صوت العاشق
صديقي العزيز..
هذه رسالتي الأولى والأخيرة إليك..
بعد الاطمئنان على أحوالك، سأخبرك ما لم تعرفه عني من قبل، ليس للشكوى، وإنما لدي أمر يهم العالم، وعليك أن تساعدني يا صديقي في نشر هذه الرسالة، ليس لديّ حل آخر. عليك أن تقرأ هذه الكلمات كمن عثر على زجاجة آتية من عمق المحيط بها قطعة ورق حملتها الأمواج، ربما يكون صاحبها غرق، وربما يكون في انتظار المساعدة.
لقد اخترتك تحديدًا لأني أعرفك جيدًا، وأعرف قلبك الطيب، التقينا مرّات من قبل، ولم أخبرك أبدًا بإعجابي بذكاءك الحاد واجتهادك وأمانتك، أعرف أيضًا أن هناك من تكالب عليك لتترك مهنتك بسبب تحقيقك عن مواد كيماوية تصيب الأطفال بالسرطان واتضح أنها مافيا من كبار رجال الدولة، وأعرف أنك الآن تعمل موظفًا للعلاقات العامة بمصنع ملابس. ليس لدي شخص آخر يقوم بهذه المهمة غيرك، خاصة عندما علمت أنك تركت المهنة التي جمعتنا سويًا، ولكني أعلم أن قصة مثل هذه قد تعود بك إلى صفوف المقدمة، كما كنت دومًا.
سأبدأ من هناك..
في الصغر، كان لدي أفكار غريبة أحتفظ بها مثلما تحتفظ الجدّات بصندوق عتيق في دولاب ملابسهن، به صور وخطابات غرامية عندما كانوا عشاقّا، الفرق أن أفكاري أحتفظ بها من طفولتي، وأصدق بها تماما كلما كبرت.
مثلا، كان لدي قناعة بأن مروحة السقف لا تعمل بالكهرباء، بل إن جيراننا في الطابق الأعلى يتفرغ منهم شخص ليلفها بيده طوال الوقت، والجيران الأعلى منهم يلفونها لهم، وهكذا. وأؤمن بأن هناك أرنبًا يسكن القمر، لو دققت في الرسوم على سطح القمر في ليلة صافية لرأيته، أرنبًا جميلًا يقف أمام إناء يطبخ فيه جزر الأمنيات، وهو جزر برتقالي عادي من الذي تأكله الأرانب، لكنه مُحمّل بأمنيات البشر، وعندما ينتهي الأرنب من طهي الجزر، يرسله للعشاق المنتظرين آخر الليل ليحقق أمانيهم. ولطالما انتظرت هذا الأرنب وناديته، وودت أن يأتي ويلعب معي، أو أن أصعد للقمر وأساعده في الطهي، ولكن جزرة أمنيتي لم تأت بعد.
عندما كنت صغيرة، كنت أشك أن زميلتي في الفصل ذات العيون الخضراء، ترى كل شيء أخضر، وذات العيون الزرقاء ترى كل شيء أزرق، وعجبت حينها من لون عيوني الأسود، الذي أرى به الأشياء ملونة وليست بلون واحد. ولطالما عاملتهم كما القطط، أو هكذا اعتقدت، أنهن يرون كل شيء كأفلام الكرتون غير المجسمة، يرون الأجسام مسطحة ثنائية الأبعاد وبلون واحد، وكثيرا ما شعرت بالأسف لذلك لأنهم لا يرون جمال الكوكب.
أصدّق تماما في الثقب الأسود في الفضاء، وفي طيران طبق طائر فضائي فوق رؤوسنا دون أن نراه يفتح بابه فجأة ليشفط شخص ما لأعلى، وأن القطط تتحول في الليل إلى كائنات مرعبة، أشباح أو عفاريت، وأن مواءها هو بكاء أطفال تحولوا إلى قطط عندما رأوها في الليل، لذلك كانت أمي تنصحني دائما بألا أهشّ قطة في الليل كي لا أتحول مثلهم. وبأن هناك أناس سُخطوا إلى حيوانات وكائنات، قد يكون نبات أو شجرة أو طائر، لذا عليّ أن أحافظ على الروح بكل شكل كانت.
لطالما حدثت الهدهد الذي وقف على حافة شرفتي لسنوات، وظننت أنه هارب من عهد نبي الله سليمان، وأنه يستطيع أن ينقل إليّ الأخبار إذا تصادقنا، لكنه لم يمنحني الفرصة، وأكملت أنا سعيي وراء الأخبار وصرت صحفية كما تعلم. وتابعت بشغف قصة الحب بين اليمامتين الجالستين أعلى شباك الجيران في مكان سريّ أراه من شرفتي.
آمنت أن سمكة الرنجة الذهبية هي سمكة مقدسة لدى قدماء المصريين استطاعت عبور الزمن، لذا يأكلونها في الأعياد والمناسبات تعبيرًا عن فرحتهم، وأن ما بباطنها من بطارخ هي مولود جديد، كان سينتج عنه سمكة ذهبية جديدة، لولا أن العلم يقول أن الأسماك لا تلد. وعندما حكت لي صديقة قديمة أنها تخاطب النمل، وأمرت النمل أمامي أن يتحرك في اتجاه معاكس وفعل، صدقت أن النمل يسمع وينفذ ما تقوله، لكنها أفصحت عن سخريتها مني سريعًا، ولم أفهم لماذا سخرت رغم أن نبي الله كان يسمع النمل وهو بشر مثلنا.
حتى عندما كبرت، وسمعت سخرية الناس من أسطورة "النعل المقلوب" الذي يجلب النحس لأهل الشارع، ظللت كلما رأيت نعلًا في شارعنا أو أي شارع آخر عدلته. وكلما سقط رمش من عيني أو شعرة من وجهي علمت بأن أحدًا يفكر فيّ في هذه اللحظة، أما إذا تحشرج الماء في حلقي فهناك من يقول شيئًا عني. وإذا رأيت غرابًا في الصباح اتخذت حذري طوال اليوم من أي شيء قد يحدث. والدم الذي يظهر عند مغيب الشمس متناثر من مقصلة الغروب التي تأخذ أرواحًا ترسلها للعالم الآخر مع موكب الشمس الراحلة.
لماذا أحكي لك هذا؟ لأني وليعلم الله أني لست ساذجة، ولكني أصدق أن الحكايات والأساطير ليست من فراغ، لطالما استهوتني وبحثت عن أصلها حتى أفهمها. لي وجهة نظر في ما يحدث، وأحب البحث عن أصل الحكاية، ربما كان هذا سبب دخولي هذا المجال، لطالما سعيت وراء الدهشة، لأن ما من دخان إلا وراءه نار. ولهذا، أريدك يا صديقي أن تصدقني عندما أقول لك أني كنت أستمع إلى غناء في الليل، ولا أعرف مصدره، فهو ليس بصوت مسجّل أو آت عن جهاز إليكتروني، أسمع صوت حنون وهادئ، يغني كما يغني السندباد على سجادته وهو طائر في السماء بمفرده، يغني بكلمات غير مفهومة، أكاد أجنّ وألتقط واحدة منها، يغني بلغة أشبه باللغة الإيرانية التي أسمعها في الأفلام، لكن غناؤه حزين للغاية، وبلا مصدر محدد.
تفقدت كل غرف المنزل، وسألت الجيران كلهم عما إذا كان أحدًا يغني في الليل أو يسمعون ما أسمع، ولم ألحّ في سؤالي عندما رأيت نظرات مرتابة في أعينهم، تشكك في قواي العقلية، وأنا أمامهم صحفية وصاحبة عقل رزينة، تخوض المخاطر وتكشف الفساد وتظهر في التليفزيون ويصدر لها كتب لا يشترونها ولكن تعطيها لهم أمي كهدية من باب التفاخر وكيد بناتهن. ولكني، وأقسم لك، أني وقعت في غرام الصوت، ذلك الصوت المبحوح بحة حزينة ومؤلمة ومليئة بالشجن، كبحة صوت العاشقين المشتاقين عندما يتهالكون بسبب قوة أشواقهم. أكاد أشعر بأوتار قلبي ترتعش مع هزة حبال صوته، ويكاد جماله يذهب بعقلي كما تذهب النداهة بعقول الفلاحين، عفوًا لم أخبرك بتصديقي لأسطورة النداهة، لقد رأيت فلاحة مجذوبة ندهتها النداهة، والله رأيتها، وكانت تسير في الشوارع على غير هدى وبدون اتجاه، قد تقول أنت أنها سيدة مجنونة فقدت عقلها وهذا مرض، ولكني متأكدة أن الأمراض لا تأتي بكل هذا السحر، والشغف، والغواية، والمتعة، التي تسلب العقل، وأنا يا صديقي كدت أن أفقد عقلي من حلاوة الصوت، وأردت أن أعرف مصدره.
أعترف أنه كان مزعجًا في البداية، وكنت أود التخلص منه لأنه يضعني في حالة حزينة تصل إلى حد البكاء الذي يلتهمني كما تفعل عجلات سيارة مسرعة مع أسفلت الطريق، ولكن، ربما التأقلم، أو لمحة الشجن الناعمة في الصوت، أو أن نقطة ضعفي هي رَجُل كَسَرَه الحب، تلك التي جعلتني ليلة بعد ليلة، من دراويشه.
لم يقتصر الأمر على الليل، فصرت أسمعه في النهار، في العمل، في خلفية أي حديث مع أي شخص، أسمع هذه الكلمات المبهمة والموسيقى والأنّات كأنها وساوس، أو استغاثة آتية من بعيد جدًا، حتى أني استعذت بالله منها مرارًا فلم تذهب، وقلت أنه ربما كان شيطان يداعبني أو يؤرقني ولكن بلا فائدة، كان الصوت أجمل من أن يكون شيطانيًا، وكانت غوايته في براءته وصدقه، ومدى الحس المرهف الذي يطل من بين الكلمات غير المفهومة.
فكرّت كثيرا في أن الأمر محض أسطورة من الأساطير التي أصدقها، هل هناك أساطير عن أشخاص مبحوحة أصواتهم يغنون في الليل؟ لم تصل إلى معلوماتي حتى الآن. وربما تقول أنت أنها محض هلاوس سمعية مرتبطة بمرض الفصام، أو كما يقول علماء التخاطر أنها نوع من الاستقبال الفائق للأصوات، والنداءات، تماما كما حلمت بغرق العبارة "السلام 98" وقت حدوثها بالضبط، وكما رأيت العديد من الحوادث والكوارث قبل وأثناء وقوعها. وإن صحّ ذلك فما تفسيرها وما أصلها؟ ولماذا يغني الصوت بكل هذا الحزن؟ لعلك تفهم الآن سبب وضعي لسمّاعات أذن طوال الوقت، لم أرغب في سماع الناس، وبدأت أختصر وأقتصر في الكلام على قدر ما أستطيع.
أصبحت كتومة وصامتة أغلب الوقت، ومن يسألني أرد باختصار- لعلك جربت هذا عندما حاولت محادثتي أكثر من مرة- ومن يطلب مني شيء أفعله له كي أفرغ لنفسي، زحام الشوارع وأبواق السيارات والبائعين وكل هذا بات يصيبني بعصبية حادة، أضع سماعات طوال الوقت، ولا أشغل أي شيء، أنتظر فقط أن تلتقط أذني هذا الصوت، لعله، في يوم ما، يتضح.
أهملت عملي، وعندما ساءت حالتي خلال ستة أشهر تركته، وبعدما كنت اسمًا لامعًا يبشر بالخير في عالم الصحافة، سخر مني أصحاب الأقلام المزيفة والمعتادون على تلويث الحقائق. وقالوا أني فقدت عقلي من فرط تصديقي مهنيتي ووهم "الإعلام النزيه"، وبحثي عن الشرف والأمانة أدى بي إلى ذلك لأني لا أسير مع التيار. انقطعت عن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وصرت مهووسة بهذا الصوت الآتي من حيث لا أدري.
انعزلت عن أسرتي وصرت أجلس في غرفتي لساعات طويلة ولا أخرج منها إلا لقضاء حاجة أو شرب الماء وتناول القليل من الطعام، ظنّ أهلي أن بي مرض، وجاءوا بطبيب للمنزل ليتفحص حالتي. قال لي الطبيب أن هناك غيوم على عقلي، وأن ظهري مُنحني كما لو كنت أحمل همّا ثقيلا على كتفيّ، وأن نظرات عيني الزائغة وشرودي المستمر يشير إلى أن هناك أمرًا عظيمًا يحتل تفكيري، وأن آلام مفاصلي وتصلّبها من الجلوس لساعات طويلة في برد الليل. وأخبرهم في النهاية أن لديّ سِرّ، وعليهم أن يكشفوه ويساعدوني قبل أن أتآكل تمامًا، وكتب لي روشتة علاج عبارة عن مسكن واسطوانات موسيقية لسليم سحاب!
ظن بي أهلي الظنون، من مشاكل بالعمل لعلاقة فاشلة لخسارة مال أو أصدقاء أو إحساس بالفشل أو الإدمان، لكن لم يكن هناك أعراض لأي مما سبق. لذا تعاملوا معي كأني مصابة بمسّ شيطاني، وقرأت أمي الكثير من الأذكار والأدعية والرقية الشرعية على رأسي، وكان صوت القرآن يملأ أركان بيتنا، وتذبح الذبائح وتذهب للمساجد، وكنت كما أنا، أقرأ كتب وأجلس في غرفتي جوار النافذة لأسمع الصوت، وأقضي الليل كله في شرفة غرفتي، أشرب قهوة وأنصت للصوت بكل حواسي حتى أغيب عن العالم وأنسى كل ما فيه، وأترنح مثل الدراويش الذين يسمعون الذِكر.
لكي أكون صريحة، لم أرض عن نفسي تماما في هذه الحالة، لقد خسرت كل شيء من أجل شيء لا أعرفه، ولهذا، وهبت حياتي لهذا الصوت، وقررت أن الحال لن يكون أسوأ من ذلك، فلم يعد لديّ ما أخسره، وعاهدت نفسي أنه مهما طال بي العمر سأكتشف مصدره، وإن كان الثمن حياتي التي أفسدها. نذرت نفسي طوال عمري لكشف المجهول مهما طال الوقت، وأحببت المعرفة حتى وإن كانت نهايتي على يدها، لذا شغلت الكمبيوتر فورًا، وغرقت في بحور الإنترنت، قرأت كل ما لديّ من كتب تتحدث عن الأساطير الإغريقية والفرعونية والهندية والصينية والإفريقية، وغُصت في كل ما وقع تحت يدي، وبِتُّ أسهر الليالي بين الكتب والكمبيوتر، وفي النهار أجلس على الأرض لساعات في وسط الغرفة بستائرها المغلقة، وأحاول تخيل مصدر الصوت، هل هو لرجل؟ لمراهق؟ لشاب محبوس؟ لمحارب؟ لمعتقل؟ أضع كل الاحتمالات وأركبها على نغمة الصوت وأرى إن كانت تليق أم لا. ولكن بلا نتيجة.
هل استسلمت يا صديقي؟ أبدًا والله، قررت البحث في الماضي. فتحت كل أرشيف عملي في الصحافة من أول تدريب وأول خطّ بالقلم، وحتى الكتابة والعمل في كبرى الجرائد والقنوات التليفزيونية، كل قصة ذكرها لي معلميني، كل مستشفى أو مدرسة أو شخص قابلته أو سألته عن رأيه في الشارع، كل مكالمة تليفونية لمصدر، وكل لقاء مع حارس عقار أو مع وزير، مرّت أمامي ملايين الصور، كنت راضية عن أغلبها، إلا واحدة، أتذكرها جيدًا وكنت أضعها في خططي المستقبلية أن أحاول فعل شيء مهما طال الوقت.
كنت أتدرب حينها في إحدى الصحف عندما زرت قرية في منطقة نائية للغاية، لم يكن لها مواصلات إلا عربة نصف نقل، تمشي في طريق زراعي طويل، على يمينه خضرة لا متناهية وعلى يساره قناة مياة صغيرة. أعطيت للسائق الذي كان شابًا نحيلًا شديد اسمرار البشرة، في جلباب أخضر باهت متسخ عشرة جنيهات كانت نصف ما أملك حينها من مصروف جيبي، وطلبت منه أن يأخذني للقرية، فانطلق وسألني في الطريق عمن أكون، فأخبرته أني صحفية وأني آتية لعمل موضوع يخدم أهل القرية الفقراء. وسألته عن اسمه فسكت قليلًا وقال "تامر" وهو لا يبدو "تامر" أبدًا من لمعة الكذب التي بدت في عينيه وضحكة الاستهزاء على وجهه.
أخذني تامر إلى القرية، وبمجرد وصولنا وقف أمام أحد البيوت، ودخل وعاد بعد دقائق ومعه عباءة سوداء، وفردها أمامي وكانت مقطوعة من الظهر قطع صغير. كنت أرتدي بنطلون جينز أزرق وبلوزة خضراء، فأعطاني العباءة وأخبرني أن كل بنات القرية يرتدين مثلها، وإذا خالفتهن في الملبس لن يتحدث معي أحد، ولن أخرج بسلام. ففعلت ما طلبه، ومشينا في الشمس الحارقة بين البيوت الطينية، وكانت عكس ما تخيلت، فقيرة وميّتة، ليست بيوت ريفية جميلة كما ظننت، الممرات الصغيرة بينها تكاد تكون خالية، لا أطفال يلعبون بها، ولا بائعين، ولا رجال يجلسون ويشربون الشيشة على المصطبة، ولا نساء يبعن الطماطم والخيار والفجل والجرجير والخسّ.. أين أهل القرية؟ دقّ تامر على أحد الأبواب وفتحت سيدة ترتدي جلباب كحلي مزركش بالأصفر، ومنديل ملون لرأسها، دعتنا للدخول فدخلنا. واستأذنت لعمل كوبين من الشاي، وتركت طفلًا صغيرًا يلعب بطبق بلاستيك أمامنا، يسعل ويكح كل قليل.
لاحظ تامر نظرتي للطفل، فقال "كل أطفال القرية يعانون من السرطان والالتهاب الرئوي وأمراض في الأمعاء والدم"، سألته عن السبب، فدخلت السيدة تحمل صينية فضيّة صغيرة عليها كوبين من الشاي لونه أحمر باهت، وبجانبهما كوب به سائل أصفر، فسألتها ما هذا؟ فقالت "ماء". فاستغربت وسألتها عن لونه الغريب، فأوضحت أن كل أهل القرية يشربون هذا الماء الملوث لأنه لا يوجد غيره، وأنهم يشترونه بالجالون، لأنه لا توجد أنابيب توصل المياه للقرية، ولكن عربة تمر كل صباح فيأخذ كل بيت جالون بنصف جنيه.
أصابتني الصدمة بالخرس، واقترح تامر أن نذهب لمكان آخر، فمررنا أمام بيت صغير يدخله أناس كثيرين ويبدو فيه حركة غير طبيعية، قال أنه مصنع لإعادة تدوير القماش "الذي يرميه أولاد الذوات من ملابس وأغطية وفرش مستعمل، كله يأتي إلى هنا لنعيد تصنيعه وعمل سجّاد ومنتجات أخرى". وهناك قابلنا أحد معارف تامر، الذي حسب أني إحدى قريباته من قرية أخرى، ودعانا إلى حفل كتب كتاب إحدى بنات المصنع في المسجد بعد صلاة العصر.
استكملنا جولتنا في القرية صامتين، وسألت تامر عن الخرافات التي يصدق فيها أهل القرية، فقال بالطبع النداهة، فهي أسطورة ريفية أصيلة، وكذلك "خيال المآتة" الخشبي الذي يقف فاردًا ذراعاته بين الحقول، يصدقون بأنه يتحول ليلا إلى رجل حقيقي من لحم ودم، أما الأسطورة المرتبطة أكثر بالقرية فهم يرون أشباحا يشبهون أهل القرية الذين غادروها لأسباب كثيرة، يجلسون على شاطئ الترعة أو يتجولون في الحقول، ويعتقدون أنهم كانوا واقعين في حب بنات من القرية ولم يستطيعوا الزواج منهن، فتحولن إلى أشباح. ولكل حبيبة شبح يغني لها أغنيتها. واستكمل "البنات هنا إن كان حظها جيد يتزوجن أصحاب المصانع وأبناءهن، أو يوردوهن لخارج القرية للعمل كخادمات، أو يتزوجن ثري عربي لأسبوع أو اثنين، أما سيئات الحظ فيتزوجن خريجي السجون والهاربين منها، نسيت أن أخبرك أن المنطقة مليئة بهم كونها بعيدة عن الأنظار".
حضرنا مراسم كتب الكتاب بعد العصر، ورأيت العروس النحيلة ترتدي فستانًا ورديًا واسعًا ومتهدل الأكمام، تساقطت منه اللالئ والزركشات وبقي منها القليل، ووضعت طرحة بيضاء على رأسها مع أحمر شفاه ثقيل وكحل قويّ حول العينين الشاردة. وسط تصفيق أهلها وصديقاتها، سمعت صوت نغم حزين فاستغربته، وخرجت لأرى ما يحدث. كان أمام المسجد ممر مياه صغير جلس على حافته شاب صاحب الصوت ومعه ناي، قال لي تامر أنه حبيب هذه الفتاة منذ أعوام، لكنه ككل شباب القرية، فقير ومريض بالسرطان وأمراض أخرى، واحتمالية حياته وتحسن ظروف حياته ضئيلة للغاية، واعتاد أهل القرية على ذلك، مع كل زواج لفتاة يجلس حبيبها خارج الفرح، يبكيها، وينشد فيها أغاني فلكلورية من أغانيهم، ويعزف لها لحنًا على الناي، بلهجتهم الريفية، يقولون أنها تحمي الحبيبة أينما ذهبت، يتركوه هكذا إما ينساها أو يفقد عقله، أو يغادر القرية بلا رجعة.
اقتربت من الشاب وربتّ على كتفه، فنظر إليَّ بعينين دامعتين، وسأل تامر عني، فقال له أني ضيفة من ضيوف القرية وأني أعمل صحفية، فهبّ من مكانه وأمسك ذراعي وقال "ساعديني.. أرجوكِ". فسألته "كيف؟" قال "أريد فرصة عمل.. أريد إنقاذها، أريد أن أدخل مستشفى وأتعالج وأجد عمل أكسب منه قوت يومي ليرضى بي أهل حبيبتي، أرجوك، سأكون خادمك طوال العمر، سأفعل أي شيء تريدين، لا تتركيها تتزوج، أرجوكِ". "لكنها تتزوج الآن بالفعل!" قلت، فأخبرني أنه لازال هناك وقت حتى موعد الزفاف، وأنه يمكنني مساعدته. وعدته بالمحاولة وأعطيته رقم هاتفي، فقال أنه لا يمتلك هاتف ولا يوجد إلا تليفون واحد في القرية كلها، وأنني إذا كنت جادة في مساعدته عليّ أن أعود للقرية قبل شهر.
عدت مع تامر، وكنت أحدق في قناة المياه والطريق الزراعي فسألني عما أفكر فيه، فقلت أفكر في طريقة لمساعدة أهل القرية من كل شيء. فضحك وقال "أتعلمين، لستِ أول صحفية تزور المكان، لقد زار المكان صحفيين كُثُر من قبل، وما أنت فيه هو صدمة الزيارة الأولى فقط، ولكن، بمجرد عودتك لبيتك وحياتك، سيزول كل شيء"، فقلت بسرعة "لا.. لن أنسى" فضحك وقال "ستفعلين". فصمت حتى وصلنا ونزلت من السيارة وأعطيته الجنيهات العشرة الباقية في جيبي، فأخذها واستأذن ومشى.
سقطت قطرة على يدي فانتبهت أني أبكي، تذكرت كل صور هذه الواقعة وأنا جالسة في قلب غرفتي أحاول جذب أي ذكرى من الماضي تفسر لي هذا الصوت، لقد كان صوت الشاب العاشق، الذي وعدته بالمساعدة، كان هذا صوته وهو جالس على حافة الماء ينتظر أي أمل ويغني تعويذة تحمي حبيبته، لقد كنت الأمل بالنسبة له في لحظة، وخذلته دون أن أدرك فداحة ما فعلت. سلّمت الموضوع للجريدة وكنت في غاية التأثر، وفي اليوم التالي ذهبت للجريدة وبمجرد دخولي سألت السكرتير عن عدد اليوم، فأعطاني إياه وبحثت فيه بسرعة عن موضوعي، ووجدته في الصفحة السادسة، ولكنه كان دون اسم، وكان عكس ما كتبته تمامًا، كان موضوعًا عن قرية نموذجية ريفية تعيش في سلام وهدوء بعيد عن صخب العاصمة، مرفقا به تفاصيل كاذبة عن الصحة وسعادة أهل القرية وتأمينها. فغضبت ودخلت لرئيس التحرير ورميت الصحيفة في وجهه، كنت أشعر بغليان دمي، تحدثت وأنا غاضبة ومغتاظة وأبكي عن تدمير أحلام الناس في قرية فقيرة، وعن مرضى مساكين أصبح خطّ الفقر لهم حلم، ردّ رئيس التحرير باقتضاب أن هذا الموضوع لن يحقق أرباحًا بنشره، وأن غضبي أنا أهون بالطبع، وعليّ أن أختار الموضوعات "بعناية" كي لا أخسر عملي ومهنتي طول العمر. فمزقت أوراق الجريدة ونثرتها في الهواء، وما سقط منها على الأرض دسته بقدمي، وسببته بأمه وخرجت.
شغلني بعدها البحث عن عمل أو تدريب، وأثبت بها نفسي وعدت للمجال بقوة وخبرة، ولم أتذكر موضوع القرية وتامر إلا اليوم. وفكرّت أن ما حصل لي في الشهور الأخيرة هو ذنب خذلان العاشق الذي استغاث بي، والذي لا أعرف مصيره حتى الآن، ولا أعرف حتى اسمه، ولا أعرف كيف أصل إليه وإلى تامر بعد عشر سنوات.
في صباح اليوم التالي، كتبت آخر قصة صحفية في حياتي، وأرسلتها بالبريد الإليكتروني إلى كل الزملاء السابقين، الأصدقاء والحاقدين، وكل الصحف والوكالات التي عملت بها، وكل من خطر ببالي- أرسلت لك نسخة حينها على بريدك- كانت قصة "قرية العاشقين". وخرجت لأول مرة من شهور من البيت، وذهبت للبنك وسحبت كل أموالي التي جمعتها خلال سنوات، وذهبت لإحدى الجمعيات الخيرية وطلبت منها أن تنشئ وقفًا في هذه القرية لعلاج السرطان، وأخبرتهم عن مشكلة المياه فقالوا سيتفقدونها إذا كانت لاتزال موجودة فسيقومون بتوصيل مياه شرب نظيفة للقرية في أسرع وقت ممكن.
بعد أسبوعين، استجمعت شجاعتي وذهبت للقرية لأشهد بداية بناء الوقف، ذهبت متخفية في عباءة كما جئت أول مرة، وعندما وصلت وجدت القرية قد ازدادت فقرًا وموتًا، صحيح أنه دخلت بعض الهواتف النقالة وأطباق استقبال البث على أسطح البيوت، لكن الأهالي لازالوا مرضى. مشيت لقناة المياه أمام المسجد، فلم أجد أحدًا يجلس عندها، فجلست مكان الشاب الذي رأيته قبل أعوام، أفكر فيما جرى له، وهل تحوّل إلى شبح يغني لحبيبته المفقودة، وهل ظهر لي تحديدا لكي أساعده في استعادتها، أم لنسيانها، أو أنه فقط ضميري يؤنبني على ما مضى. فكرت وأنا أنظر لمياه الترعة الخضراء من أثر الشجر المحيط بها، وفي الأغنية الجميلة الحزينة التي باتت صديقتي.
كتبت لك يا صديقي، وأنا أعلم أنك تركت المهنة المتعبة، ولكن أحببت أن أعرفكما على بعض، لكي تعلم أن ذنب الخذلان سيلاحقك طوال عمرك إن ارتكبته، وأنت صحفي ممتاز وتستطيع أن تخدم العالم بعملك، وأن تنقذ الكثيرين من هذا المصير، على العالم أن يكون رحيمًا بالعشاق، وعلينا أن ندق الأجراس قبل أن يدهس المساكين في طريقه، كي لا يتحولوا إلى أشباح حزينة تتجول في الليل وتغني على ناي، العالم مليء بمثل هؤلاء، أتمنى يا صديقي أن يصلك الصوت، وأن تقع في غرامه مثلما فعلت، أنا أثق أنك ستفعل شيئًا، عد يا صديقي لساحة القتال التي تنتظر واحدًا من أفضل فرسانها، فربما تربتّ أفعالنا على كتف صاحب الناي الحزين وأمثاله، أينما كانوا.