عام التنين بين طبائع الاستبداد وطبيعة الخانعين

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

وفقاً للتقويم الصيني فقد بدأ عام التنين بالفعل يوم الاثنين 23 يناير 2012، وهذا العام تحديداً هو عام التنين الأسود المائي، وليس أي تنين والسلام، وقد قرأتُ أن الآباء والأمهات في الصين يتطلعون لاستقبال مواليد عام التنين لكي يجلب لهم هذا الرمز الحظ والثراء، لارتباط رمز التنين وعامه بأباطرة الصين والسلطة والذكاء. والتنين هو الرمز الوحيد لحيوانٍ خرافي بين جميع الأبراج الصينية، التي تتخذ دائماً هيئة حيوان حقيقي مثل الأرنب والديك والفأر والأفعى، ربما لهذا يرغب الجميع في إنجاب أبنائهم في عام التنين، رمز السلطة الإمبراطورية في الصين القديمة، ومن بين هؤلاء المتفائلين استطاع الروائي المصري الشاب محمد ربيع أن يصدر روايته الثانية عام التنين خلال شهور هذا العام نفسه، روايته التي يتحوّل فيها النسر إلى تنين، الجمهورية إلى ملكية أو امبراطورية، وتتسرب سطورها إلى أعمق أركان منظومة السلطة

المطلقة وفي الوقت نفسه إلى الثقوب السوداء التي تبتلع حياة الهامشيون من البشر.

من روايته الأولى كوكب عنبر إلى روايته الثانية، استطاع محمد ربيع أن يقطع خطوات واسعة نحو عمل أكثر إحكاماً على مستوى البنية، يجرّب في حدود المعقول، ولا يتعالى على ما بات يُسمى الآن بالقضايا الكبرى، ويتسلّح كذلك بدرجة من الاطلاع والخبرة المعرفية تقف جنباً إلى جنب سخرية مريرة تجلت في المواقف السردية ومفردات اللغة على السواء.

منذ الصفحات الأولى للرواية، أي المقتطفات السابقة على متن الرواية نفسها، وهي الآية القرآنية “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ” (الزخرف 54) وكذلك فقرة من كتاب سيد قطب في ظلال القرآن عن استخفاف الطغاة للجماهير ووسائلهم إلى ذلك, يدخلنا محمد ربيع إلى موضوع عمله الروائي ومدار همّه الفكري، وهي حرفة صناعة الدكتاتور والأهم الإبقاء عليه وغسل أدمغة الجماهير وتلهيتهم وتشويشهم، والإبقاء عليهم أسرى حاجاتهم الأساسية لكيلا يتمكنوا من التفكير في أي شيء آخر يتجاوز حدود حياة البهائم. لم يعمد ربيع إلى دس أفكاره تلك حول الأنظمة الفاسدة الغاشمة دساً في ثنايا أحداث روايته كما اعتدنا في روايات سياسية كثيرة، بل مضى إلى ما هو أكثر جرأة من ذلك فخصّ لها فصولاً مستقلة عن فصول حكايته الأساسية التي سنصل لها بعد قليل، في صورة رسائل غامضة إلى شخصٍ أكثر غموضاً اسمه صلاح، رسائل نصح وتوجيه وإرشاد موجهة إلى هؤلاء الذين يحكمون علانية أو سراً. وفي كل رسالة منها يتناول المرسل خيطاً من خيوط الشبكة العنكبوتية المتمثلة في الدولة بآليات سلطتها وإعلامها وصحتها وتعليمها، إلى آخره. الروائي هنا يتبنى صوت السلطة في احتقارها للجماهير واستخفافها بهم وإصرارها على سحق الأفراد كالحشرات، وهو بهذه الحيلة استطاع أن يهرب من الخطاب المباشر المتوارث عن الأعمال الأدبية التي تتناول  تيمة السلطة وأساليبها، ومن ناحية أخرى يكتشف إمكانيات جديدة من داخل هذا الخطاب، في التعرية والسخرية المريرة وفضح جوانب مختلفة سواءً في صفوف ذوي السلطة أو في صفوف المحكومين. تبني خطاب السلطة وتشويهه والسخرية منه واللعب معه كان فرصة ذهبية خلال تلك الرسائل – النصوص المتوالية، لم يقلل منها سوى زيادتها عن القدر المعقول إلى حدٍ ما، وبعض التكرار في ثناياها، وإعاقتها في أحيان قليلة لتدفق الحكاية الأساسية – حكاية نعيم أبو سبعة – وهو بنصّ الغلاف الخلفي للرواية والذي أظن أن كاتبه هو الكاتب الصديق ياسر عبد اللطيف: “مواطن بسيط يعمل في مهنة على وشك الانقراض [مهنة تجليد الكتب] تعرض على مدار حياته العائلية والمهنية لكافة أشكال المحن حتى آل الأمر إلى أنه صار في عداد الموتى وهو على قيد الحياة”.

تبدأ الرواية بموت نعيم ورقياً، أي نجاحه أخيراً في إصدار شهادة وفاة سليمة مئة في المئة وهو مازال حياً لكي تستطيع أسرته الحصول على مبلغ مالي كبير قيمة التأمين على حياته. فبما أن حياة وموت الإنسان في الماكينة البيروقراطية ليست سوى ورقة مختومة بختم النسر فقد آثر نعيم أبو سبعة الموت على أن يحيا بلا جدوي لمن حوله. هذه الحالة الإنسانية الموجعة تُقدم لنا في إطار من الكوميديا التي تصل لحد الهزل في بعض المواقف. يصل الأمر بالمشاركين في تمثيلية موت نعيم إلى تغسيله وتكفينه وتوسيده القبر، لكنها لم تكن المرة الأولى التي يدخل فيها نعيم قبراً مظلماً وحده، فقد فعلها منذ سنوات طويلة حين قيل له إنها الطريقة الوحيدة لإنجاب الولد، فأنجب الولد وأصابته في اللحظة نفسها حُبسة كلامية جعلته عاجزاً عن استخدام الكلمات بصورة طبيعية لبقية عمره. وتمضي رحلة نعيم من فصلٍ إلى آخر، وبينهما بالطبع تتوالي الرسائل إلى صلاح، ومن محنة إلى أخرى، حيث يستغرق ربيع في بعض تلك المحطات إذ تجتذبه هنا لعبة أو يثير شهيته هناك موقف ضاحك، متنقلاً بين تلك الحالات دون أن يستنفد أياً منها، بل ربما بشيءٍ من التعفف عن بعض الحالات التي يمكنها أن تنتج روايات كاملة، وإذا أتينا على ذكر الحبسة الكلامية فإننا لا نجد الروائي الشاب يتتبع هذه الحالة إلى نهاية الشوط فيما عدا حكاية القاموس المشترك الذي أعده مع وهيب وهيب، بل يتم نسيانها تماماً في فصول لاحقة كأن لم تكن، وهناك أيضاً غرام نعيم أبو سبعة المفاجئ بالدفاتر الصغيرة وحرصه على جمع صور الموتى من نعي الأهرام. وكلها أفكار ذكية وتحمل بداخلها طاقات سردية هائلة، لكنها تبدو في الصورة الكلية لعام التنين أقرب إلى زخارف سردية ممتعة، إذ تبقى الرواية حريصة  – في ظني – على اللعب بكل ثقلها في مساحة أخرى، تمتد ما بين أغوار البيروقراطية المصرية وطرائق صناعة الاستبداد واللعب بعقول الجماهير.

يمتد هذان الخطان الأساسيان طوال الرواية دون أن يلتقيا إلا قرب نهايتها، حيث تختلط الأوراق وتتجمع الخيوط العنكبوتية، ويتم الانقلاب على كاتب الرسائل نفسه واتهامه بدلاً من نعيم بالنصب على شركة التأمين للتخلص منه، لمصادفة تشابه الأسماء التام بينهما، أم لعلّه هو نفسه نعيم؟ أم لعله وجهه في المرآة – الشاب الذي اشترى كتاب نصيحة الملوك بتجليد من صنع يد نعيم نفسه ذات يوم بعيد – وانعكاسه الذي يبدّل كل تفصيل من النقيض إلى النقيض، فيصير اليمين يساراً واليسار يميناً، ويتحوّل نعيم المهزوم المطحون المغلوب على أمر الذي يتلقى البعابيص راضياً صاغراً من هنا وهناك طول عمره إلى نعيمٍ آخر قاهر وقامع وعارف بكل طرائق سلب الحريات وتكميم الأفواه وتغييب الوعي.

وإذا كان ربيع منذ روايته الأولى مولعاً بالحديث العام خارج سياق السرد، كما في الحديث عن أصل تسمية الحنفية وكتابات ثروت عكاشة في كوكب عنبر، فإنه في عام التنين لم يتخلَ عن ولعه هذا، لكنه استطاع أن يربط بين موضوعات مثل أصل آلية تسجيل المواليد والوفيات مع بداية الدولة الحديثة في مصر بشخصيات أبطاله، حيث صرنا نعرف أن جدّ نعيم وهو أبو سبعة، وجد زوجته وهو أبو رجل، هما الشخص نفسه الذي كان يمنح اسمه لكل المواليد الذين بلا أبٍ معروف. كما ربط بين حديثه عن أدب نصائح الملوك أو الطواويس وبين الرسائل إلى صلاح، وكذلك بالأفكار الكثيرة حول طبيعة عملية صنع الحاكم ونظام الحكم.

لمسة السخرية المريرة والتي تتجاوز الحدود إلى الهزل التام لا تكاد تغيب طوال فصول الرواية، فهي إمّا مبطنة بين سطور الرسائل إلى صلاح، أو مكشوفة وفاضحة في مواقف وطرائف حياة “بطلنا” نعيم أبو سبعة، الذي يظهر بصورة محمد ربيع نفسه بين صفحات الرواية في خبر نعيه. لكنها أحياناً تشطّ بعيداً كما في مشهد “ولود الوصخة” حين يستولي الجنون على عطيات زوجة نعيم وتبدأ بشتيمة جيرانها، وسرعان ما تندمج في رقصة “ولود الوصخة” حتى ينضم إلى هتافها جماهير الفجّالة والعاملون فيها. هذا مشهد يكاد يكون منقطع الصلة بالرواية كلها، على ظرفه وطرافته، ولعلّ هذا نفسه ما أغرى ربيع بالإبقاء عليه فصلاً آخر من بين الفصول التي يحمل كلٌ منها عنواناً خاصاً، كأنه قطعة سردية مستقلة. وبمناسبة “ولود الوصخة” أبدى ربيع في روايته الثانية، ومقارنةً بروايته الأولى، شجاعة كبيرة في استخدام المفردات العامية أو ما يُعتبر منها “بذيئاً” في أدب الصالونات الأنيقة، بل عمدَ بمهارة إلى تأصيل كلمة “معرص” في اللغة وربطها بمن ينافقون السلطات في فصل آخر من أجمل فصول الرواية وإن جاء في سياق الحديث العام لا حكي الحكاية.

يشكّل ربيع لوحته الروائية من عناصر عديدة، يحاول أن يصهرها معاً في سبيكة واحدة لإنتاج لوحته النهائية. لا يخشى من انفلات خيط الحكاية باعتراض صفحات شبه صحفية تيار سرده، ويستعين بالصور، كما في صورة الملك تحتمس الثالث شديد الشبه بالفرعون الأحدث مبارك، ومن هذه المواد يتخلق عالمه الذي يتراوح ما بين محاكاة واقعنا كما نختره يومياً، وما بين المبالغة في الابتعاد عن منطق الواقع وصورته، كما في مشهد نعيم في المجمّع من أجل استخراج شهادة الوفاة الوردية. وبين الطرفين المطلقين يتأرجح عالم ربيع بين اللعب والالتزام، بين المزاح والجدية، بين الفكاهة والأسى. ويبقى مثيراً للإعجاب احترام ربيع لصنعة الرواية، وعكوفه على تطوير أدواته واشتغال عوالمه الخاصة، دون أن يصم أذنيه عن صراخ الواقع المحيط بنا، وهو جهد جدير بالتحية والاحتفاء.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عام التنين

رواية لـ: محمد ربيع

صدرت  2012 – الكتب خان – القاهرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة الداخلية أثناء مناقشة الرواية بمكتبة الكتب خان

محمد ربيع يتوسط هيثم الوردانى وياسر عبد اللطيف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم