حاوره: أمين خيرالله
شهدت روايته الأخيرة {ضريح أبي} احتفاء عربياً نقدياً غير مسبوق وتم ترشيحها لجائزة {البوكر}، فهو مبدع حاصد الجوائز، سواء داخل مصر أو خارجها، فقد نال ثماني جوائز كبرى منها: «الدولة التقديرية» و«ساويرس» من مصر و«سعاد الصباح» من الكويت… إنه الروائي الشاب طارق إمام الذي يؤكد أن الكتابة الغرائبية هي النواة الصلبة والجذر العميق في الميراث الفني للثقافة العربية، معلناً عشقه الكتابة للطفل ويرى فيها خطاباً فنياً له جمالياته وشروطه، وعشقه الأبدي لهذه التجربة. عن جديده ومسيرته الإبداعية كان الحوار التالي معه.
لماذا انحزت في روايتك الجديدة «ضريح أبي» إلى توظيف الموروث الشعبي لابتكار عالم غرائبي موجود في أغلب أعمالك؟
العالم الروائي في «ضريح أبي» قائم بالأساس على سؤال الموروث، والخيال في الرواية نابع من أعماق هذا الموروث ومتسق معه، بالتالي فالخيال جزء من واقع هذه الرواية وليس عنصراً دخيلاً عليه أو حالة طارئة على العالم، وإن كانت الغرائبية سمة مميزة لعالمي الروائي، فهذا له علاقة برؤيتي الفنية وتصوري عن الوجود، كسؤال ملتبس لا يقل فيه حضور الوهم أو «التصور» عن الحضور الحسي المباشر للموجودات، إنها طريقة أولاً في تلقي العالم ومن ثم إعادة إنتاجه أو مساءلته فنياً. أعتقد أن رواياتي تحاول قراءة الوجود بالحدس، وهذه إحدى أهم الآليات التي لا يمكن لمجال أن يزاحم فيها الفن. نحن كبشر نحلم، أليس الحلم جزءاً من عالمنا اليومي؟ لماذا ننكره في الكتابة إذاً؟
الملاحظ أن «ضريح أبي» شهدت احتفاء عربياً نقدياً غير مسبوق، فتناولها نقاد من سورية والعراق ولبنان والسعودية والأردن والمغرب في وقت وجيز لا يتجاوز شهرين… ما تفسيرك لذلك «الانفجار النقدي» لو جاز التعبير؟
أنا سعيد به ولا أملك تفسيراً محدداً، ربما صنع التراكم قدراً أكبر من الاهتمام، وإن كان هذا الاهتمام النقدي العربي تحقق في أعمالي السابقة لكن ليس بالزخم نفسه… فوجئت بدراسات ومقالات متعددة ومن مناطق مختلفة وبمداخل مختلفة… ربما هو مؤشر، كما قلت، لنمو اسمك مع نمو تجربتك فيتجسد البعد العربي بشكل أكبر في التعاطي مع نصك.
ألحَّت عليك فكرة رواية «ضريح أبي» في مواجهة الرؤية الأصولية للدين التي مثلتها التيارات الإسلامية التي حكمت مصر، متى يعتني الأدب بمحيطه الاجتماعي، وأنت وجيلك لديكم روايات تبتعد عن واقعها… بمعنى كان لا بد من أن يحكم «الإخوان» لتهتم بواقعك؟
فكرة الرواية الرئيسة ومسودتها الأولى كُتبتا بالكامل قبل اندلاع ثورة يناير… وبالتالي فالرواية ليست رد فعل لحظي على حكم «الإخوان»… ولا تنسى أن سؤال الأصولية الدينية كان قائماً في مصر قبل صعود التيارات الدينية إلى السلطة. في ما يخص الاهتمام بالمحيط المجتمعي، المشكلة في ظني هي كيفية طرح ذلك بشكل جديد ومختلف. الرواية الواقعية التقليدية ونقادها المدرسيون أرسوا، للأسف، نموذجاً صار الخروج عليه في كثير من الأحيان خيانة للرسالة الاجتماعية وللدور الاجتماعي للأدب… وهذا غير صحيح. ولو تحدثت عن أعمالي مثلاً، فقد التفتت رواية مثل «هدوء القتلة» للمحيط الاجتماعي وكذلك فعلت «الأرملة تكتب الخطابات سراً» وغيرهما، لكن بما لا يجعل من النص الأدبي منشوراً دعائياً، أو هكذا طمحت.
هل من مستقبل للكتابة الغرائبية المُثيرة للدهشة، في بلدان العالم الثالث، أم أنها ستظل محاولات فردية؟
الكتابة الغرائبية هي النواة الصلبة والجذر العميق في الميراث الفني للثقافة العربية، لا تنسَ أن العربية هي اللغة التي كُتبت بها نصوص مثل «ألف ليلة وليلة» و{كليلة ودمنة» و{منطق الطير» وغيرها… وتراثنا السردي إجمالاً يحتفي بالرؤية الخرافية للوجود، لكن الغريب أن البعض ينكر ذلك مطالباً بالكتابة الواقعية التقليدية وكأنها طريق وحيد للرواية، لقد استعارت الرواية في العالم نصاً مثل «ألف ليلة وليلة» وعزفت على أوتاره… وعندما تلتفت أنت ككاتب مصري عربي لما هو أصيل في موروثك لتغزل نصاً جديداً تجد نفسك متهماً باستعارته!
من ناحية أخرى، الفن في ظني هو في جوهره انحراف عن رؤية الوجود في مألوفيته أو رصده من سطحه الذي يبدو اعتيادياً… اختبار الغريب أو العجيب أو المفارق في ما يبدو للوهلة الأولى مألوفاً ويومياً، سؤال مهم بل وجوهري للفنان كما أتصوره… وفي الفن يغدو طريقة مدهشة، سواء لرؤية الوجود أو للتعبير عن مأزق الواقع الذي نحياه.
كيف تنظر إلى الدور الذي يجب أن تؤديه الثقافة المصرية في مواجهة المدّ المتطرف… كيف تتصور المواجهة الثقافية مع الآخر، ما دور الأدب؟
الثقافة ليست مؤتمراً يخرج بتوصيات أو وزيراً وصياً على قطيع، إنها نتاج كبير لسياقات عدة مجتمعية واقتصادية. في السبعينيات مثلاً لم يكن ارتداء «الميني جوب» في مصر شيئاً ضد الأخلاق. الآن، وبعد ثلاثين عاماً فقط، أصبحت الفتاة غير المحجبة عرضة للتكفير. هذه ثقافة وليست أي شيء آخر. مصر تعرضت لتجريف ضخم، بدأ بانهيار شبه كامل لمؤسسة التعليم، صاحبه فساد عمَّق إفقار الناس. وبين الاثنين سطعت التيارات المتشددة مستغلةً الجهل والفقر وأوجدت حلولاً لجحيم الواقع في نعيم الآخرة. وكان من الطبيعي أن تفقد النخبة دورها، فيذهب قطاع منها إلى السلطة مقرراً الخروج بأي مغنم سواء كان منصباً أو جائزة. ويكتفي قطاع آخر باغترابه مكتفياً بمحدودية دوره الهامشي. لا بد من تغيير البنى التي تشكل المسمى الكبير «الثقافة»، قبل أن نفكر في اسم وزير الثقافة وكأنه نهاية العالم.
نعرف أنك كنت واحداً ممن شاركوا في الأحداث العظيمة لثورة يناير، منها «موقعة الجمل»، ونرى كماً من الشهادات واليوميات عنها، متى تكتب هذه التجربة؟
شاركت كمصري وكمواطن مهموم، ولم أفكر مباشرة في تحويل ما عشته إلى نص أدبي. قد يحدث ذلك، لكن عندما يزول الانفعال. الرواية كما أقول دائماً ابنة الصبر، يفسدها الانفعال اللحظي والانحيازات الجاهزة. الرواية أيضاً ابنة الأصوات المتداخلة، هي فن الجدل، وكي يصير الجدل دالاً وذا معنى في النص الروائي، لا بد للروائي من أن يقف على مسافة من الجميع ليسأل وليمنح شخوصه، على تناقضهم، فرصاً للإجابة… لا ليجيب نيابة عن الجميع.
فزت بثمان جوائز مصرية وعربية بارزة، من بينها جائزة الدولة التشجيعية، و{جائزة ساويرس» في مصر، و{سعاد الصباح» في الكويت، وترشحت للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، كيف تقيّم الجوائز العربية؟
تؤدي الجوائز دوراً مهماً يتجاوز المبدع نفسه كفرد، ونادراً ما يتحدث عنه أحد. أتكلّم هنا عن «الصناعة الأدبية» عموماً التي ينساها دائماً الأدباء مجتزئين العملية الأدبية في كاتبها. انظر مدى تأثير ازدياد الجوائز العربية المخصصة للرواية في ازدهار هذا الفن، خصوصاً في شقه الاقتصادي (الإنتاجي والتوزيعي). بالمناسبة، توسيع القاعدة الروائية كمياً شيء مفيد في نظري، لأنه بالتبعية يوسع فرص اكتشاف كتّاب جيدين على مستوى الكيفية. جائزة مثل البوكر كسرت مركزية «القوى التقليدية» في الفن الروائي وكشفت عن أعمال لم يكن من الممكن الالتفات لها وفق الخارطة التقليدية للرواية العربية، بغض النظر عن تفاوت وجهات النظر بين عمل وآخر، «ساويرس» في مصر فعلت الأمر نفسه… أما المبدع، فبالتأكيد يستفيد أدبياً ومالياً مثلما يستفيد من إلقاء الضوء على نصه.
كيف تقيّم إبداع الأجيال السابقة، ومن يتحمَّل، غير جيل الستينيات، مسؤولية التراجع الثقافي لمصر؟
نجيب محفوظ أهم روائي مصري والأكثر تأثيراً رغم مرور أجيال عليه، ومسؤولية التراجع الثقافي لا يمكن تحميلها إلى جيل. لكن كما قلت لك، هي عملية كبيرة دمها متفرق بين القبائل وعلى رأسها بالطبع إرادة الديكتاتور.
ماذا عن روايتك المقبلة عن الشاعر الإيطالي أونجاريتي الذي عاش سنوات في الإسكندرية مطلع القرن العشرين؟
شهدت هذه الرواية مرحلة تحضير طويلة لطبيعتها «السيرية» و{التاريخية»، وهي استكمال لمشروع روايتي «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» لكن في اتجاه مختلف. فكلاهما شاعر سكندري/ أوروبي، وكلاهما كاشف لمدينة كبيرة في الثقافة هي الإسكندرية، كل بطريقته. وأحلم بأن تكمل رواية «أونجاريتي» رؤية الإسكندرية في زمن لاحق على إسكندرية كفافيس… وقد بدأت الكتابة بالفعل لكني لا أعلم بالضبط متى سأنتهي.