“ضريح أبي”: الصراع الثقافي في قبضة الخيال السردي الجامح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أماني فؤاد

 (1)

في روايته الجديدة ‘ضريح أبي’ يخرج المصري طارق إمام من عالم روايته السابقة ‘الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس′، ليخطو في منطقة أخرى جديدة، يوظف فيها التراث الديني الشعبي؛ بغية الوصول الى فكر متحرر، يشمل الوجود الإنساني بمعناه الكوني.

يخرج إمام من دائرة كبرى، مستنبتا منها دوائر صغيرة لم تزل تتشكل، قيد البحث واكتمال النضج؛ ليدخل دائرة أخرى، فتظل بعض عوالم الروائي الملحة والمتكررة في مشروعه الفني تطل برؤوسها في نصه ‘ضريح أبي’، فهناك ظلال من مجموعته القصصية ‘ حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها’ 2010. تلك الظواهر الملتبسة في الحياة البشرية، وتخضع جميعها لتأويلات افتراضية، لا تدعم سوى انفتاحها على الخيال ذي العلاقات السريالية، فتصبح عالما خصبا يبدع فيه الفنان عوالم الغرابة والوحشة.

تظل أيضا الكائنات العجيبة، والوجوه المشوهة، وهذا العالم الغرائبي العلاقات، يشغل حيزا كبيرا في سردية ‘إمام’ مجتمعة، مكونة من كل أعماله، كما تعد المقابر عالما للمتناقضات لديه، فمن قلب عتمتها يطلق البالونات، والأغنيات والموسيقى، كما يطلق فيها المسوخ المشوهة، وموت الأحلام، وكائنات الليل المخيف.

تظل المدن الغريبة وحكاياها، وغرابة النماذج التي تعيش فيها، هاجسا يلح على الكاتب في منحى غرائبي. في ‘ضريح أبي’ تبدو مدينة ‘جبل الكحل’ نموذجا لمدينة مصرية مستدعاة من’كتاب الموت’ الفرعوني المقدس، نفس الملامح ــ إن تحسستها بحدسك. تتبدى بنية الرواية غير كلاسيكية، يتشكل الصراع فيها بداخل السارد، الموزع بين قبر افتراضي لأمه، التي ماتت لحظة ولادته، بعد أن عانت وعانى معها الابن من توجس البشر منهما، ونعته بابن السفاح، وضريح أبيه الذي يباركه جموع الناس، ويضفون عليه التبجيل والتقديس، رغم أنه أقرب الى الموات، لكنه يحيا في الأحلام، وفي المدن الموزعة بين الطبيعة المتنوعة الجغرافيا، في العقل الجمعي للبشر وأوهامهم التي تكتسب مع الوقت القداسة لقدمها، وبين الاثنين يحاول الابن أو السارد أن يجد له مكانا بالوجود، من خلال واقع يتنازعه الموروث الأسطوري والغيبي والديني، الذي يقف في مواجهة مع الفن والفكر والعلم، الذي يبدعه الإنسان ولا يدعي السماوية أو التعالي أو الغيبية والخرافة.

يُشهر النص مواجهة من خلال عالم الأحلام الذي يعرض لحيوات وعوالم مختلفة التكوين، فيها يعصف الروائي بالمألوف والمعتاد، ويسلط الأضواء على العالم العجائبي مهما اختلفت بيئاته وتنوعت، وفي هذا الخضم يحاول السارد أن يكتب وجوده الخاص، بصمات أفكاره التي من حقها أن تترك أثرها على العالم، وتعيد ترتيب قيمه، وموروثاته الأسطورية، والدينية، تؤمن بها، أو تكفر بعوالم الكراهية والشر فيها، بالحروب والعنف، وعوالم اللامنطق.

(2)

تتنوع جدائل أو محاور ضفيرة نص ‘ضريح أبي’ ويميزها أولا: انطلاق عالمها من ثقافة شديدة المحلية، تبرز الفلكلور المصري التراثي، وخياله الديني الشعبي المستقر والمتوارث في قرانا ومدننا، بشفراته ومفردات عالمه التي يتمثل بعضها في الولي وضريحه، العتبات، صندوق النذور، طقس التمسح والتبرك بهذه الكيانات التي تكتسب صفة التقديس في أذهان البسطاء، وتعد لديهم جسورا مادية محسوسة لمنطلقات ربما تتسرب فاعلياتها الغيبية في هذه المجسدات، تتمثل في أذهانهم وعيونهم التي تبحث عن مرئي، مادي، مجسد، يسكبون بداخله متخيلهم للغيبي.

كما تتبدى مظاهر وشخوص هذا العالم في النص مثل : حارس الضريح، قاطع الطريق التائب، مقرئة القرآن، وهنا لفته تفكيكية للموروث المستقر في مجمله، فمقرئ القرآن في المقابر عادة ما يكون رجلا لا سيدة .

تكتسب الجديلة الثانية نبض وحيوية البشر من خلال شخصيات العمل، التي قد نرى البعض منهم حولنا رؤية العين، لكن المؤكد أننا لن نراهم على النحو الذي يخلقهم به السريالي طارق إمام لأنهم في الحقيقة رموز لمعان شديدة التجريد.

يصاحب تلك الشخوص عالم آخر من الكائنات العجائبية مثل الكلاب التي يصفها بقوله: ‘مسوخ سوداء لكلاب ذئبية نحيفة بلا آذان أو ذيول، خطومها شديدة الطول، وكلها من الذكور، لم يعرف الناس أبدا كيف يمكن لهذه المسوخ أحادية الجنس أن تتناسل..’ص11.أو رأس مشوهه تتحرك وتحيا بمفردها ص140، أو شخصية ‘إسحق’ هذا المسخ الذي يصفه قائلا:’كان إسحق عجوزا غريبا ممسوخا بحاجبين كثيفين مقلوبين تحت عينيه، وله أنف بلا ثقوب، ..’ص142، وغيرها من شخوص متعددة.

تهب هذه التكونات الفنية العجيبة والمشوهة في الغالب عالما سحريا خاصا للنص، تبتعد به مسافة ما عن الواقع، يفارقه الروائي لا ليعلو عليه، لكن ليستطيع أن يفككه ويعيد النظر فيه، ويضرب برمحه في قداساته. كما أنها تحمل شفراتها الرمزية التي يتغيا الكاتب منها دلالات فكرية متنوعة.

تعلو وترتفع الجديلة الثالثة لتنقلنا الى ثقافة الوجود، الثقافة الكونية، كأننا إزاء نظرية فيض جديدة، فيض فني مستحدث، يعلو بالمقابر والأضرحة والشخوص، أشباه المجاذيب أو الممسوسين، معتركي التناقضات، غريبي الملامح، الى أزمة الإنسان في هذا الوجود الكلي، الصراع بين الموروث والحداثة، الحرية في أشكالها كافة، وأولها حرية الإبداع والكتابة، ومناوشة ما اكتسب صفة التقديس.

تتحول تلك الكائنات الفنية المغموسة في فلكوريتها وتلتصق بالبيئة الريفية المصرية الى دلالات مفتوحة رحبة؛ لترسم صراعا تعاني منه مجتمعاتنا العربية منذ قرون.

يتحول الولي في قراءاتي للنص الى مجسد للقوى الغيبية المتعالية، الى كل ماهو ميتافيزيقي موروث وقديم، قد يكون كينونة الزمان بعمقة الممتد في الماضي، وشبكة تشعباته في الحاضر، بما يحمله من أساطير ومعارف، وقد تلصق بالولي معجزات الأنبياء، ويعير له الكاتب بعض إمكاناتهم وكتبهم المقدسة، أو مخطوطاتهم.

في النهاية يمثل الولي كل ما اكتسب أو اُلصقت به سلطة القداسة، وتكلست معجزاته التي لا محالة تشكلها الأوهام والخرافات بطبقاتها الجيولوجية المتراكمة التي يرسبها الزمان، حتى تصير أيقونات راسخة في ذهن جموع البشر، فيتحرك بعالمنا ظلالا كامنة في الموروث الجمعي من : الأولياء، وأصحاب الكرامات، الأنبياء والرسل، أهل الخطوة وأصحاب الخوارق.

قد يمثل الضريح في النص وجثمان الأب فلسفة الرمز الوسيط في الأديان، ودوره في حياة البشر البسطاء، الدين الذي في أجوائه يرتكن الإنسان الى قوة وقدرة متعالية، يستند عليها، ويهرب فيها البشر من الفناء والعدم .

في لفتة ذكية ينفتح مفهوم الدين في هذا النص، ليستدعي الروائي مذاهب الإسلام المتعددة وتياراته من السنة، والصوفية، والسلفية شديدة الأصولية، الى ملامح من تيار التشيع أو ما أستطيع توصيفه باليسار الإسلامي في صورته الأكثر انفتاحا،ويشير بالرموز الى الصراعات والحروب التاريخية بينهم.

وتأسيسا على الظاهر والباطن، يأخذ الكاتب ظلالا من عوالم التصوف ومعارجها الفكرية والوجدانية، متكئا على الأحلام، والطقوس التحولية، والتأويل؛ ليشيد نصه، تناصا مع موروث أزلي يتمثل في خوف الإنسان من الفناء، الذي يقف من وراء الدافع الى نشأة فكرة الإله ذاتها، والوسائط التي تبتكرها أوهامه، فيقيم ويبني الإنسان التمثال والمعبد والضريح، وتتنزل الكتب المقدسة، و المزامير والوصايا، وغيرها من وسائل، تطمئن البشر بعيدا عن نهاية يرونها أمامهم كل لحظة، وهنا تستدعي أيضا عملية كتابة ابن الولي لكتابه الخاص، وفعل الكتابة أو قيمة الكلمة، التي تعد امتدادا للهروب من الفناء .

وقد يعود الولي في أحد تأويلاته الى مرحلة ماقبل الأديان، الأساطير التي كانت تشغل مكانة الأديان، والحيز الذي كان شاغرا في العقل الجمعي للشعوب .

(3)

يبدو أن طارق إمام يلهو بنا، يمارس لعبة المراوغة مع قارئه، وأنا بدوري سأعكس اتجاه اللعبة .

مع سبق الأصرار والترصد يفكك الروائي عوالم قد استقرت، فيضرب في أعمدتها بمعاول مراجعاته للموروث، ويخدش طلاءها الناعم البراق بأظافر كلماته ومجازاته.

من ‘الأم’ سيدة هذا النص، المنغمس بالواقعية السحرية وعوالمها ؟ من نعمة، ومن سبيل، ومن سيدة الكحل، ومن السيدة من ورق؟

أتصور أن كل هذه الشخوص الورقية تتجمع معا، وتنعجن في بوتقة لغة ‘إمام’ وتكويناته الأسلوبية، وتشكيله لبعض المشاهد السريالية والواقعية في هندسة سردية الرواية على نحو خاص؛ لتحيلنا الى المعرفة، المعرفة الحرة، الى الإبداع الذي يجرب، ويفسر العالم موازاة معه، من مسافة بعيدة نسبية يراه، يلتقط منه ما يحاكيه ويوظفه، لكنه لا يعترف بقداسته .

يسمو بالفن والغناء، النحت والتماثيل والتشكيل، الكتابة، وكل ما ينتجه الإنسان خارج سلطة المقدس والمؤسسي، الى معرفة العقل، الى التجربة و إمكان الخطأ والصواب، الى الإبداع على غير مثال سابق، وهي حرب شديدة الوطأة، فللقديم سطوة وقوة لا يعرف عمقها في عقول وقلوب المجتمعات إلا من يتبنى التحديث، وسيظل يعاني من آثارها التي لن تنمحي كلية، لكن يبقى الأمل دائما في خلخلتها.

ولذا تبدو الأم ونعمة وسبيل كلهن محملات بخطيئة ما، قد تتحدد معالمها أو لا تتحدد، النهائي والجوهري أنهن ينجبن مستقبلا، يتسببن في قادم، ينجبن إنسان الخطيئة، ولا تقاس الخطيئة هنا بالأخلاق، قدر قياسها بأنها تخرج عن إطار السلطوي والرسمي والمؤسسي، الذي يأخذ مسوح القداسة، وهو ما لا يناقشه المجتمع لوطأة صور كهنوته برغم لا منطقيته.

ففي المقابر، صوبة الموت المكثفة، تقف المرأة العاقر عارية في الليل المدلهم، ليخشاها الخوف، وتتلبسها قوة الموت، فتصب فوق جسدها مياة النهر وهي تضمر في ذهنها تعاويذ جدتها إيزيس باعثة الحياة، يتكاتف النهر باعث الخصوبة، وسحر الكلمات، واستنفار الموت و تحديه فتبعث الحياة من طاقته الراسخة، والتي لا تقف أمامها أية قوة، موروث نما وأخذ تنويعاته في الدماء المصرية وموروثاتها.

تبقى الأم في نص ‘ضريح أبي’ مزيج رائق متداخل من إيزيس الخصوبة، من المعرفة والحرية، من هدم المتحفي والخرافي والجاهزي المعلب؛ للخروج الى عوالم أكثر اتساعا، عوالم من شأنها أن تموت وتندثر، لكنها تستمد بعث الحياة فيها من سطوة الموروث وقدمه.

(4)

تستند تجربة الروائي في تصميم النص على هندسة المتاهة والمراوغة، منطقة ما بين الحلم واليقظة، ما بين الغيبي والحقيقي الواقعي، مابين الموت والحياة، وهنا أشير الى ما ذكرته في دراسة سابقة، كنت قد قمت بها لرواية ‘إمام’ ‘الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس′ بعنوان ‘التقنية ثورة تحرر’، وهو ما يجب التأكيد عليه مرة أخرى، فهذه العوالم تبعث على الخروج من أسر التقنيات التقليدية، وتفتح نوعا آخر من الجماليات المجاوزة، التي تدفع بتجدد عوالم الإبداع، وتنفي عنها نمطيتها فتصبح التقنية هي الحامل لطقس التغيير الفكري والثقافي.

تصبح التقنية لسان حال التحولات التي تعانيها المجتمعات التي يعوق مسار تطورها كل ما هو أقرب الى القبور وساكنيها، فتظهر الكائنات المسخ، والأجساد التي بلا رؤوس ولا عقول، بائع الوجوه الذي يبدل الوجوه القبيحة بأفضل منها، ثم ما تلبث أن تمحي الملامح المزيفة، وكلها كائنات وتكوينات فنية وتقنيات غرائبية تشير الى تحولات المجتمع التي تشمل قيمه الأساسية، وحجم القبح والعنف المستشري فيه، تبعث بمناخ من الرعب والخوف من وجود كل هذا الخراب والقدم والضياع الذي يشمل الجميع.

ولذا أيضا قد يبدو النصف الثاني من النص المعنون بـ ‘حيوات الرجل الميت’ دون تلمس القارئ لحبكة حقيقة، وكأن الخيوط السردية انفلتت من الكاتب بدرجة نسبية، لكن طبيعة الفكرة المعالجة، ورمزيتها المكثفة، هو ما فرض انفتاح التقنية على هذا النحو، قد يتجلي ذلك حتي في تحديد هوية السارد، هل ابن الولي من يحكي، أم أنه الولي ذاته؟ لكن في الحالتين لا يبقى النص قلقا ؛ لأن للحالتين تأويلا يزيد من بريق النص وبراح دلالاته.

ويتوالى السرد في النص بلسان المتكلم، من خلال سارد رئيسي لا يهبه الروائي اسما متعمدا، الابن الموزع بين والديه: الولي الذي مات منذ بضع مئات من السنين، ويسكن هذا الضريح الذي يمتلك سطوة روحية على الناس، فيذهبون إليه للتبرك به، وترك النذور فيه، وبين أمه التي عاشت حياتها هائمة، ثم ماتت لحظة أن أنجبت هذا السارد.

السارد الذي يبدو بالنص إنسانا مطلقا يتوق الى الكتابة، تستهويه الخطوط والمعرفة، تدعوه ثقافتة أن يقرأ ما قبل وجوده، كل ما دونه الزمان، أي ثقافة الجاهزية التي تميل إلى الأساطير بكل ما تحويّه، ثم يشرع أن يكتب ذاته، وهنا تأتي المفارقة، فهو حين يكتب ذاته وحاضره وأحلامه تنمحي وتبيض صفحات المخطوط القديم،والمعارف المقدسة.

يشير الكاتب الى هذا الصراع الأزلي بين الإنسان وقتل الأب، الأب بدلالاته الأكثر اتساعا من شخصانيته: المرجعية التي ترمز لمعرفة الأجيال السابقة، المعرفة القديمة المتوارثة التي تنجرح وتتهاوي وتتفكك في لحظة التنقيب في الحاضر والمستقبل، قدر ما أعطت في بعض الفترات التاريخية السابقة، الموروث الذي يهبنا من خلال بعض محتواه أدوات هدمه، وهو ما دعي الروائي لجعل لحظة كتابة السارد لذاته نفس لحظة محو الصفحات في الكتاب أو المخطوط المتوارث، أو قد يكون الأب هو هذا البشري المتجسد، والذي نحيا أيامنا في محاولات مستميتة من الخروج من سلطته المفترضة،… أفضل أن تبقى التأويلات مفتوحة دون أن تغلق على دلالات بعينها.

يظل السارد هنا فيما أتصور فعل الكتابة والتدوين، فعل تحول المجردات السابحة في فضاء الكون بأحداثه وشخوصه وقيمه ومعانيه ودياناته وخطيئاته الى القبض النسبي على هذا الهائم والمتشظي إن لم يكتب ويدون، ولذا من هذا المنطلق قد نفسر العلاقات الغرائبية التي تدخل منطقة الغواية والمضاجعة، بين هذا السارد وأمه، حين وجدها وفي نفس لحظة ولادته من رحمها .

يتبدى مشهد الجنس في النص مشهدا رمزيا شديد التركيب، يدلل على العلاقة بين المعرفة والإبداع، الطبيعة مع الإنسان حالة خروجه من رحمها، وتعاطيها، حين يبدأ في تدوينها، ليخلد الإضافة البشرية في الوجود المتمثلة في الإبداع، لا المتوارث والقديم .

يقول السارد:’ما إن غادرني الحارس، وأغلقت الباب خلفه، حتي رأيت لحظة ولادتي. كنت أصرخ وأمي ترفع ساقيها، وتلفظني بكل القسوة الممكنة ..وإلى جوارها يرقد جثمان ضخم، ميت، كما كان دائما، حي، كما سيظل للأبد، يتنفس فيتلقي الناس زفيره ليعيدوا استنشاقه. من حولي أسيجة ضريح، ووجوه تحاول عبثا إدخال أياديها من الفرجات.. تتضرع لأنفاس الجثمان المقدس الذي يشهد مولد ابنه الوحيد..لقد كنت أضاجعها، ها أنا أرى الأن..’ص189، تتجلى المفارقة هنا في بقاء الثالوث الأبدي دائما: الطبيعة الخصبة الحرة، الإنسان الذي يطارحها الحياة بإبداعاته المتنوعة، الموروثات الأسطورية والدينية والفلكلورية بمواتها وأيضا حياتها الأبدية، في إشارة الكاتب الى أحد أهم المكونات الأساسية في تكوين الذهن البشري، الغيبيات وبقاؤها، فهو يركن إليها، ويعوزها طلبا لأمان ما.

على القارئ أن يتوقع وهو يطالع الشخصيات في نص ‘ضريح أبي’ أنه بإزاء شخوص ما تلبث أن تهتز وهي في لحظة تكوّنها ورسم ملامحها، وسوف تتكرر لكل شخصية على حده ظلالا لانهائية، كما أن هذه الظلال ليست ثابتة أو حقيقية، مما قد يمكن القارئ أن يركن الى إحداها في لحظات من هجير البحث عن حقيقة، أو معرفة يقينية قد تريحه.

ولأن السارد في هذا العمل يرمز الى فعل الكتابة، الى الإنسان المطلق، الباحث والمتسائل والمجرب، والرافض للخرافة وقضية الجبر، لكل هذا وأكثر، يظل هو السارد الرئيسي.

(5)

يلهو الروائي بالمكان والزمان ويرسخ لهما من خلال طقس صوفي، وشيعي، وتاريخي ممتد، لا الوجود الواقعي الذي يدركه الناس للزمن وحدود الأماكن.

يتشكّل المكان لحظيا كومضة، مدينة أو قرية مصرية، لكنه يتمدد ليصبح مدنا تذهب إليها الاحلام، تنشئها وتشيد معالمها وتحدد جغرافيتها، وتنوعها بحارا ومحيطات وصحراوات وجبالا، ثم ما يلبث أن يقوّض كل هذا، فهي محض أحلام، أم هي واقع ؟ لا أحد يملك يقينا في النص.

تصورت وأنا أطالع مدن الأحلام تلك أنها ليست مدنا، قد يتسع خيال الروائي لتصبح مدن الأحلام تلك قضية الإبداع ذاتها، التأليف الحر، معانقة الوجود والكون بمجمله، ثم نشأة علاقة ملتبسة حائرة دوما بين ماهو كائن وما نتصور أنه يمكن أن يكون.

يبقى الضريح ذاته اسم مكان تتسع جدرانه وتتضخم وتتعالى، لتنفذ الى كل ما هو غيبي وموروث وقديم، وهو قد يحمل ضلالاته أو إضاءاته، تتقزم نفس ذات الجدران وتنكمش لتبقى أيقونات تستقر بقلوب البشر وعقلهم الجمعي، فيصبح من المستحيل موت صاحب الضريح، حتى وإن مات منذ ما يقرب من ألف عام.

تتسع أعمار شخوص العمل، يعيشون عدة مئات من السنين قد تصل الى الألف، ثم يموتون، وهم حين ينتهون لا يفنون، فهم في واقع القص موتي مؤثرين في الحياة، لهم أعين مفتوحة، وأجساد حاضرة لا تبلي، الزمان هنا نسبي، فالأم التي دفنت في أحد المقابر المجهولة تظل تحيا مختبأه لمئات السنين، ثم حين تأتي لحظة أن يراها ابنها تموت وهي تلده في لحظة مشاهدة السارد لولادته بعد أن شاخت الأم في لحظة بعد أن ولدته.

تكوينات زمنية ومكانية فنية لا يمكن إدراجها تحت كلاسيكية البناء أو التقنية، فهناك اتساعا في التحليق بحدود الزمان وقيود الأماكن، كما لا يمكن في التعامل النقدي مع التكوين الهندسي والبنائي لهذا النص استخدام الأدوات المتداولة في تحليل النص الروائي الكلاسي،هناك رؤية نقدية منفتحة يجب أن تتعامل مع جماليات غير تقليدية فهناك جماليات متجاورة ومتناقضة وفوضوية، جماليات مركبة ومتداخلة تنداح فيها الأزمنة وتمتد وتتسع الأماكن وتتنوع، والروائي لا يتخيرها عبثا، بل لتنقل وتعبر عن رؤيته وفكرته التي تدعو الى الثورة من خلال الإبداع، الثورة بالتقنية التي لا تنفصل عن الأفكار والقيم التي تحملها.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم