صيام الكتابة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 

تأخرت في كتابة المقال الأسبوعي، فكرت في الأمر أكثر من مرة وصديقي يحثني على كتابة المقال وإرساله، كنت في سيارة أجرة عندما تلقيت رسالة نصية منه يسأل عن المقال الجديد، وكان سائق السيارة يقود ببطء وخلفنا سيارة أخرى لا يكف صوتها، لاحقتنا ثم أصبحت جوارنا، ثم سبقتنا، بعد أن رمق سائقها سائقي بنظرة غضب، استقبلها الأخير بجملة قالها بكل هدوء "مستعجل على إيه؟ لك معاد هتوصل فيه".

لا أصدق أن أشياء مثل هذه تحدث من قبيل الصدفة، خاصة في الوقت الذي أفكر فيه بكثافة في الوقت، كيف يتحول مرة إلى أرنب وأخرى إلى سلحفاة. وحولنا هوس إعلاني وإعلامي بالوقت، يحثنا دائمًا على اللحاق بالفرصة قبل أن تنتهي، أو على استرجاع ما مضى وإثارة ذكرياته وشجونه. على عكس كثير من الناس، لا أريد العودة للماضي، ولا أريد الذهاب للمستقبل، فقط أريد أن أستمتع بالحاضر وأتذوقه، لكن كيف ذلك دون ضغط مما سبق ومما هو آت؟ كيف نصوم عن التفكير في التفاهات وننزل أحمال تقطم ظهور إبداعنا؟

يقول د. محمد المخزنجي في كتابه “مداواة بلا أدوية” في فصل “العلاج بالصوم”، (والمقصود هنا الصوم عن الطعام) أن سقراط كان يصوم عشرة أيام كلما أراد حسم أمر ما، كما اعتاد المصريين القدماء صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وفق ما ذكره المؤخر هيرودوت، كما استطاعوا علاج بعض الأمراض به، وكذلك أبو قراط أبو الطب اليوناني الذي اعتاد علاج المرضى بالصوم، وكان يقول أن “كل إنسان منا في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نساعده حتى يؤدي عمله”.

عندما قرأت فصل العلاج بالصوم في الكتاب، جذبتني فكرة الصيام الروحي عن متاعب الحياة، فكما يتعب الجسد من الأكل المصنع والملوث، تتعب الروح من اللهاث والركض المتواصل وراء الواقع. نحن – ككتاب- تشغلنا متطلبات الحياة مثلما تشغل أي شخص عادي، لا نعيش بقوقعة زجاجية، الخبز لا يأتِ إن لم ندفع ثمنه، وهذا يجعلنا في صراع دائم طوال الوقت، هل نعمل لنشتري الخبز والكتب، أم نكتب جيدًا لعل الكتابة تعطينا بعض الربح المادي، فنشتري الخبز والكتب أيضًا؟ كتبنا خبزنا، وخبزنا كتبنا، لا نستطيع الاستغناء عن أي منهما، لأننا بشر. ولأن الأنظمة السياسية والاجتماعية لا تلتفت إلى أصحاب الأقلام، إلا إن سبّوها أو مدحوها، وما دون ذلك يُعتبر كتابة على الماء.

أتوقف أحيانًا عن الكتابة، وأتوقف كثيرًا عن الحياة. كلما ذهبت أو سافرت لمكان للعمل تخطفني الكتابة منه، نهاري للعمل وليلي للكتابة. وكلما ذهبت لمكان سألت نفسي، ماذا لو جئت هنا لأجل الكتابة فقط؟ ماذا لو عشت حياتي كما أريدها فعلا، أطبق أفكاري المجنونة، أتأمل لساعات طويلة، وأعتزل البشر وقتما أريد. الاندماج وسط البشر والأحداث طوال الوقت مرهق للناس العادية، ومرهق بشكل مضاعف للكتّاب، فهم كالأطفال حالمين بسندباد يأخذهم كل يوم إلى رحلة جديدة.

الحياة مثل الأم، توقظنا رغمًا عنا لنذهب إلى المدرسة. لطالما كرهت الذهاب الإجباري للمدرسة، لكننا بدونه لن نتعلم، ولطالما كرهت قطع أحلامي في منتصفها، ومنبه هاتفي الغبي، ولكني من دونه سأمضي أيامًا في النوم، لكن تلك العتمة والتشويش من التتابع الممل لروتين الحياة وإجبارها لنا، يوقعنا بالتأكيد في فخ قفلة الكاتب، التي يقول عنها المخزنجي “تلك الحالة التي يفقد فيها الكاتب قدرته علي الكتابة والرغبة فيها. يغدو الوجود لديها بلا معني. ويكون ضعيفا أضعف ما يكون .ويصير انزواؤه فيما يشبه الصندوق المحكم نوعا من الكُمُون الواقي. يتحاشي مواجهة العالم بمثل هذه الدرجة المبرحه من الضعف ويأمل أن تعود روحه إلى انتفاضها في مثل هذه السكينة والهدأة”.

كلما قرأت الجملة السابقة أدركت أن ما أبحث عنه هو السكينة والهدأة، ولا أجدهما إلا في صيام الروح، أو كما أحب أن أسميه صيام الكتابة، صيام من الواقع الذي يفوق قدرتنا وتحملنا كبشر، ننقي فيه أرواحنا كما ننقي أجسادنا، نصوم عن الضجيج المشتت، وعن الكتابة الرديئة، نصوم عن القبح لننتج الجمال، نصوم عن الواقع لنفطر على الخيال، نصوم قبل أن يصوم عنّا القلم. لا أعرف متى سيتحقق ذلك، لكني أطيّب خاطري بمقولة سائق التاكسي.

مقالات من نفس القسم