إنعام كجه جي
..
يوم طبعت تذكرة سفري الإلكترونية إلى بغداد، قال لي آدم إنها فكرة مجنونة لن أحصد من ورائها سوى وجع الرأس. وآدم ولدي وتربية يدي. مهندس فرنسي عقلاني يحسبها بالمليمتر. لم يأخذ من أبيه غير الشارب الأسود الرفيع. الشارب ذاته الذي أوقعني، قبل أربعين عاما، في غرام نحّات عراقي غريب الأطوار.
شاهدته واقفاً كالمأخوذ يتأمل لوحة في مركز «بومبيدو». نظر إليّ ونظرت إليه. تفاهمنا ببضع إشارات والكثير من هزّات الرأس. خاطبته بفرنسيتي الراقية التي صقلتها دراسة الأدب في السوربون وردّ عليّ بتلعثمه. يبدأ بمفردات بسيطة ثم يترك لعينيه إكمال المعنى. بؤبؤان سوداوان ونظرات حادة تمتلك مقدرة خارقة على توضيب الكلام. كيف كان لي ألا أنجذب إليه وقد كان التجسيد الحي المناقض لكل التقاليد البرجوازية والإتيكيت البليد الذي تربيت عليه؟
أكمل دراسته الفنية وتزوّجنا وأخذني إلى بغداد. مدينة غريبة ناهضة أحببت شمسها ونخيلها ولم أتآلف مع غبارها. عشنا سنوات سعيدة وهاجة. أنجبنا آدم وحقق زوجي حلمه بالتدريس في أكاديمية الفنون. لكنّ حروبا غير ضرورية أجبرتنا على العودة إلى فرنسا. أقمنا في بيت صغير ورثته عن أهلي في الجنوب. كبر آدم وكبرنا. وزوجي الذي كان عمودا من حديد، أصيب بداء غريب وصار خردة. هل يكون مرض الحنين إلى الوطن؟
قبل ساعة من انطفائه، دعتنا الممرضات لتوديعه. شبح هزيل راقد بلا حراك. وقفت مع آدم عند سريره، نحاول أن نفهم من خلال الأنابيب الطالعة من أنفه ومن بين شفتيه، كلمات يصرّ على أن يوصينا بها. قال إن علينا إحراق جثته ونثر رماده في ممرات المقبرة الإنجليزية في الوزيرية، غير بعيد عن أكاديمية الفنون. وفي حين اتسعت عينا آدم من الفزع، شعرت بشيء من الراحة لأن الحرق أقل تكلفة من الدفن. لكنّ أيّا منا لم يفهم لماذا أراد حبيبنا المحتضر تعذيبنا بهذه الوصية السخيفة. أي وزيرية وأي هراء؟
زوجي، الذي كان يحرق أعصابه مع سجائره، مات في مستشفى بومبيدو في باريس. بومبيدو جمعنا وبومبيدو فرّقنا. وبينما كانت عيناه العميقتان تدخلان الفرن وتتحولان إلى هباء، كانت الصحف العراقية تتناقل خبر رحيل النحات الكبير سالم الشذري. نشر رفاقه مقالات تدعو لتنظيم «جنازة وطنية للفنان الذي رحل في المنفى بعد أن قدم صورة مشرفة للنحت العراقي المعاصر في المحافل الدولية». ووجّه تلاميذه نداءات لنقل جثمانه إلى بغداد. هكذا كتبوا. لكن أحداً لم يتصل بي من السفارة ولا من وزارة الثقافة. لا شك أنهم مشغولون بما هو أهم. وهكذا، ذات ضحى حزين، سكبت رماد زوجي في دلّة نحاسية كبيرة من شغل سوق الصفافير، جاء بها آدم من زيارته الوحيدة للعراق. ولم يكن ولدي قد سافر إلى هناك للتعرف على أرض أجداده بل مع شركة فرنسية تبحث عن عقود في الإنشاءات والمباني. استخدموا اسم والده طعما للصفقات.
حملت الدلّة معي في الطائرة. أحكمت لصق غطائها وتغليفها بورق مشمّع ولففتها بكيس مخدة. مر الكيس القماشي على أجهزة التفتيش في مطار شارل ديغول بدون مشكلات. لكن التعقيدات بدأت في مطار عمّان.
ـ ما هذا؟
ـ دلّة.
ـ ماذا فيها؟
ـ رماد زوجي. لقد أوصى بذرّه في بلده.
امتعضت موظفة الترانزيت وأسرعت تنادي مديرها. ومن حسن الخط أن المدير كان يتوخّى الستر. تركني أمر بمتاعي المشبوه وأستقل سيارة أجرة إلى بغداد.
استقبلني الفنانون هناك بالترحاب. لكنني عندما أخرجت الدّلة من الكيس ووضعتها على المكتب الأنيق لوزير الثقافة انتفض وصرخ: «أعوذ بالله».
ـ نحن مسلمون ولسنا هندوساً، وحرق الميت حرام.
- خذي هذا الشيء من هنا، يا مدام، أرجوك.
رفعت الدلة وأعدتها إلى كيسها مثل مادة مشبوهة، جمرة خبيثة أو مخدرات. وحوقل الوزير وتعوذل لعدة مرات وتناول منديلاً ومسح المكتب. ظل متقززًا وهو ينصحني بالعودة إلى بلدي. رجاني ألا أُخبر أحداً بالقضية. إن البلد غير آمن، كما قال لي، والفوضى في كل مكان، وقد يخطفني أحدهم لأنني أجنبية أو حتى يغتالني. لم أدر ما أفعل. بقيت في الفندق الكبير ثلاثة أيام حتى أصابني الضجر. وفي اليوم الرابع نزلت وأخذت تاكسياً إلى الوزيرية.
ـ مقبرة الإنجليز من فضلك.
لم يتمكن السائق من التوقف هناك بسبب مرور رتل أميركي قطع الطريق، وفي النهاية أنزلني أمام أكاديمية الفنون الجميلة، عند زاوية الشارع. هنا كان سالم يعلّم تلاميذه النحت، على مدى سنوات طوال. قلت لنفسي سأدخل وأطوف في الأرجاء وأبحث عن أنفاس زوجي في المبنى العتيق. لكن حارساً اعترضني وطلب تفتيشي.
ـ وين رايحة؟
ـ عند العميد.
ـ عندك موعد مسبق؟
ـ نعم.
ـ ما هذا؟
ـ دلّة فيها طين يصلح لزراعة النعناع. أنا مريضة بالربو وأحتاج هذه النبتة للعلاج.
تفرّس الحارس فيّ بريبة لكنه أشّر بيده لكي أدخل. ثم لحقت بي طالبة كانت ورائي وسمعت حديثي معه. سألتني من أين أنا فقلت لها بعربيتي التي تشبه لغة المستشرقين إنني من فرنسا. جمدت وفتحت عينيها على سعتهما وهمست:
ـ أنت زوجة المرحوم الأستاذ سالم الشذري؟
منذ تلك اللحظة تغيرت زيارتي البغدادية ونبتت لها أجنحة ومناقير لا تخطر على البال. كان حي الوزيرية منعشًا، لا يشبه المنطقة التي يقع فيها فندقي. هناك مررت قرب جثث متفحمة، رأيت مشردين سكارى يتقيأون على حذائي، حشاشين يمدّون أيديهم لشد حقيبتي من فوق كتفي، عميانًا يسيرون في سلسلة مثل قطار، حشدًا من مبتوري الآذان يتظاهرون للمطالبة بالتعويض، وأطفالًا قذيري الأقدام يهرشون رؤوسهم ويجرون ورائي. «وان دولار بليز… حجيّة وان دولار».
نجحت في بلوغ المقبرة الإنجليزية لكنني لم أُنفذ من وصية زوجي سوى بمقدار حفنة صغيرة ذررتها عند ضريح «الجنرال مود» لأن منظره كان طاغيًا. مكان جميل هادئ رغم أصداء إطلاقات تأتي من بعيد. موسيقى طبيعية في بلد غير طبيعي. قطط سمينة وكلاب سائبة وشواهد رخامية تحمل آثار خراء وأشجار وارفة رغم كل شيء. ومع عودتي إلى الفندق بدأت دراسة الخطة التي كانت قد بزغت، فجأة، في رأس نسيمة، طالبة النحت الصغيرة بعد حديثها معي. إنها دليلتي هنا.
جمعت حاجياتي وسلّمت مفتاح الغرفة وخرجت لأجد سيارة تويوتا عتيقة تنتظرني أمام الفندق. كان فيها شابان لا أعرفهما. ورأيت نسيمة تؤشر لي من نافذة المقعد الخلفي. ومثل كوماندو حسن التدريب تبادلنا تحيات مقتضبة وانطلقنا إلى الوزيرية. إن زوجي لم يولد هنا بل في مدينة فقيرة يمرّ بها نهر صغير. حكى لي أنه كان طفلًا حين عجنت أصابعه الطين لأول مرة على ضفافه. كان يصنع شخوصًا ذات رؤوس مفلطحة وأعين مجوّفة لكن والدته ضربته لأن تلك أصنام الكفار. نال صفعات كثيرة ولم يتوقف. وفي سن التاسعة عشرة دخل أكاديمية الفنون ليدرس النحت. وفي السنة الثالثة فصلوه لأنه نحت الرئيس بعينين غير متناسقتين. اتهمه زميل حسود بأنه تعمّد أن يجعل القائد أعور. أمضى ثلاثة أشهر في الأقبية السرية ثم هرب عن طريق الشمال. وما حدث بعد ذلك أعرفه لأنني كنت شاهدة عليه.
في شارع خلفي من شوارع الوزيرية أقمت في غرفة من بيت مستأجر. بيوت فسيحة كانت فخمة قبل أن يعبث بها غبار السنين، تحيط بها الحدائق والأسيجة الواطئة والمستنقعات الصغيرة التي خلفتها أمطار الشتاء. تذكرت الربيع الذي يهجم على المدينة مع الزهيرات البيض الأُولى لأشجار الليمون والرارنج. يسمونه القدّاح. أزكى من عطور ديور وشانيل. وفي الأُمسيات، يغفو فوح القداح ليستيقظ شذى شبّو الليل.
زهور صغيرة زرقاء أو بنفسجية، تنمو على ساق مستطيلة ولا تتفتح إلا بعد المغيب لتنشر شذاها الذي يدوّخ الألباب.
في تلك الأيام، رأيت العشاق، شبانًا وفتيات، يخرجون من المساكن الداخلية لطلبة الجامعة. يتنزهون في الشوارع الجانبية، اليد في اليد، ويكون أجسرهم قد كسر مصابيح الشارع بمصيدة للعصافير. تنتشر العتمة وتسمح بقبلات مسروقة خلف أشجار الكاليبتوس الوارفة. وإما فالعتمة جاهزة. انقطعت الكهرباء بسبب قصف محطات الطاقة وما عاد العشاق في حاجة لاصطياد المصابيح.
شممت عطر شبّو الليل ومررت بالمكان الذي كنت أرتاده مع سالم، عند نزلة الجسر الحديدي. بحثت عن مطعم «غاردينيا» ذي السقف الأخضر الواطئ. يصرّ زوجي أنهم هناك يقدمون «ألذّ أرزّ بالباقلاء في العالم أجمع». لكني لم أجد المطعم بل عمارة حديثة سيئة الواجهة، مزوقة مثل عروس من الغجر. ومن تحت الجسر، وصلني غناء سكارى سريّين يشترون العرق، تحت العباءة، بعد أن منعت الحكومة بارات الخمور. أهذه هي وزيريّتك يا سالم؟
وطوال أسبوع، كانت نسيمة تأتي كل يوم، لكي تكمل مراحل الخطة. تنقل إلى البيت كميات من الطين النديّ وتكوّمها في الحديقة الخلفية. ثم جاء زميلاها الشابان، ذات مساء، ومعهما كيس كبير مثل أكياس الدقيق. غير أن المسحوق الأبيض لم يكن طحيناً بل جبسًا. وقد راقبتهما وهما يخلطانه بالماء وبشيء من الطين. وبين الحين والآخر كان الباب يفتح ويدخل طلاب وطالبات إضافيون، يسيرون على مهل لكي لا يثيروا انتباه الجيران. ولما انتهوا من العمل، طلبوا مني أن أسكب فوق الخليط ما تبقى من رماد سالم الشذري. ولم تعجن يدا نسيمة وحدها الجبس المخلوط بالطين وبالهباء. غمس تلاميذ سالم أكفهم في الطشت، كل حسب دوره، وترنمت الطالبات بأُغنية شعبية وتركن جدائلهن الطويلة تتدلى فوق الوعاء. التصقت الخصلات بعرق جباههن وبأذرعهن المشمرة. كان طقساً عجيباً بعث القشعريرة في نفسي. وبينما نامت الوزيرية على هدهدات الإطلاقات البعيدة، امتدت أكف بنات وأولاد لم يتجاوزوا العشرين لتلبخ، بالجبس الأسمر، قامة نسيمة التي وقفت عارية في حمّام الدار وكأنها آلهة سومرية تتوهج في ضوء الشموع.
ذات فجر رائق من أول الصيف، استيقظ أهالي الوزيرية على نصب امرأة عارية يطل من سطح أكاديمية الفنون الجميلة. جسد بالحجم الطبيعي يتحدى فتاوى تغطية النساء وتحريم النحت ولعن الغناء والموسيقى. صار للفضيحة ساقان ومضت تركض في شوارع الحي وتدق على الأبواب، من منزل لمنزل. دعت الناس للخروج والتطلع إلى سطح الأكاديمية. نهض الأطفال وتبعوا مصدر الضجة. دعست نعال البلاستيك الرخيصة شتلات شبّو الليل في الحدائق. هرول أفراد شرطة المرور وهم يضعون أيديهم على كاسكيتاتهم لئلا تطير. توافد طلاب الجامعة إلى المبنى العتيق وهللوا وهم يشاهدون المنحوتة. ثار الملتحون واستغفروا ربهم وتوعدوا الفنانين بنيران جهنم. تهدّلت الأحجبة عن رؤوس الطالبات ورحن يصفّقن حبورًا. خلعت الأُمهات عباءاتهن السود ولوّحن بها في الهواء. كانت الوزيرية الحزينة المختنقة تريد أن تتنفس وتستعيد مهرجاناتها وكتبها وألوانها وعشاق شوارعها الخلفية.
ثم وصلت فرقة مدججة من الشرطة وأراد أفرادها الصعود إلى السطح لكن طلبة قسم النحت كانوا قد سدّوا باب الدرج بالمصاطب ومناضد الصفوف. لم يبق أمام المهاجمين الواقفين أسفل المبنى، سوى محاولة اصطياد العارية بالحبال كما تصطاد الخيول الجامحة. أرادوا جرها من رقبتها لكي تنكفئ ساقطة على وجهها.
أيقظت الهرولة الجماعية أحد السكارى المتأخرين فرفع رأسه وفرك عينيه.
ـ هل هو تمثال آخر لصدام؟
ـ لا… هذه روح سالم الشذري تعود إلى الوزيرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة ووائية عراقية
القصة من وحي حكاية فائق حسن .. كتبت حكايته هنا