عبد الرحمن إبراهيم.
منذ البداية تؤسس سردية “ضريح أبي” للروائي طارق إمام (دار الشروق 2022) مفارقة تنهض على أعتابها مساحة تفاوضية بين نصين، فلن تلبث الحكاية أن تضعنا أمام ضريح للحياة أكثر منه للموت.
هنا راوٍ ولد من مني رجل ميت حاضرًا بكراماته فيما النص يرجئ المتلقي إلى مفارقة ثانية تستأصل من رحمها العاقر مولودًا ينعي يتمه بين هوية يعتنقها النص، وهوية مدنسة تغيب قسرًا بميل أقرب للتطهر، باسم أب يعلو المشهد في ثوب المخيلة.
إذن هنا الفرضية المتخيلة أضحت زحزحة لهامش واقعي تقتضيه البنية؛ إذ بموجب الخطاب تغيب عن السردية امرأة تخون سيرتها هوية مقترنة بفعل فادح، لكن الحاجة لضريح رجل تغزو الخرافة سيرته؛ هي قدرة الإيهام التي أقامت على حدود الصحراء مدينة تحت وطأة سلطتها المطلقة، فيما التناقض بين عنصر أساسي ينفي شرط التأكيد على حقيقة يفرضها الإيهام في اللحظة التي يلج فيها قارئ النص المدخل، سيجد أن مفتاح التناقض هي البنية التي تؤكد عليها سردية ضريح أبي، فليس الرمز وحده من يشهد على ولي يستبرئ بمسوخ نجسة تحرس ضريحه، لكن الأكثر فداحة في الأمر؛ هي أن تصبح دناسة شخص ما حارسًا لمقامه المقدس.
تبقى تلك المفارقات وسيلة تحاك على هوامشها عدة أسئلة تنأى بالصوت الذي يتسرب من سردية هي قرينة الخيال، أن تنحت بأدواتها شكلًا آخر للسيرة الشعبية، فكل محكية تبحث عن سياق يحتضن سؤالًا مؤرقًا يعتنق في جوهرة دلالة، الهامش فيه هو حكاية مستقلة، مسودة تكتب مسودة؛ تشهد فيها السردية كتابتها عن ولي يحضر داخل أداتها، وكأن كراماته هي تمثيل لما يمكن أن تمتلكه المخيلة اذان الحكي.
فكل مرجع إلى الواقع ينهض بمحكية، وحيث فكرة الخلق تخلق نصًا حاضرًا داخل المدينة التي شيدت بإتقان كذبة لا تفضي إلي يقين، فالابن الذي ولد بين هويتين يعتنق النص إحداها وينفي الأخرى أنها مفردة مبتذلة مصيرها الممحاة تحت وطأة أب لا يزال في ميتته يحتفظ بتجسده في وعي الناس، فيما أمه قد ضاعت داخل مدينة شيد ذكراها مثلما شيد مدنها، لا تحتاج فيها إلا لحكاية متقنة تعوزها اللغة وهشاشة الوعي. فالمفارقة ليست فقط أن حاجة الإنسان يسد عجزها ولي لم تكتسي عظامه بعد بمعجزة فقدت حضورها ولم تفقد النص.
يمكن اعتبار نص “ضريح أبي” محاولة لتفكيك المتون المؤسسة للحكي، كولادة بكر؛ لكنها تحتفظ بخصوصيتها رغم تناصها مع بنية ألف ليلة وليلة كمرجع أكثر حضورًا في وعي المتلقي، لكنها أيضًا تعيد إحياء هامش يخص كاتب النص نفسه؛ فهي ليست إلا محاولة للبحث عن هويته فيها كمتلقي، وكلنا متلقيين حتى لنصوصنا كتابًا وقراء، وهو ما يمكن أن نعتبره حاجة للرجوع إلى التراث، واللعب معه بأداة المخيلة، فهي كما تشغل حيزًا من حياة فرد هي ذاكرته؛ فيمكن لها أن تشغل حيزًا آخر في الواقع هو حياته.
فالحكاية لا تنفي تبنيها لأيديولوجيا دينية تخص سلطة الوسيط بين الإله وخلقه، حيث يمتلك شيئًا من التفضيل يكفل له سلطة، فالضريح الذي أقامت جدرانه حاجزًا يفصل بين الحقيقة والكذب، واليقين والشك، قد شكل ثنائيات مخولة بوعي لا يتحسس السياقات، فالرؤية السردية ترتكز حبكتها على التقنية؛ فالواقع فيها أصبح استعارة، والمجاز واقع المخيلة، لكن جوهر الدلالة يخص وعي الإنسان بأسئلته وعلاقته التي تتدعي التقديس، لكن هو في الأصل من يهبها باعتقاده المسبق وفقًا لمرجعية سابقة لا تشكك في عمليه التلقي لنص الواقع الذي يخالط المخيلة فيها، فعدم تشكيكه في الثابت بدون وعي تسعفه الأدوات، أضحي الوسيط إلها يلجئ إليه الناس في الحاجة، وحيث هوية الإله الحقيقية قد ألغيت، وهي لا تخضع للمساءلة، فيما الرؤية الأكثر شمولية للحكاية، بقيت وسيط الايدولوجيا، وليس العكس. ليست فقط هي التيمة التي تشحذ قالبها ليحيا ولي على أعتاب الموت ويتلمس الجميع فيه خلوده؛ ولكن لتنبض ذاكرة الواقع والخيال معًا لتبني اللغة الملتبسة فيها واقع ثالث يوازي حياة للموت في محكية تنهض من نص يقبع خلف السياق.
ومثلما يوجد باعث واقعي لوجود حدث، هناك موت متخيل لوجوب حياة، تشيد فيها مدينة تنصت للجرس الخافت لهمس العالم، وتترك بابها مفتوحًا لحكايات ليست فقط تساهم في تقويض البنية لكنها تأصل لوجودها في النص، فليس بمقدرة بائع المعجزات أن يعفي نفسه من الحاجة لمشترين لبضاعته، وليس صندق الدنيا إلا إيهامًا بالصورة التي أحيانًا ما تخون معناها، وليست الاسكافية إلا امرأة فقدت قدمها مقابل أن تمنح لها أقدام الجميع، فيما العرافة نص القدر والحياة المكتوبة، وهي لا تحتاج إلا لشيطان ليوهم بهمسه أن الخلود محض يقين تصاحبه الرغبة، وأيضًا تفوز فيه الخدعة المتقنة.
فكل سيرة ما تزال تحتاج إلى قليل من التخييل بما لا يؤرق البنية، بل ما يجعلها مناخًا للمساءلة. وما يمكن أن تظهر فيها أهمية السياقات، ليس فقط لتؤكد على حقيقة ليست عرضة للشك؛ بل لتنفي يقينًا مسبقًا في اللحظة الراهنة، لا ينفصل عن وعي الإنسان أو الفرار من فخاخ الاصطدام بجدلية ما تنتظر ولادتها، فقدرة الفن هي كيفية حدوث الفرضية المتخيلة، فكل فرضية هي متخيلة حتى وإن زعمت محاكاة للواقع أو تناصها به، فلا وجود لفن يهرب منه، لكنه خلق لمواجهته ورفض ثوابته وجعلها دائمًا عرضة للشك، وهي الرهان الأساسي برأيي الذي تنهض عليه سردية ضريح أبي، فليس فقط القالب هو ما يساهم على تقويض الواقع، لكن المفارقة إنه ساهم في تأكيده وتعرية أوتاره الأكثر حساسية تجاه الثابت.