ضوء مهتز

ضوء مهتز
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كأننى أخطو فى مدينة أخرى. الشوارع تلفها ظلمة خفيفة رغم أننا فى منتصف النهار، أناس شاحبون يسيرون على عجل دون أن يلتفتوا للخلف، أردت أن استوقف أحدهم، لكنه لم ينتبه إلى، فضممت البالطو الرمادى حول جسدى، وأنا أنصت لصوت أجش ينبع من داخلى.‏‏

أخيرا عثرت عليه.. بار قديم يقع فى الدور الأرضى لإحدى البنايات المصممة على الطراز البلجيكى. دلفت إلى الداخل، فقابلنى ضوء شحيح ينبعث من عدة شموع موضوعة فى كوى على مسافات متساوية بالحائط.‏‏

رمقنى البارمان ذو الشارب الكث بنظرة متفحصة، ثم واصل حديثا مقتضبا مع شخص يجلس أمامه على الكونتر.‏‏

اخترت كرسيا قريبا من الفونوغراف الضخم، واتكأت بكوعى على المائدة المصنوعة كغيرها من موائد المكان على هيئة جذع غير متناسق لشجرة ضخمة. سرقنى البار بجذوع أشجاره، وبشموعه مهتزة الإضاءة قبل أن أنتبه على يد غليظة غزيرة الشعر تضع أمامى زجاجة نبيذ وكأسا كريستاليا.‏‏

انسحبت اليد بسرعة هائلة فلم أتمكن من لمسها. أخرجت حافظة نقودى وعددت ما بها، فاكتشفت أن بحوزتى مبلغا لا بأس به. وضعتها على المائدة، وتظاهرت بتأمل راحة يدى اليمنى هربا من عينيى الجرسون العملاق الواقف بين اثنتين من كوى الحائط محدقا فىّ.‏‏

عادت اليد الغليظة من جديد، صبت بعضا من النبيذ فى الكأس وانصرفت، اعتبرت الحركة الأخيرة أمرا بالاحتساء، فقربت الكأس من فمى وبدأت فى ارتشاف ما بداخله. لوهلة اختلط علىّ الأمر بحيث لم أدر إن كان نبيذا أم أى شىء أخر، لكننى اندفعت آليا لابتلاع الكأس تلو الأخرى، إلى أن قضيت على الزجاجة كلها.‏‏

حينئذ لمحت البارمان يسر بشىء إلى الرجل، الذى كان يعطينى ظهره على الكونتر، فقام متجها ناحيتى. جلس فى مواجهتى متفحصا إياى بعينين ضيقتين لم استبن لونهما، وأشار إشارة غامضة للجرسون الواقف بين كوتى الحائط المقابلتين لى فانصرف مغتاظا.‏‏

إزاء الصمت الراسخ لرجل الكونتر لم أجرؤ على الكلام، بل خُيل إلى أننى فقدت القدرة على النطق نهائيا. اقترب من فجأة.. أزاح البالطو عن جسدى، وكذلك الجاكيت الأسود.. فك أزرار البلوزة، وامتدت أصابعه إلى كتفى. ضغط الندبة الموجودة به وقال:‏‏

ـ لى واحدة مثلها تماما.‏‏

خلع الجاكيت الذى كان يرتديه، فلاحظت بقعة دماء داكنة تفترش صدر قميصه الأبيض، الذى حال لونه. شمر كمه وأمسك سكينا حادة كانت موضوعة أمامى منذ البداية دون أن تلفت انتباهى.‏‏

مس الندبة فى ذراعه بحافة السكين التى ما لبث أن ضغطها بقوة.. واصل ضغطه على السكين ونزل بها على طول الذراع فبزغ خيط من الدم القاتم. كان مستغرقا فى عمله لدرجة شككت معها أنه يسمع صوت صراخى.‏‏

بدأت أقبض على ذراعى، وأنا أتلوى من شدة الألم. ضبابة هائلة خيمت على عينيى.. انغلقت جفونى رغم إرادتى ولم أفلح أبدا فى فتحها.. تحول صوتى إلى مواء قطة تتعرض لعذاب لا قبل لها به.‏‏

فى النهاية أبصرت الأشياء من حولى مرة ثانية: موائد فى شكل جذوع أشجار تدور حول نفسها.. سكينا حادة ترتعش وقد تجلطت عليها بضع قطرات دموية، وشموعا تهتز بهلع. ارتديت ملابسى بتثاقل وخرجت.‏‏

 )ثمة صخرة على هيئة وجه رجولى قوى، كنت استند إليها وأنا أشبك ذراعىّ أمامى، خلفى سياج من أعواد الغاب كان فى ذهنى أننى من قمت بغرسه. كانت الرمال أعلى التل المنخفض ملتهبة، فأخذت أقف على قدم واحدة وأرفع الأخرى بالتبادل. بعد قليل شممت رائحة لحم يشوى فلعنت الرمال الساخنة وقلت:”ربما تلك رائحة لحمى”. كانت هناك مرآة تسد الأفق بينى وبينه، ورغم ذلك لمحته فى الجانب الآخر منها يرقد مكوما.‏‏

فى نفس الوقت كنت أراه بجوار صورتى المنعكسة فيها. كان أنفا حادا وعينين ضيقتين ماكرتين، ولحية مشعثة. ثم بدأ شعر رأسه ينمو بغزارة حتى اقترب من خاصرته، وتحولت عيناه إلى اللون الأزرق واتسعتا فى وجهه، فيما تلبستنى ملامحه الخشنة ولحيته المشعثة).‏‏

رجل وحيد يتنقل بين البارات الرخيصة يسعل بشدة، ويشعل سيجارة من التى تسبقها دون أن يهتم بكون رئته قد تحولت إلى مصفاة صدئة. فى البداية كنت أسبقه بخطوة، وأشعر به خلفى يكتم أنفاسى ويعدها علىّ، ثم انقلب الحال فصار يسبقنى بينما أراقبه وأطارد شبحه أينما ذهب. أصحو لأجدنى أعانى من صداع رهيب ويتردد صوته الأجش فى أذنى بلا انقطاع فأجرى إلى المرآة كى أرى هل احتلنى أم لا؟ ويعاودنى الهدوء حين تواجهنى نظرتى الزرقاء.‏‏

اللحظات الأخيرة فى البار القديم اختلطت فى وعيى بأشياء باهتة، فسيطرت على خواطر شريرة كان لابد من دحضها.‏‏

أمام البناية بلجيكية الطراز وقفت مترددة فى الدخول.. سكون غريب فرض سطوته على المكان.. امرأة شابة بملابس تعود لفترة الخمسينيات اختفت بسرعة فى مدخل البناية المجاورة، من إحدى النوافذ أطلت طفلة فى حوالى التاسعة تشبثت عيونها بوجهى فأحسست بتوترى يتزايد.‏‏

فى الداخل كان المكان خاليا من أى أثر للحياة.. الأتربة تغطى الحوائط والأرضية والعناكب نسجت خيوطها بدأب فى الأركان. لم أيأس وعدت بعد عشرة أيام.‏‏

خطوت فى نفس الشوارع إلى أن وصلت. دلفت إلى البار فقابلنى الضوء الشحيح للشموع. ثمة رجل كان يجلس على الكونتر، تبادل عبارات قصيرة مع البارمان ذى الشارب الكث ثم اتجه إليّ.‏‏

ناولته السكين الموضوعة على المائدة، ومددت له ذراعى اليسرى العارية وأنا أخفى وجهى بيدى الأخرى.‏‏

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال