صوت الكاتب وصورته

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 هيثم الورداني

في كل مرة يوجه لي موقع "الكتابة" الدعوة لكي أشارك في أحد الملفات المخصصة للاحتفال بكاتب أو كاتبة من أصدقائي أقع في حيرة شديدة ولا أعرف كيف أرد. وها هو الأمر يتكرر اليوم بعد أن تلقيت دعوة للمشاركة في الملف المخصص لصديق عمري ياسر عبد اللطيف. فما فهمته هو أن وظيفة الملفات الأدبية هي الاحتفاء بكتاب مميزين قطعوا شوطا في حياتهم الأدبية، وأنتجوا عبره أعمالا هامة جديرة بالاهتمام والقراءة. وهي بلا شك لفتة نبيلة من الموقع لتسليط الضوء على كتاب تستحق كتابتهم المزيد والمزيد من الانتباه. لكن نحن الأصدقاء شهادتنا مجروحة دائما. وكلما زاد عمق صداقتنا كلما زاد عمق الجرح. إذا فكرنا في تكريم أصدقائنا ترانا نجري في الطرقات كمن يبحث على عجل عن هدية مناسبة بعد أن فاجأه عيد ميلاد صديقه. نبحث عن هدية تعكس على الأقل جزءا بسيطا من محبتنا العميقة وامتنانا اللانهائي لصداقتنا. هدية صغيرة الحجم معتبرة القيمة. فننتهي دوما بهدايا متواضعة، مرتبكة. ما أن يفُض غلافها أمام الجميع حتى تتضاءل قيمتها أمام أعيننا. هدايانا دائما قليلة الحيلة، لغة أخرى غير لغة صداقتنا، ثقيلة على ألسنتنا. صديقنا سيتفهم حيرتنا وسيشكرنا بامتنان، ومن لا يعرفوننا سيعتبرون أن هدايانا نفاق صريح. ولا شيء سينقذنا من الحرج البالغ. 

الكتابة عن الأصدقاء لا تثير الحرج فحسب ولكنها بالأحرى غير ممكنة. أولا لأن الكتابة لا تعمل هكذا. الكتابة، مثلها مثل الرغبة، علاقتها بموضوعها هي علاقة ملتبسة. فالكتابة تثيرها الحركة لا الموضوع. هذه الحركة تجذبها نحو مركز ما، فتتحسس الكتابة طريقها في دوائر تصغر شيئا فشيئا حتى تصل إلى المركز لتجده خاليا. موضوع الكتابة مخاتل دائما، ما أن نصل إليه حتى نجد أننا تجاوزناه. لا يمكن البدء به، ولكن يمكن خلال الكتابة اكتشافه والاقتراب منه، ثم فقده. ثانيا لأن تحويل الأصدقاء إلى موضوعات يعني الخروج من سيرورة الصداقة، وتجميدها من أجل عمل لقطة عامة لها، أو لقطة مقربة. لقطة تصلح للتدوير والهرس في ماكينة الصحافة. الصداقة ليست موضوعا ولكنها كائن حي لا يتوقف عن النمو والانتقال من طور إلى طور، يرافقنا ويعيش معنا حتى ونحن بعيدون كل البعد عن أصدقائنا. وككل الكائنات الحية الدائمة الحركة والتحول لا يمكن أسرها في لقطة واحدة دون اختزال الكثير منها. 

لكن الملف الأدبي يفعل شيئا آخر بجانب تكريم الكاتب والاحتفاء به، شيئ يبعث على الخوف، ولعل هذا هو المصدر الرئيسي لحيرتي، فهو يحول الكاتب إلى أيقونة. الملف الذي يربط عادة بين نماذج من الكتابة وشهادات شخصية عن الكاتب وصوره الشخصية، هذا الملف يقوم بما يشبه ضبط نسب الكتابة. فهو يحيل الأخيرة إلى ذات خلقتها شهادات المدعوين للمشاركة في الملف، ثم يكسو العظام لحما من خلال الصور الفوتوغرافية المصاحبة. وهكذا تتم “شخصنة” الكتابة، وإحاطة الكاتب بهالة مختلقة، فلا يعود جزءا من سيرورة أوسع هي سيرورة الكتابة، وإنما ذات تصدر عنها أعمال. الكاتب الذات هو شخصية اعتبارية تُنسب إليها مسؤولية الأعمال المكتوبة، بينما عمل الكتابة هو خلط مستمر للأنساب، وخلق لا ينقطع لتعدديات تستعصي على التوحيد القياسي.

صناعة أيقونات الوجوه ارتبطت عبر التاريخ بنوع خاص من السلطة، وهو السلطة الروحية. الوجوه التي تحملها الأيقونات هي وجوه تشع قداسة دائمة. أما الأيقونات الأدبية فهي مرتبطة بسلطة الأدب، أو بدولة الأدب. الوجوه التي تحملها هي لرجالات بلاط الدولة. وهذا هو المخيف في الأمر. فصنع الأيقونات يعطل سيرورة الكتابة التي يجد الكاتب نفسه وسطها. الأيقونة تصطاد وجها وتشحنه بالمعنى حتى يصبح رمزا، رمزا لفكرة أو لجيل أو لمكان، في حين تبقى وجوه الكاتب في هذه السيرورة هاربة متداخلة. الأيقونة تثبّت وتراكم لترفع القيمة، والسيرورة تتحرك وتغامر وتكتشف. الأولى تصنع صورة الكاتب، والثانية صوته.

 كثيرا ما توصف كتابة ياسر بأنها كتابة ذاتية. مادتها الأولية هي تاريخه الشخصي. لكن المثير في هذه الكتابة أنها رغم قربها من الذات لم تنزع يوما إلى صنع أيقونة أو اصطياد وجه بعينه للذات وتضخيمه. لم تتحول يوما إلى كتابة شخصية. لعل ما يحمي هذه الكتابة من الوقوع في هذا الفخ هو أن عين كتابة ياسر ليست مصوبة فقط نحو الذات وأطوارها، وإنما أيضا نحو اللغة التي ستعيش فيها خبرات تلك الذات. كتابة ياسر لا تهتم بضبط النسب، وإنما بضبط اللغة، واختيار درجتها لكي تشكل المجال اللغوي المناسب للخبرة. ونصوص ياسر، مهما اختلف جنسها الأدبي، تحركها حساسية لغوية مرهفة، قبل أن تحركها الأحداث أو الشخصيات. أتذكر أني قرأت لياسر قوله إنه يعتبر نفسه قاصا يقترف الشعر أحيانا. لكني أعتقد، رغم ثانوية هذه التصنيفات، أن ياسر شاعر أصيل في كل ما يكتبه. أليس الشعر في وجه من أوجهه هو تلك الحساسية الفائقة تجاه اللغة؟ ألا يقوم عمل الشاعر على فتح سيرورة اللغة على سيرورة التاريخ؟ التاريخ الشخصي الذي يسير في أفق التاريخ العام. ياسر رغم انكبابه على تاريخه الشخصي لا يصنع أيقونات، ولكنه يخلق مجالات حيوية لتعيش فيها التجارب والخبرات.

على مدار سنوات صداقتنا الطويلة كان صوت ياسر هو الصوت الأكثر تشجيعا على فعل التأمل. التأمل في أنقى صوره دون أن تخالطه أي منفعة معرفية أو مصلحة أيديولوجية. صوت ياسر لا يبحث عن الحقيقة أو الحكمة، لكنه يتهادى فكريا. لا يضع موضوعا تحت مجهر الفحص للإحاطة به، ولكنه يترك نفسه لتأخذ ذلك الموضوع في تمشية هادئة. هذا الصوت الذي كثيرا ما سمعته في حواراتنا ومراسلتنا الطويلة، ما زلت أسمعه أيضا داخلي بعد أن باعدت الجغرافيا فيما بيننا. ولعلي بدونه لم أكن لأستطيع أن أدون هذه الملاحظات في سياق ملف خاص به. بل لعل الصداقة مرتبطة بالصوت أكثر من ارتباطها بالوجه. صوت الصديق هو قوته الفعالة التي تسري في حياتنا محدثةً تأثيراتها المختلفة، بمعزل عن صورته، أو على الأقل بشكل مستقل عنها. مصدر قوة الصداقة، أو مجال فعلها، هو ذبذبات صوت الصديق، أما ملامح وجهه فهي تخص أطرافا أخرى كثيرة، كالعائلة، والدولة، والعمر.

ربما كانت هذه هي هديتي المتواضعة لياسر، الرغبة في إبقاء مساحات الصداقة التي تخصنا بعيدا عن الأضواء الساطعة، لكي تستمر في النمو والتطور كما يحلو لها. الرغبة في ألّا يتحول صديقي إلى أيقونة، على الأقل ليس الآن. الرغبة في أن يبقى دائما في حركة لا تنقطع، في بحث مستمر لا يحده اكتمال. أن تبقى كتابته مخلصة دوما كما هي لما تمدها به الحياة من تيارات. هذه الرغبة هي هديتي التي أعرف أنه ما أن يقرأها حتى أشعر بحرج شديد لأنها أقل بكثير من امتناني اللانهائي لصداقته.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم