وفي عالم اليوم الذي أصبح فيه قتل الجماعات عادة يومية في العراق وأفغانستان وفلسطين وبقية أنحاء العالم، باسم الحرية المزعومة حيناً، والدين المشوه أو الرفض الصريح حيناً آخر، يصبح تحول الإنسان العادي – بل الفنان المبدع – لقاتل محترف بدم بارد شعيرة يومية تستحق أن تفاجئنا بمعقوليتها الصادمة، وهذا ما يقوله لنا القصاص الشاب “طارق إمام” في روايته الجديدة “هدوء القتلة”، حيث يمارس الراوي ذاته القتل بمدية حادة باعتباره تتويجاً “سعيدا”ً لكل أنواع العلاقات التي تربطه بالأحياء، من حب وحيرة وشراكة أو صداقة، أو حتى مصادفة. لكنه لا يفعل ذلك بطريقة جنونية أو مجانية بل بقوم بتأصيل سلوكه وفلسفة موقفه، و
كشف مواريثه العريقة في أصلاب الثقافة والمجتمع، مع الحرص على تحديد موقعه في مدينة القاهرة، وزمانه في العصر الراهن، وتجسيد تاريخه في مجلد عتيق يحتضنه دائماً في يقظته ومنامه، ينتسب الراوي إلى جده الذي “ظل يتوهم حروباً لم يخضها، ويحتاط لأشخاص لن يراهم أبداً، ووصلت ألفته بجدرانه حد أنه صار قادراً على تحريك الحوائط بمجرد النظر إليها، وهدمها تماماً في ليالي مشيه الأبدي أثناء نومه، وهو يحمل مجلده باحثاً في وجوه المدينة عن امرأة تصلح لأحلامه القادمة، ترك الرجل مخطوطه الدموي المقدس كما ترك نسلاً كثيراً في أرجاء المدينة، جميعهم قتلة متوحدون، غارقون في منامات خطرة مثله، لا يرون وجه الله سوى بعيون مغلقة، وقد عرفت دائماً – دون أن أحتاج لجهد كبير – أنني واحد من هؤلاء
ويمضي السرد رزيناً فصيحاً بهذا الأسلوب الذي يمزج بين الفقرات العجائبية والصور الشعرية الرمزية، لكي تتراءى من خلاله حيوات نابضة بحرارة الواقع. مثلاً “الصول جابر” برجله الخشبية المصقولة ومقامه الأليف بين المقابر يقدم حكايته للراوي الذي يعمل في تعداد السكان فيزعم أن رجله في الحرب علامة البطولة، لكن جاره الإسكافي “ليل” يكشف عن حقيقة الإصابة، حيث كل الصول لحقد دفين في قلبه اعتدى على شاب مسيحي واغتصبه، فانتهز الشاب فرصة التدريبات وصوب على ما بين فخذيه فأطار رجله انتقاماً لعرضه، مما يشف في كل حال عن قسوة الحياة في السلم والحرب وهيمنة العنف على مسارها ومصيرها معاً
الشعر والتصوف
الطريف أن هذا القتل اليومي يقوم به شاعر، يخضب دمه اليمنى بالدم، ويكتب باليسرى قصيدة جديدة، الأمر الذي يفتح للقارئ الصبور باباً عريضاً للتأويل، هل يكون هذا القتل فعلاً رمزياً كأنه استعارة مستحيلة لحالة مجازية تتراوح بين اليقظة والحلم، يقول مثلاً: “سأتجه إلى غرفة شحيحة الضوء في أحد البيوت، أقتل ضحية جديدة في سريرها، أترك سطراً جديداً من الشعر القاني على ملاءة السرير، على الحائط أو بامتداد الأرضية، سطرت في قصيدتي النهائية المكتوبة بامتداد صفحات المدينة المفتوحة أمامي ككتاب لم يكتب”.
تجاوز الشعر والقتل، بمقدار ما يخرق سطح المعقول، يهدد استقرار دلالة كل منهما، فنحن قد نستطيع تقبل اقتران أية مهنة بالقتل، السياسة مثلاً، خاصة عندما نسمع عن مدرسة القتلة في أمريكا التي تستوعب شباب بعض الدول النامية وتدربهم على القتل لجعلهم مرتزقة في حروبها الاستعمارية، لكن الفن والشعر والموسيقى إما أن يجعل القتل رمزياً أو يتحول هو لرمز. والأدهى من ذلك أن هذا الشعر يمعن في روحانيته ليخترق أفق التصوف والعشق والطفولة في مشهد عجيب يخاطب في الراوي نفسه مستحضراً إحدى “كراماته” قائلاً: “تمتد إليك يد فتاة بسطل من اللبن، تقول لك: يا شيخي، تشبه فتاة في المدرسة قالت لك: يا مستر (يشير إلى حادثة سابقة) غلامية هذه البنت، الخيط السميك الأبيض يسيل من بين شفتيك.. وتحت الأحجار المتهدمة عند تخوم المكان، تدس مطواتك فيها لتكمل سكرتك، الدم المراق تتجرعه الأرض ذات الحصى الصغير المدبب الجارح.. تعيد الفتاة لملابسها السوداء التي لم ترتد تحتها طيلة أعوامها الثلاثة عشر سوى جسدها، كفن داكن معروق لائم هامة لم تتعر سوى لك، سيعثرون عليها بعد كل شيء، لن يلحظوا في باديء الأمر سطور الدم الداكن المقفى على عباءتها المظلمة، لكنني اطمأننت، لأن على الأرض بجوار جسدها علامة: ودعت قبل الهوى روحي لما نظرت / لا خير في الحب إن أبقى على المهج”.
هكذا نجد الشعر الصوفي علامة الحدث لنستغرق في التأويل، لكن ما بين الأحداث اللامعقولة، والنهايات المسنونة، لطعنات نافذة، في صور رجال ونساء، وصبايا وولدان، في مشاهد كابوسية، يظللها الهدوء، وتحفها نفثات الشعر وتأملات الناسك السفاح، تظل المشاهد حبات متجاورة لا ينظمها سوى ضمير السارد، دون أن تقوى على تشييد معمار روائي متعدد الطبقات، تكتشف دلالاته عند كل قراءة. مما يجعل هذه التقنية وإن نجحت في تعرية عنف العصر وتحويله إلى استعارة شعرية، لا تزيدنا علماً بقوانينه