د. أحمد فرحات
يتحسس د. طارق الزيات خطاه الروائية الأولى، والجميل أنه يبدأ كبيرا، ليس كعادة الروائيين المبتدئين الذين ينقصهم المران والدربة، فيطالعك د. طارق بعالم روائي ساحر، قادر أن يأسرك في عالمه المتخيل بمهارة عالية، له أعمال روائية عظيمة منها، وظائف في الآخرة، ومعبد الدم،.. وغيرها.
د. طارق الزيات روائي مصري، حاصل على دكتوراه في القانون العام، عمل ضابطا بكلية الشرطة، ثم مراقبا دوليا ببعثة الأمم المتحدة بدولة كامبوديا، له أربع روايات: عالم آخر 202،ظل رجل 2020، وهيبة والهروب الأخير 2021م، واجب النفاذ 2023م. الصادرة عن دار أخبار اليوم. تستطيع أن تلمح لغته الخاصة كرجل أمن في ثنايا أعماله الروائية فغالبا تكون هناك مطاردات وصراع وحروب وجواسيس ومراقبة وغيرها من المفردات الأمنية، تأمل هذا الحوار بين الجدة تيحور ونيما:
– نعم يا جدتي.. هذا ما حدث، ولكن هناك أمر أكثر غرابة.
– ما هو ؟
– القاتل يا جدتي.. القاتل أراد أن يرشدنا إلى مكان الجثث .
– كيف؟
– لقد قتل الكهنة وسط الأعشاب في مكان خفي عن الأنظار، وأغلب الظن أ نهم تم اقتيادهم إلى هذا المكان وطعنوا حتي الموت.
– حسنا .
– لكن القاتل رسم خط بالدم من الأرض المستوية حتى مكان الجثث
– كيف عرفت.. ربما قتلهم هناك وسحب جثثهم إلى العشب.
– عفو ا يا جدتي.. لم يكن هناك أثر لجر الجثث والأرض مستوية ولا يوجد عليها إلا آثار أقدام وخط الدماء رفيع لا يتناسب وبركة الدم التي وجدناه حول الجثث الثلاث.
– هذا يعني شيئا واحد.
– ما هو يا جدتي ؟
– من أرسلهم أراد موتهم.. لا تفسير آخر، ولكن لم ؟
– حقا لم ؟
– أعتقد أنها مسألة وقت وسنعرف.. وقت قصير جدًّا.
– لقد طلبت من القوات أن تسحب الجثث إلى سفح التلة.
– خيرا فعلت، لقد قصرت الوقت الذي نحتاجه لمعرفة الهدف الخفي من قتل الكهنة.
رواية معبد الدم عمل فني يبرز هيمنة سلطة المعبد الدينية على أهالي قرية هبولقم القابعة في اللازمان المحدد، واللامكان المحدد أيضا، على الرغم من سير أحداث الرواية بمنطق طبيعي وتسلسل منطقي، نشأ مع ولادة الطفل الطبيعي نيما حتى كبر وصار قائدا لجيش قريته ضد كهنة المعبد وتحكمهم في مصائر أهل القرية النائية بزرع الخلافات والتعصب المقيت بين أهالي اليسار واليمين (النميتم والريستم).
يشير الروائي إلى معادلة صعب تحقيقها، تحقيق الأمن والرخاء والسلام الروحي لمجتمع من المجتمعات، بعيدا عن التعصب والاقتتال والجهل، ومن ثم تناثرت في الرواية بعض الرسائل التي تدعو إلى محاولة تحقيق هذه المعادلة، أو الإشارة إلى الصعوبات التي تقف حجر عثرة في سبيل ذلك، فيقول:
المعرفة ليست مفيدة دوما، أحيانا قد تكون مؤذية.
العقيدة لا تجتمع بالعقل في أحيان كثيرة.
هدم العقيدة يبدأ بخدوش بسيطة تتطور مع الزمن إلى شرخ كبير ينتهي بانهدامها.
حماية العقيدة تحتاج إلى تضحيات، هذه التضحيات قد تصل إلى حد التضحية ببعض الأبرياء، فنحن في النهاية فداء للعقيدة.
مثل هذه الجمل التقريرية المباشرة وُجِدت مبثوثة عبر عمل روائي، غامر وجازف صاحبه بكتابتها بطريقة مثيرة مشوقة في هيئة رسائل ضمنية تطرق أذن القارئ، وسمعه، وبصره، في آن معا. من خلال هذه الرسائل التي تمثل أعمدة أبنية معرفية عامة تتصل اتصالا وثيقا بالعالم الخارجي للنص من شأنها أن تفرز قراءات مدهشة، وربما مفجرة لكثير من الطاقات الإيجابية والحماسية.
يعد معبد الدم هو مركز ثقل الرواية؛ فمنه تنطلق كل أسباب الفرقة والتعصب المقيت، ومنه ينبعث الفزع والرعب إلى قلوب أهالي القرية الآمنين، فإذا قضي على المعبد في هذه القرية انتقل بفعل ما يبثه كهنة المعبد في نفوس الأهالي البسطاء إلى قرية أخرى. ولا نبالغ إذا قلنا إن شخصية المعبد الديني هو البطل الرئيس للرواية بما يضيفه من شخصيات وأشياء غريبة تنثر الدماء في كل ركن من أركانه.
تضافرت العناصر االسياسية والاجتماعية والدينية وشكلت معا عملا ينهض على تدبير الدسائس والضغائن من الكهنة لأهالي القرية للوقوع بهم في أتون باقع إله الرعب والفزع وحامي الكهنة والمعبد. فالرواية بها قسط كبير من الإسقاط على من يسيطر باسم الدين على أذهان البسطاء، وإقناعهم بإلغاء عقولهم أمام القوة الدينية المنبعثة من تعاليم باقع والكاهن الأعظم والكاهن الأقدم، فحتى يحيا الكهنة في أمان كان حتما أن يوظفوا سياستهم تجاه البسطاء. وعرض الروائي لحياة البسطاء معيشتهم ومراسم زواجهم وسكنهم وعملهم.
وكان من الصعب أن نصف الرواية بأنها رواية سياسية لوجود بعض الظواهر السياسية في ثناياها، يرفض جوزيف بلوتنر الأمريكي رفضا تاما الروايات التي توظف الأقنعة التراثية والمجازات التاريخية للتعبير عن القضايا السياسية ويفضل الرواية التي تعالج القضايا السياسية بشكل مباشر. بينما يشير الدكتور صلاح فضل إلى اعتماد “المؤشر الأسلوبي” لبيان تصنيف الرواية بأنها سياسية أم غير سياسية.
ومن هنا نلتمس طرف الخيط فالمؤشرالأسلوبي للرواية يعتمد استراتيجية الخطابة في كل تفاصيلها، سواء خطبة الكاهن الأعظم إلى كهنته في المعبد أو خطبة الحكيمة تيحور الجدة في أبناء القرية أو خطبة مقدام أو نيما .. فمن الجلي اتكاء الرواية على الخطابة، ومن سماتها أنها قصيرة ، موجزة ، مكثفة ، موجهة.
تأمل خطبة تيحور لأهل القرية البسطاء وهي تقول: هؤلاء أبناؤكم الأبطال دافعوا عنكم ، وقدموا أرواحهم فداء لكم ولصد الاعتداء عليكم . .
وخطبة متقي أمام الأهالي : لقد رأيتكم بأم أعينكم زواج الدورقم بلا طقوس ، فمن الواجب أن أبصركم أن عقد الزواج باطل وهو زنا محرم..
خطبة الجدة يحور بعد مقتل قائد الجيش مقدام، قالتها وهي جالسة: أيها الجنود، أيها الأبطال، أيها الرجال والنساء ، اليوم غالت يد الغدر والغيلة والخسة من القائد مقدام ..
نجح د. الزيات في توظيف الرواي العليم بحرفية عالية، فجعلك لا تشعر بوجوده أبدا أثناء السرد، ولم يتدخل في صنع الأحداث، ولم يقحم شعوره على أي شخصية، غكان محايدا تماما. ومما يحسب له ارتفاع لغة السرد عنده بشكل لافت، كأنه قد أمسك كاميرا سينمائية ينتقل بها من مشهد إلى آخر دون هويم أو ميل فنقل ما كان يدور في المعبد أو بين أهالي القرية بحيادية عالية.
ركز د. الزيات على بث أفكار المعبد كهنته، وهي أفكار خطيرة أفسدت العلاقة بين رجل الدين وباقي أهل القرية، وكان دائم التركيز على علو صوت الجدة تيحور رأس الحكمة في الرواية لأنها تمثل القيم والمبادئ بعيدا عن أفكار رجل الدين وبث سمومه، مما جعل صراعا بين الخير والشر من أول كلمة في الرواية إلى الكلمة الأخيرة. صحيح انتصرت حكمة الجدة وصت العقل ، لكن صوت رجل الدين الدجال شعوذ قرية مجاورة مما يعني عدم انتهاء العلاقة بين العقل والدين، وأنهما على علاقة عكسية فالعقيدة لا تجتمع بالعقل في أحيان كثيرة.
وعن عدم تحديد هوية واضحة للزمان والمكان في الرواية فهو استخدام بالغ الدقة والجمال في آن مع، فجعل أفكار العمل الإبداعي صالحة لكل زمان ومكان في الأرض، تصلح للتطبيق والممارسة من أول الخلق إلى المنتهى.