح . حيث يطغى الحكي الساحر، بجمله الطويلة التي تقطع الانفاس بلغة باذخة تستمد قوتها من مقروئه الروائي والقصصي وهو المغرم حد الهوس بالادب الامريكو لاتيني / ..
2
فترات الرواية منقحة بالكثافة مبنية من طوب البلدة وحجارة القرى المجاورة ، إنها تلمع بخيوط القصة يرسمها بالأضداد وبأبواب مشرعة للهواء المطل من مساحة البحر. نتلمس ملامح الشخصيات عن طريق السرد نماذج العايدية والشيبة العاصية والجو العام للمقهى بشخوصها وروادها (كانت مأوى من لا مأوى له، مأوى الحشاشين والسكارى والمشردين والمقامرين والافاكين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الاشاعات والمساجين..ص26 ) أبوابها مشرعة كما يقول على الدوام …
ولأنها مرآة الذات الجماعة والكلمة فالرواية حاضنة التأويل والمعنى فهي تعكس رؤيتنا الى العالم لأننا نخاف شيئين في هذه المدن الهامشية : الملل والرقابة (حيدر حيدر)
ثمة روح ملحمية تجتاح الرواية مستعرض مسار أسرة الشيبة العاصية والمرأة العايدية ، تستوطن مقهى سنوات السبعينات والكاتب السارد ينحاز الى التلميح والترميز بحمولة التاريخ (كنت قد رقيت من طرف أمي العايدية إلى مرتبة مراقب عام مؤقتا للتجسس على الوافدين الجدد وإحصاء الانفاس واعد ملف كامل بالتلصص عن كل ما جرى في منتصف الليل ..) ص36
رواية تنقلك الى أمكنة ذات حمولة تاريخية وتحمل الكثير من الاجابات المحتملة : الفقد الأحلام الرموز القرية المدينة الهجرة الحرمان الخيبة …
بصمة ع الواحد كفيح تكبر مع النصوص الموازية هي طريقة صنايعي معلم في الكتابة حرفي يحسن الصياغة. أبطاله يقتلهم الجوع والغربة والمعاناة وتقاوم الى النهاية بجمالية الوصف والتتبع (أراه بلا نفع ولا جدوى أراه حطاما أصابه التلف والخرف يحمل على الدوام سطلة ماء متأهبا على الدوام للوضوء بيد أني ما رأيته قط يمم وجهه شطر القبلة مؤديا فرض ربه ، ما خلا أيام الاعياد حيث يتأبط سجادة مرائيا بها المرائين..) أو يصف امرأة عجوز بسخرية لاذعة (كنت أراها كلما هجعت لصلاتها تخلع سروالها وترمي به جانبا لتنخرط في صلاة وابتهال ما عرفه القدامى والمحدثون ..)ص41
روائح مقاهي المكسيك أيام من العز، معزة الأصدقاء والرفاق والاحبة الموغلين في النسيان وثقافة الاعتراف رواية يختلط فيها الوجود والتواجد حدود التاريخ والجغرافيا والتسامي بالأمكنة وإنعاش الذاكرة مع إلغاء الحدود الوهمية والتآخي الموسوم بضمير الحكي الغائب
الرواية كما قلت سابقا تصر على قول الكثير في اقل كلمات وتقدم نفسها في بعض الجهد كي نحيا فيها ومنها حتمية الاعتراف والوجود والتواجد والتوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ مشترك داهمه النسيان والتهميش..
ما يجذب في كتابة الكاتب المتميز عبد الواحد كفيح وأسلوبه وما يغري يعن لي أبواب العزلة الذكية والتأمل (كنت أسجن نفسي في زنزانتي ولدي شعور بدواخلي أن أحدا من أخوي يراقبني من عدسة الباب ويضحك فلا أخرج الا ما بعد الظهر ..ص18
وكذلك حين أنهي قراءتي المتواضعة أحس بأني قطعة من الضحك والوجع حد الألم تشفعها جمالية لاسعة موخزة موجزة يقظة تسمو بك الأعلى، الى دربات البحث ولا شيء غير البحث عن روائح مقاهي المكسيك.