ضوء وظل، حركة وثبات: بيت طارق التلمساني وراء الأشجار

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 50
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

طارق التلمساني، مصور سينمائي وفنان متأمل، قليل الظهور والكلام وعاشق للجمال والضوء. بيته يشبهه ويشبه فنه ويستكمل فصلا هاما من تاريخ عائلة التلمساني الفني والسينمائي، وهي العائلة التي دأب أفرادها، كامل وحسن وعبد القادر، على العمل من أجل اعلاء القيم الحضارية والثقافية المصرية والعالمية في أبسط تجلياتها، حتى أصبحت تلك القيم نمطا في الحياة وأسلوبا في التفكير. أقام طارق بيته في عمق الريف القديم، غير بعيد عن هضبة الأهرامات، مستمداً من تراث المعمار المصري بعض مفرداته ومن الصحراء انبساطها ومن الريف شساعته وغموضه.

لا يدخل الزائر هذا البيت قبل أن يمر بصحراء ما، عبر الطرق الزراعية الآهلة أو عبر الطرق الدائرية السريعة. ولا يجتاز عتباته إلا وقد غمره الريف بدفئه وحنانه. أثناء النهار وفي قلب الزحام، السيارة تصارع لوريات وسيارات نقل عملاقة، ثم ينحني الطريق ويميل فتتهادى بسائقها وركابها عبر مدقات وطرق صغيرة تغوص في عمق الحقول والبساتين حتى تصل إلى “البيت”، حيث السكن والسكون. أما بعد العصر بقليل، تكون حركة الطريق قد خفت، وتحلو القيادة تحت أشعة الشمس الهادئة وصولا إلى الحقول وأسوار الطين اللًبِن المحيطة بمنازل وبساتين المنطقة.

منذ الخطوات الأولى في الحديقة، يشعر الزائر أنه في بيت خاص، تحمله إليه طرق ومسالك كثيرة ويستحق الوصول إليه مشقة الرحلة. فما إن يمر من بوابة البيت المفتوحة على مصراعيها، حتى يستقبله عبق الأشجار السامقة والعشب الندي ويتهادى إلى سمعه صمت الريف الذي يخالطه صفير حشرات الحقول وزقزقة العصافير المقيمة. يقع البيت الصغير في منتصف الحديقة، يخفي وراءه استراحة للضيوف لا يراها الزائر إلا بعد أن يمر بالبيت ويتجاوزه.

الاستراحة أو “المضيفة”، كانت ولم تزل، بيتا يصلح للإقامة العابرة، تقع هناك شاهدا على محبة أهل البيت للضيافة واحترامهم في الوقت ذاته لخصوصية الضيف واستقلاليته. بين البيت والمضيفة، حديقة صغيرة أشجارها ونباتاتها تكشف المبنيين وتصل بينهما، فيبدأ ما يشبه الحديث السرى بين صاحب البيت والعابر المقيم في المضيفة، حديث بلا كلمات. يهمس الهواء من بين فروع الأشجار ويتسلل بين أوراق النباتات الوارفة ويمر بخفة عبر ممشى من العشب المقصوص بعناية، تظلله شجرة تفاح.

بالحدس، يدرك الزائر أن للبيت تاريخاً أبعد من تاريخ بنائه. ليس بيتاً كالبيوت التي يعرفها، بناه صاحب أرض ومال للسكن والاستقرار، أو لتكوين عائلة، بل هو بيت صغير، يتسع للوحدة والتأمل ولزيارات متباعدة لا تحتمل الضوضاء ولا تشجع على الثرثرة. يحمل هذا البيت من التاريخ أكثر مما قد يوحي به المكان للوهلة الأولى.

عن طريقه يستعيد طارق ذكرى قديمة يبدو وكأن العائلة والناس قد نسوها، ذكرى ذلك البهاء الحنون الذي أحاط بعزبة التلمساني في قرية نوى القليوبية، ذكرى أنغام الموسيقى التي انبعثت من بيت الجد عبد الرحمن مصحوبة بأشعاره وأزجاله وبأصوات أهل العزبة وهمهماتهم الليلية. يذكرنا بيت طارق ببيت العزبة القديم وبريف مصر في بدايات ومنتصف القرن العشرين كما صورته كاميرا محمد كريم وصلاح أبو سيف معا. يذكرنا بصباحات الندى التي تهبط على الأشجار فتلمع أوراقها وتنتشي في الهواء العليل. صباحات الشمس الغامرة وهي تطلق أشعتها على البيت فتنضح الجدران بالنور والدفء. صباحات يحلو في كنفها شرب القهوة وقراءة قصيدة أو كتاب. ويذكرنا أيضا بما آل إليه هذا الريف من جراء زحف المدينة المقيت وحلولها الضاغط على كل مظاهر الحياة فيه، فيبدو هذا البيت مثل واحة خضراء في صحراء غاب عنها الظل.

لمن يعرف هذا التاريخ، يبدو بيت حسن التلمساني وكأنه قد حل في بيت ابنه طارق. في الطفولة، كان البيت الريفي القديم يتخفى أيضا وراء الأشجار. نشأت على محبة هذا الطراز من البيوت ذات الطابق الواحد، خاصة حين تعلو أشجار السور أو تكعيبة العنب لتخفيه عن أعين المتلصصين وعابري السبيل. نشأت على محبة بيت حسن الذي يحتمي بالظل ويسقط عليه النور من أعلى، من أقصى نقطة في سماء بلا غيوم. يصعد سلم البيت الداخلي نحو السطح مباشرة، وعلى السطح تحلو جلسات الليل حول راكية الشاي والذرة المشوية حيث يستطيع الناظر أن يرى الحقول في اتحادها بالسماء وكأنها مساحة منبسطة وداكنة مليئة بالحكايات والأسرار.

السقف يعلو ويعلو فلا أحد يقيم في الطابق الثاني، اللهم إلا السماء والهواء والضوء. من نفس الفتحة يهبط نور الشمس من السطح ليغمر باحة صغيرة تتراص فيها الكتب واللوحات وأحيانا ثمار المانجو التي تم قطافها حديثا من الجنينة. كان هذا بيت الطفولة في الريف السعيد! فيما عدا أشجار المانجو وتكعيبة العنب، أعاد طارق التلمساني بناء نفس البيت في مكان أخر في زمن آخر، بعد ما بيعت أرض الأسرة وتهدم بيت حسن. أعاد طارق للعائلة الكبيرة نفحة من ماضيها الجميل واستلهم خير ما كان يمثله لنا “بيت نوى”، الدور الواحد، استدارة قاعة الجلوس بنوافذها الكثيرة وضوئها المشع، هدوء وبساطة وحنان منزل الأسرة البعيد.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 61

من روح البيت القديم استمد بعض التفاصيل، وأضاف الكثير من روحه هو، من ذاته ومن فنه البصري ومن تلقائيته ومن إيمانه بالامتداد الطبيعي بين الإنسان والبيئة. البيت على طراز “فلاحي” حديث، لونه بلون الطمي يتماهى مع أرض غمرها النيل منذ آلاف السنين ويبدو وكأنه نبت فيها مثله مثل الأشجار. يحيط به سياج من الدودونيا والكونا كاربس السامقة وتحنو على جدرانه شبكة من فروع الأشجار تظله من كل جانب وتحميه من الحرارة الشديدة في الصيف ومن برودة الشتاء القارص.

المدخل يحنو أيضا على الزائر بثلاثة أقواس ودرجتين يشكلان نصف دائرة. ما أن يتجاوز الداخل عتبة البيت حتى تفاجئه غرفة فسيحة جدرانها عالية وأثاثها مريح وأركانها متنوعة ومثيرة للنظر. تدعوه الغرفة وهذا حالها من الانفتاح والترحيب للتوقف والتأمل والاكتشاف. في مواجهة الداخل، سلم على شكل قوس يصل إلى السطح وتزين جدرانه لوحة تبث في سكون البيت روحا وثابة نشطة توحي بها حركة الخيول على الجدار، صعودا وهبوطا من قاعة الاستقبال إلى السطح، من الأرض إلى السماء.

قاعة الاستقبال يغمرها الضوء من نوافذ عديدة بعضها مفتوح وبعضها يغطيه الشيش الذي يسمح بالتحكم في مسار الضوء وشيوع الطاقة في الأركان. تحت قوس السلم العالي مكتب وركن للقراءة ومقعد هزاز. هكذا نجد دائما في غمرة السكون وعدا بالحركة، وفي قلب الضوء مساحة للظل، وفي مقابل كل خط حاد خطوطاً دائرية تتقاطع معه وتستأنسه.

الأرضية الخشبية توحد بين أركان القاعة وتربط بين قطع الأثاث ذات الطرز والأساليب المتباينة. الأثاث لا يفاجئ الزائر بفخامة تدعو للتوجس أو التوتر، فألوانه تغلب عليها ألوان الأرض الدافئة وملمس الأخشاب الطبيعية بدرجاتها المختلفة وتموجاتها المثيرة وتتمازج مع ألوان الجدران دون ضجيج. سيرة حياة صاحب البيت تتبدى من خلال الأثاث واللوحات والمقتنيات الفنية التي جمعها من أسفاره مثلها مثل ألوان البيت الهادئة، حياة تبعث على الثقة والأمل وتبدو بلا أوهام.

يرى الزائر على مائدة صغيرة غير بعيد عن الباب الرئيسي جوائز التصوير المحلية والدولية التي حصل عليها طارق في مشوار حياته الفنية الممتدة من السبعينيات وحتى اليوم. ويلاحظ بعد حين صورة فوتوغرافية له خلف المكتب، وكأنها تعلن أن صاحب المكان حتى وإن غاب عن المكتب فهو حاضر بين الكتب وفي حضن الأفكار.

ولكن ما يبهر حقا في تلك القاعة هو حضور حسن التلمساني الطاغي ليس فقط من خلال روح المعمار وإنما أيضا على الجدران، من خلال لوحاته المائية التي رسمها في بيت نوى في الثمانينيات، ومن خلال حضوره السيريالي في لوحة زيتية رائعة تعود لفترة الخمسينيات وتصور طارق في طفولته. هذا الحضور القوي للأب الفنان والمعلم يجعل من القاعة معرضا استثنائيا لحياته الفنية، وفي الوقت نفسه تمتد وتتماهى حياة حسن وأعماله مع حياة طارق ورؤاه وأحلامه وميله للعزلة والتأمل.

اختار طارق التلمساني لبيته خطوطا لينة، دائرية، تحيط بالساكن مثل رحم أم وتدعو الضيف للمكوث والاستقرار وكأن البيت راحة كف ممدودة للزائرين. في مواجهة الداخل إلى المنزل، يمتد قوس السلم رأسياً فيما يمتد قوس الممر أفقياً ليكشف دون إفصاح عن القسم الداخلي للبيت، حيث غرفة النوم والمطبخ ومكان صغير للطعام. الممر الذي ينحني ويصل بين جزئي البيت يغمره الضوء الطبيعي أيضا، نفس الضوء الذي أصبح علامة مميزة لأسلوب طارق التلمساني في التصوير السينمائي. اختار الممر ليكون معرضا دائما لشهادات التقدير التي حصل عليها عبر مشواره كمصور سينمائي في مصر وفي العالم. هكذا تمتزج عناصر المعمار بروح وتاريخ صاحبه وتضفي على كل أركانه، بما في ذلك قوس الممر، بهجة وحركة ولونا.

في مقابل لوحة الخيول في قاعة الاستقبال، نجد في غرفة النوم لوحة لقطيع من الجمال يركض في الصحراء. خلفية اللوحة الزرقاء تتلاءم مع روح الأحلام ومع نقاء الخطوط العامة للبناء، فيما تتصدر مفردات الريف (الفرعونية) من ماء وخضرة وطيور داجنة لوحة تزين الجدار أعلى الفراش. صحراء وريف وبينهما يقع بيت طارق التلمساني وغرفة نومه ذات السقف الخشبي، غرفة الراحة والأحلام.

سقف الغرفة نفسه إحياء لذكرى البيت القديم، وإن كان هنا يحتفي بطراز أقرب لطراز الشاليه الأوروبي، جامعا بين ثقافات العائلة بمصادرها المتنوعة، المصرية والعربية والكزموبوليتانية. النائم في هذه الغرفة يحلق مفتوح العينين في جو من البساطة والتلقائية تؤكده الألوان الهادئة الباعثة على النوم والتي لا تقف عائقا في الوقت نفسه أمام الأفكار والخيالات. يبدو صاحب الغرفة في كل الأحوال حرا في نومه وفي استيقاظه، ففضاء الغرفة لا يعوقه شيء، لا مجال لتكديس الأثاث والمقتنيات، والكليم اليدوي الذي يغطي أرضية الغرفة يؤكد مرة أخرى هذه البساطة والاحتفاء بالعمل الإنساني. هي غرفة تحكي شطرا من تاريخ صاحبها ومحاولاته في مجاهدة النفس والناس في سبيل حرية الاختيار أو بالأحرى في سبيل حرية اختيار البساطة، بلا استعلاء وبلا ادعاء.

المطبخ وغرفة الطعام يشيان بكل هذا. لا مجال هنا لضجيج الضيوف ونهمهم، لا مجال لتضييع العمر في العزائم. يحافظ طارق على صحة نفسية وجسمانية يحسد عليهما، ويحيط نفسه بسياج من الوقت والمسافة، ويحتفي بعادات باتت جزءا من طبيعته منها محاولة السيطرة على الزمن وعلى ضرورات الحياة قدر المستطاع. مثله مثل كل فنان طموح، تمور نفسه بالرغبات وتمتلئ حياته العامة بالمشاق والمكابدة، لا يترك طارق التلمساني لصخب الحياة فرصة إلهائه عن أهم ما فيها، نعمة الهدوء واستقرار النفس، لا يتركها تفرض شروطها عليه إلا في أضيق الحدود، وبيته هو أكبر دليل على روحه الصلبة. يستمد كفنان وكإنسان قوة هائلة من بيته الذي يشبهه صلابةً ورقة، بساطة وعمقاً، تحمله الأرض الطيبة التي نبت فيها البيت، ويلهمه تاريخ العائلة الراسخ في التخلي، وتؤنسه الأشجار التي تهب للبيت ظلاله وتحميه.

………….

* مجلة البيت، اكتوبر 2015

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم