بسمة الشوالي
هـــي
قضت عشرين سنة تصغي إليه يعزف وعينُها مظلمة. تدفق الألحان من حناياه نهرا من الجمال قدسيّا، وترجّع الأوتار خريرها السّماويّ. تنبسط لها حينذاك مركبة الخيال، وتعرج بها في ثنيّات السّماوات حتى العُلا. تجد هناك أبواب الجنان السّبع مشرعة فتدخل من أيِّها شاءت. وكانت كلّما دخلت جنّة وجدت العازف في هيأة آدم جديد عند عتبة النِّعم جالسا وحيدا، كابيا، مستوحشا. تأخذه من يده فيشرق كدره، ويذرعان الخيرات معا حبّا وطعاما، حتى ينتهي العزف، فتتركه هناك حتى الإسراء الموالي.
أحبّها العازف جمّا، وسعى لها حثيثا بالإبصار، فسعت إلى ذلك بما وسع الشّوق إلى وجه آدمها الخالد في نعيم القلب. زُرعت لها قرنيّتان، فبكت بحرقة العمر الذي مضى، قالت :
– لقد خدعتني طيلة عقدين من عمري. لم تقل لي إنّك لا تشبه آدم في شيء، وإنّ عزفك في الحقيقة لا يصيب من الجنّة ريحا ولا عتبة.
هو
لمّا رأى أنّها لم تعد تحبّ سماع ألحانه التي أدمنت، ومهّدت لها طريق الصّبر مخملا وثيرا، أدرك أنّه سقط من أعلى بناية الخيال ناطحة سحاب الوهم. قلبه الذي غدا إثر السقوط المدوّي مُقعدا على حافّة السّلم الموسيقيّ المترنّح شهق في حزن أوبراليّ ثمِل، وناح يودّعها:
– كم أسفي عليك شديد يا حبيبتي. لقد زُرعت لك قرنيّتا روح عمياء.
هما
كان يورّق مجلّة طبيّة مفتّشا في موديلات الأجسام المعروضة عن صورته المثلى ويواعدها في صمت.
وكانت تورّق مجلّة أخرى للغرض نفسه.
هذه الشّفة تناسبني، حدّثت قلبها الذي انسحب عن حلمها منشغلا به، الوجنتان فاتنتان حذاء هذا الأنف الصّغير، ويا لهذا الصّدر السّاحر.. !
وأوشكت، مفتعلة فرصة للمحادثة، أن تطلب رأيه في الذّقن الأنسب لشكل الوجه الذي اختارت لولا أن حان دوره ونودي على اسمها.
ولج كلّ منهما جناحا طبّيّا مختلفا. إثر أشهر ناهزت السّنة، عادا إلى مصحّة التجميل نفسها، في اليوم ذاته. جلسا جنبا إلى جنب يصرفان النّظر عن النّسخ البشريّة المتشابهة، ويعلّقانه على عتبة الرّجاء.
ستأتي اليوم حتما، يهدهد قلقه.
لعلّه يدخل الآن، تمنيّ نفسها.
………………
*كاتبة من تونس