أكرم محمد
“أنا نتاج هذه البيئة وهذا المجتمع، وسوف أعبر عن نفسي كما أنا”
جيمس جويس.
الفنان هو نتاج المنطقة الجغرافية، والمتغيرات السياسية، الرابضة في مجتمعه، والمولدة لحسه الفني، بالأخص في الكتابة الإبداعية، ككل، ومن أهم ما بذخ من مظاهر الأغنية المصرية هي الواقعية والتعبير عما هو كائن بالنفس المصرية، النابعة من الطبقية.
الثنائي، الشاعر أحمد فؤاد نجم والمطرب الشيخ إمام، هم التطبيق الأصيل الهجاء السياسي الصريح، الذي أفضى بهم للإعتقال، وأنبت في قلوب الكثير من شعبهم حبهم.
الشيخ إمام، الذي خرج من عالم مقرئي القرآن، ليتجه لعالم الفن، بصحبة الشاعر أحمد فؤاد نجم، هو مقرأ للقرآن أبصر بفؤاده فوجد العالم غدا إمباراليا، ورأى بلاده تقبع في التجربة الناصرية، التي استحوذت على جزء كبير من فن الشاعر أحمد فؤاد نجم، بداية من أشعار الستينيات، حتى “زيارة لضريح عبد الناصر”.
التجربة الناصرية الملهمة، بأفراحها وأتراحها ونصرها وجراحها وأحلامها، هي من أنتج شعر أحمد فؤاد نجم، وجعله ينطلق من نقطة السياسة المحلية المحدودة إلى عالم الفلسفة المتسع، منطلقا من ينبوع العامية المصرية، فيمثل الطبقية والقمع والنصر والهزيمة، على مر تاريخ مصر، فيقول في قصيدة “ورقة من ملف القضية”:
“_أنت شيوعي
_أنا مصراوي
_أنتم مصايب، أنتم بلاوي
_ممكن أعرف مين الأول بيكلمني؟
_إحنا نيابة أمن الدولة
_دولة مين؟
_دولة مصر
_مصر العشة ولا القصر؟
_ أيوه حنبدي ندور ونلف حاجه تنرفز خالص
إف
_مالك.. شايل طاجن خالك
_لم لسانك ما تخرفش
_أنا ما اقصدش اهانتك طبعا
_أيوه استعبط
_لأ ماعرفش
_إيه رأيك في سفارة كوريا؟
_إيه رأيك في قضية مصر؟
_ مصر ف وحده
هى وسوريا وليبيا ولازم ييجي النصر
_ييجي منين وإزاي ولمين؟
_ آدى كلام الشيوعيين”
أو يكتب ممثلا الطبقية في قصيدته الشهيرة “كلب الست”، التي غناها، أيضا، الراحل الشيخ إمام، وهو ما يعبر عن فلسفة شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم الرمزية، وهي الإنطلاق من الإسقاط المحدود للرمز الأوسع؛ فيستغل هنا قضية “إسماعيل” والفنانة العظيمة، الراحلة “أم كلثوم” ويكتب:
“ف الزمالك من سنين
وف حمى النيل القديم
قصر من عصر اليمين
ملك واحدة من الحريم
***
صيتها أكتر من الآدان
يسمعون المسلمين
والتتار
والتركمان
والهنود
والمنبوذين
***
ست فاقت الرجال
ف المقام والإحترام
صيت وشهرة وتل مال
يعني ف غاية التمام”
وهي قصيدة تمثل العديد من الجوانب الفنية، الكائنة في تاريخ أحمد فؤاد نجم الشعري، مثل عدم صياغته للكلمات العامية كفصحى، لتكون في محل إعراب، أو حتى تغيير لهجتها؛ ليظهر معناها وتسهل قراءتها، مثل:
“حبة واتلموا الظنايا
اللي هم البوابين
والهكاية والرواية”
و”الهكاية” هي “الحكاية” لكن باللهجة النوبية، وهنا يظهر معنى اللهجة العامية عند أشعار أحمد فؤاد نجم، وتظهر أيضا صراحته وصدقه الفني، الذي يمثل الجزء الأكبر من البناء الشعري لنصوصه، ويظهر فلسفته الشخصية، التي تظهر في أعماله الفنية وتصريحاته.
عبر أحمد فؤاد نجم عن هذه السجينة الشخصية قائلا في قصيدته ” برولوج”، الصادرة عام ١٩٧١، والتي تغنى بها، وصدحت ألحانه تزين كلماتها الشيخ إمام:
“يا ليل يا عين ما اعرفش أكدب
طب واكدب ليه
عدم المؤاخذة
لنا باكتب ولا أبصر إيه
لأنا احترافي اشتراكية
ولا عندي نزعة رجعية”
ويظهر في قصيدة “كلب الست” علاقة جغرافيا المكان بنصوصه الشعرية، التي تمثل رمزا فلسفيا، مثل: منطقة الزمالك بالقاهرة، التي تعبر عن الطبقية؛ فيكتب “نجم” في قصيدة “يعيش أهل بلدي”، الصادرة عام ١٩٦٨:
“يعيش التنابلة في حي الزمالك
وحي الزمالك
مسالك مسالك
تحاول تفكر
تهوب هنالك
تودي حياتك
بلاش المهالك
***
لذلك إذا عزت توصف حياتهم
تقول الحياة عندنا مش كذلك
مش ممكن تشوفهم
ف وسط المدينة”
أحمد فؤاد نجم هو النموذج الأصيل للفنان، المؤثر فيه النشأة، والجغرافيا، والمتغيرات السياسية، والإنسانية.
وكذلك الشيخ إمام، الذي يمثل جزء أصيل من تراث مصر الغنائي، بصوته الرابضة في قلوب الحارة المصرية، وجرأته التي شكلت ثنائيا له شعبية خاصة، رغم عدم انتشار هذه الجرأة السياسية بين الفنانين في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر؛ حيث ظهر وقتها الأناشيد الوطنية، التي غناها عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، وكتبها صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي، وقد كتب “الأبنودي” في مقدمة طبعة ديوانه “بعد التحية والسلام”، الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، ضمن مشروع “مكتبة الأسرة” عام ١٩٩٨، عن رؤيته الحالمة في نصوصه الشعرية المنشورة في هذا الديوان، التي كانت منشورة في برنامج إذاعي
“الديوان ليس درة فريدة، بالذات حين ننظر إليه الآن بعيون التجربة المصرية المركبة على مستوى الإبداع أو التجربة الحياتية. إنه أوراق تحمل سذاجة الفترة وسذاجتي..”
وكتب أيضا:
“حين أقرؤها الآن تتبدى لي سذاجتي الشعرية والفكرية لكنها كلمات علمت آخرين يوما ودلتهم إلى طريق الشعر..”
وأنهى الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي مقدمة ديوانه قائلا:
“هي تجربة على كل حال قد يراها البعض مفيدة، ويراها البعض بعيدة عن الافادة خاصة بعد أن تغير الزمن، وانهارت الأحلام واكتشفنا أن الحياة ليست بسيطة إلى هذا الحد..”
***
“ارمي الكلمة ف بطن الضلمة
تحميل سلمى وتولد نور”
الثنائي ذي الفن الثوري، الجرئ، كأي فنان، سلاحه هو الكلمة، التي يحارب بها، ويعبر بها عن مراده، وهنا تتجلى العلاقة الإنسانية والفنية بين طرفي الثنائي؛ فأحمد فؤاد نجم هو ابن ملجأ الشرقية، الذي لم يكره أصله ولم ينفر منه، بل تحول إلى حالة إنسانية لها شخصية تخدم فنها، وتؤثر فيه، أما عن الشيخ إمام فدوره يتمحور بشكل مباشر وغير مباشر، أحيانا، حول الجمهور، والدور الوطني، فهو دائما صوت الشعب، المعبر عنه بألحان تلمسه، وصوت قريب منه، حتى في أغانيه الغير مشتركة مع رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، مثل أغنية “البحر بيضحك ليه؟”، تأليف الشاعر نجيب سرور، التي تقدم صورة للغرق في المحلية.
وكذلك فإن العلاقة بين “نجم” و”الشيخ إمام” كانت علاقة صداقة وفن، وليس فقط مصالح مشتركة.
وعلاقة الفن بينهم توهجت بعد معركة حزيران، وسطوع ثنائية اليأس/ الثورة، وقد كتب أحمد فؤاد نجم عن فترة توجه في الستينيات من القرن الماضي في كتابه “الفاجوميات”، الصادر عن دار “الحسام” عام ١٩٩٨:
“كانت سنة ١٩٦٨ بالنسبة للعبد الفقير هي سنة الصعود والتوهج والهيمنة التامة على وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية..
تفتح جنابك الصحيفة تلاقي صورتي فوق خبر أو تحقيق صحفي أو رأي فني”.
وهنا يقطن علاقة الجمهور بالعمل الفني؛ فالجمهور المصري والعربي هنا كان يحتاج من يصدمه بما يراه حقيقة، ويصرخ بما يود قوله؛ فقصائد أحمد فؤاد نجم جريئة، صريحة، عامية، لا تجمل، ولا تأتي مباشرة فتفسد معنى “الرمز”، وبالتالي فهي قريبة من قلب مستمعها الكادح، بجانب شخصية “نجم”، التي تعبر عن الشعب، وعن التمرد، وعن القصيدة، والحرب بالكلمة والفن.
وعلى نفس النهج الفني يسير الشيخ إمام، التي تخرج ألحانه البسيطة من الشارع المصري، وكأنك تستمع إليها مباشرة من المغني، وصوته أيضا غير مجمل بمعدات حديثة..
تجربة الثنائي هي تخليد لمعنى الفن، والرمز الخارج من الواقع الإمبيرالي لسماء الرمز الشامل.
“وإن غبت سنة أنا لسة أنا”
أحمد فؤاد نجم هو حالة إنسانية وفنية متفردة، خلقت تجربة شعرية وإنسانية لن تنسى، ومع تفرده كشخصية؛ كونه فنان غارق في المحلية، ومعجون بالفن، وتراب مصر وشعبها، يظهر في حديثه دليل الشخصية الإنسانية، الذي لم تتغير تفاصيله الدقيقة، رغم تعاقب الفصول وتوالي الأجيال؛ فنجد الجيل الحديث من المغنيين، الذين يغنون في فئة “الراب”، التي انتشرت في الخارج قبل أن تغنى باللهجة العامية، منشغلا بقضايا الطبقية والفقر، ورغم عدم البلاغة الشعرية، الرابضة في أشعار أحمد فؤاد نجم وجيله، إلا أن هذا الجيل الجديد، الذي يؤلف كلمات أغنياته لنفسه، أيضا، يعبر عن روح الشارع المصري، وما به من أتراح، مثل أغنية “أتاري” ل”مروان بابلو”.
“ناس فوق وناس تحت
محدش فينا بيختار
هي بتيجي بالبخت
مفيش قبلها إنذار”
ويقول:
“أهلا بيك في الواقع”، وهي الجملة التي تعبر عن مضمون الأغنية، وعن معنى الفن، الذي يعبر عن واقع منتجه.
وهنا أيضا يتشكل معنى علاقة اللحن بالكلمات، وترابط الفنون، وتشكيلها لبعضها، حيث كان فن الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم من الشعب، الإنسان، وللشعب، وهو في هذه الحالة الإنسان، وفي حالة مغني “التراب”، فاللحن ينبع من ميول الجيل ويذهب له، حيث الشباب هو الجمهور الموجه إليه هذا العمل، وبالتالي فالموسيقى خارجة من ميوله، ومن نوع الفن هذا، وهو “التراب” (Trap).