حاورته: الزهراء عبدالوهاب
في دورته ال54 والتي أٌقيمت في الفترة من 25 يناير وحتى 6 فبراير 2023، حصل المترجم صلاح هلال المدرس المساعد بقسم اللغة الألمانية بكلية التربية بجامعة عين شمس على جائزة أفضل كتاب مترجم في مسابقة الترجمة عن كتابه ازدواجية الدين لمؤلفه الألماني يان أسمان، والذي يدور في الأساس حول فكرة وجود جانبين من الدين أحدهما معلن والآخر في الباطن، ولمزيد من التفاصيل عن مفهوم ازدواجية الدين أجرينا هذا الحوار مع دكتور صلاح هلال، وإلى نص الحوار:
- هناك علاقة وطيدة بين الأدب الألماني والأدب المصري.. فهل تحدثنا عن ذلك؟
بدايةً أشكر حضرتك على هذا الحوار!
بالنسبة للعلاقة بين الأدبين العربي والألماني فأعتقد أنها مازالت في مرحلة البدايات، رغم كل ما نعرفه عن تأثر جوته بالأدب والفكر العربي، وصولا لحقيقة أن ثلاثية الكاتب الألماني الشهير توماس مان “بودينبروك” كان لها عظيم الأثر على الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وأنها كانت مصدرا لإلهامه بكتابة ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين وقصر الشوق والسكرية”، إلا أننا حتى اليوم لا يمكن أن نتكلم عن تأثير متبادل حقيقي بين الأدب الألماني والعربي. يحتاج هذا الأمر إلى طفرة كبيرة في الترجمة من وإلى العربية، وانشغال مُكثف من قِبل النُقاد وعلماء الأدب، وكذلك وسائل الإعلام بأدب الطرف الآخر.
- لماذا يهتم المترجمون بالأدب الألماني؟ وهل مقدار ما يترجم ملائم لما يتم نشره؟
منذ فترة الستينات وهناك اهتمام بترجمة الأدب الألماني، وذلك بسبب الانتشار العالمي لمدارس أدبية ومدرسة التحليل النفسي الألمانية مع أسماء كبيرة مثل بيرتولت بريشت، أو طبعا سيجموند فرويد، وكذلك الحركة الطلابية وتأثيرها على تيارات فكرية كثيرة حول العالم. كما شهدت حركة ترجمة الأدب الألماني طفرة جديدة في العقدين الماضيين من خلال برامج لدعم الترجمة إلى لغات كثيرة، منها العربية، أطلقتها مؤسسات ألمانية مثل معهد جوته، وكان أهم ما قدمته تلك المشاريع الألمانية هو الدعم المالي والفني لعملية الترجمة. وعلى الجانب الآخر نجد نشاطًا مشكورًا من قِبل مؤسسات ومبادرات مصرية لدعم الترجمة كالتي يقوم بها المركز القومي للترجمة. رغم ذلك لا يتناسب عدد ما يتم ترجمته مع ما يتم نشره في ألمانيا أو الدول الناطقة بالألمانية تمامًا. ويكفي أن نذكر حقيقة مؤلمة، وهي أن ما يتم ترجمته كل عام في دولة مثل إيطاليا يفوق عدده ما يتم ترجمته في العالم العربي كله!
- في عملية الترجمة.. كيف يتم اختيار الكتب؟ وما هي معايير الاختيار؟
اختيار الكتب إما يكون عن طريق اقتراح من المترجم، أو من دار النشر، أو من خلال مشاريع دعم الترجمة الألمانية. فعلى مدار سنوات كان معهد جوته ينشر بشكل دوري ترشيحات لكتب أدبية وغير أدبية، وكان يقوم أيضًا بدعم ترجمتها ماليًا.
هناك معايير متعددة لاختيار الأعمال التي يتم ترجمتها، مثل مدى أهميتها وشهرتها، وبالتأكيد مدى ملاءمتها للسوق العربية، ومدى إمكانية تسويقها. كما يلعب حجم الكتاب دورًا مهمًا، لأنه يؤثر تأثيرًا مباشرًا على تكاليف ترجمته ونشره، وبالتالي ينعكس على سعره وإمكانية تسويقه. وهذا يتسبب بكل أسف في العزوف عن ترجمة كتب مهمة جدًا للمكتبة العربية، فقط لأسباب تتعلق بالتكاليف! لذلك نحتاج في هذا الصدد إلى إعادة النظر في عملية دعم الترجمة والمترجمين ودور النشر، دعمًا حقيقًا ومستمرًا.
- قمت بترجمة العديد من النصوص.. فلماذا انصب اهتمامك على علم النفس؟
الحمد لله لقد ترجمت بالفعل حتى الآن أكثر من أربعين كتابًا، فضًا عن آلاف المقالات والنصوص الأدبية والعلمية والسياسية القصيرة الأخرى. وقد تنوع إنتاجي في مجال الترجمة بين الأدب، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة، والفلسفة، وكتب الأطفال، وغيرها. ولدي اهتمام كبير بعلم النفس والعلوم الاجتماعية والفلسفة لأهميتها الكبيرة في حياتنا، ولأن الثقافة الألمانية تتميز في هذه المجالات بصورة كبيرة جدًا، فكما نعرف جميعًا الثقافة الألمانية هي المحرك الرئيس للعلوم الإنسانية حول العالم منذ عصر التنوير، وفلسفات كانط وهايدجر ونيتشه وصولا إلى مدارس علم النفس، مثل الجشتالت، والتحليل النفسي، أفضل شاهد على ذلك. وربما يجب هنا التنويه إلى نقطة غاية في الأهمية، لفتت انتباهي عندما شرُفتُ بترجمة كتاب ماكس فيبر “مفاهيم أساسية في علم الاجتماع”، ألا وهي: معظم ما وصلنا من ترجمة لمؤلفات ألمانية في مجالات العلوم الإنسانية كان عن طريق لُغة وسيطة، ولم يكُن عن طريق مباشر؛ أي لم تكن ترجمات عن الأصل الألماني، وإنما عن ترجمة إنجليزية أو فرنسية. ووجود ترجمة وسيطة يعني دائمًا زيادة كبيرة في نسبة الفاقد، طبعًا مع كامل احترامي لكل الزملاء الذين أثروا المكتبة العربية بتلك الكتب المهمة.
- ترجمت العديد من كتب الأطفال.. فهل تحدثنا عن ذلك؟ وأزمة أدب الطفل في مصر؟
لا أريد الحديث عن “أزمة أدب الطفل في مصر”، لأن الأزمة أكبر من أن نقصرها على لون من ألوان الأدب أو الثقافة، حتى وإن كان هذا اللون أكثر تضررًا من غيره. هناك أزمة ثقافية كبيرة بلا شك، ولا يوجد دعم مالي كافي لا للإنتاج الفكري ولا لترجمته من اللغات الأخرى للعربية أو العكس. يحتاج الأمر إلى مشروع قومي كبير، وخصوصًا لدعم إنتاج كتب علمية وأدبية للطفل عربي بأقلام عربية تدعم هويته وقيمه، وتقدم له الحضارة والعلوم من منظور عربي، دون انعزال عن العالم، أو انغلاق على الذات. أريد أن أذكر هنا مثالًا ربما يوضح ما أرمي إليه: كنت أبحث في المكتبات الكبيرة ذات مرة عن كتاب للأطفال لأهديه لابن صديق لي، ووجدت عدة كتب مترجمة عن الطيران واختراع الطائرات، ولم أجد في واحدٍ منها كلمة واحدة عن عباس بن فرناس! ثم بحثت بعد ذلك عن مواضيع أخرى وكانت النتيجة مشابهة! ثم نشكو بعد ذلك من فقدان الأجيال الجديدة للهوية، ونشكو من “عقدة الخواجة”! نحتاج لكُتاب منصفين وكتابات دقيقة وشاملة ومناسبة للطفل شكلًا ومضمونًا.
- في كتاب “ازدواجية الدين”، الذي فُزت به بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الرابعة والخمسين، ما هو المقصود بازدواجية الدين؟
هناك تعريفات مختلفة لهذا المفهوم الإشكالي، ولكنها تتفق في مجملها بدرجة كبيرة في فكرة أن الدين له جانبان، جانب ظاهر وآخر باطن، جانب مُعلن وآخر سِرّي، جانب للعامة وآخر لنُخبة مُعينة. ويرى بعض المفكرين أن كل الأديان القديمة كانت تقف بشكل أو بآخر على أرضيَّةٍ مُزدَوَجة؛ إذ كان لها جانب خارجي في صورة الدين الرسمي، وجانب داخلي في صورة أسرار، ونموذج تلك الأديان المزدوجة هو دين المصريين القدماء، الذي كان يبني حتى على الازدواجية في الكتابة، من خلال وجود كتابة للعامة وكتابة أخرى بحروف لا يعرفها غير الكهنة.
كما يعالج الكتاب نظريات كثيرة لفهم الدين والإله، والتي يُفرق بعضها بين إله الفلاسفة، وإله الآباء والعقيدة، بين دين العقل ودين الوحي. وينطلق الكتاب إلى معالجة أشكال مختلفة من الازدواجية التي أثرت على التطور الفكري والسياسي وخصوصًا بدايةً من القرن الثامن عشر. كما يوضح الكتاب العلاقة الجدلية (الديلاكتيكية) بين التنوير والسِّرِّ في صورةٍ تُحقِّق ازدواجية الدين في شكلٍ مُؤسَّسي في ماسونية أواخر القرن الثامن عشر.
وصولا إلى التوجه الكوزموبوليتاني، الذي لا يكون للدين مكانٌ فيه إلا بمفهوم ازدواج الدين، وأن يرى كل دين نفسه واحدًا بين كثيرين، وينظر إلى نفسه بعيون الآخرين، “ولا ينسى أن الرَّبَّ الخَفيَّ أو الحقيقة الخَفيَّة هما بمثابة نقطة التلاشي التي تجتمع عندها جميع الأديان”، حسب قول يان أسمان. ويُفرق المفهوم المزدوج للدين بين الأديان الخاصَّة ودين الحقيقة العالمي المحتَجِب الذي تتمُّ مُمارَسَتُه فرديًّا. وهذا الشكل من الدين المزدوج يمكن ربطه بالمفاهيم الحديثة للعضوية المزدوجة (بين الخاص والعام)، وهو ما ازداد وضوحًا في ظل العولمة.
ويوضح لنا الكتاب آراء عدد كبير من اهم المفكرين والفلاسفة في قضية “ازدواج الدين”، مثل ليسينج، ومندلسون، ومندلسون، الذي سمّى الدين العام بـ”دين البَشريَّة”، والذي على خلاف الأديان الخاصة، لا يكون أبدًا مُؤسَّساتي، بل يظل دائمًا مسألةً فرديَّةً؛ أو رؤية المهاتما غاندي القريبة للفكر الماسوني.
ويختتم يان أسمان معالجته لهذا الموضوع المهم والشائق جدًا بإثبات أن تسييس الدين قد تفاقم في العقود الثلاثة الأخيرة؛ “لأنه من الواضح أن ما يُسمَّى عودة الدين تتمثَّل أساسًا في الدعوات السياسية التي خُلِقَت بالنيابة عنه، بينما جعلت من الضروري بمكانٍ أن تُطوِّر الأديانُ منظورًا كوزموبوليتانيًّا، وأن تتعلَّم ممارسة القليل من ضبط النفس”.
- ذكرت في إجابتك السابقة عدة مفاهيم؛ مثل دين العقل ودين الوحي، فما المقصود بها؟ أو دين البشرية في مقابل الأديان الخاصة؟ وكيف يمكن أن يختلف مفهوم الدين من جماعة لأخرى؟
هناك تفسيرات وتعريفات كثيرة لمفهوم الإله والدين على مر التاريخ، تبعًا للمُنطلق الثقافي، أو في بعض الأحيان تبعًا للأهداف السياسية المرتبطة بتلك التعريفات. فعلى سبيل المثال ميّز كثير من المفكرين بين رب الآباء ودين الوحي بما لهما من مرجعية خارجية، جعلت البشر يعرفونهما من خلال وحي ورُسُل؛ في حين أن إله الفلاسفة ودين الفلاسفة، كما يقول الاسم، مصدرهما هو الفِكر والتحليل، ورؤية فلسفية. وقد تطور من تلك الأفكار مفهوم “دين البشرية”، الذي يُشبه المبادئ الأخلاقية العامة لجميع البشر، والذي يقف في مقابل “الأديان الخاصة” (كاليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبوذية، وغيرها)، والتي “يجب” ألا تتعارض مع “دين البشرية”. ودين البشرية يحتاج إلى أرضية عامة وشاملة، مهّدت لها فكرة “العولمة” (الكوزموبوليتانية). ويمكن أن نفهم من خلال ذلك التوضيح المختصر علاقة العولمة بالأديان الخاصة.
- لقد ذكرت أنه من الممكن تسييس الدين… فكيف يمكن أن تطوع طبقة اجتماعية معينة الدين لخدمة مصالحها؟
أما عن موضوع تسييس الدين فله وجهان أساسيان، إما تسييس دين بعينه، من خلال التلاعب بتفسير نصوصه وأحكامه لخدمة أهداف معينة، وهو ما قد تقوم به جماعات متطرفة أو إرهابية؛ أو تسييس فكرة الدين ككل، مثل ما عرضناه عن دفع دين بأكمله (أو أديان) إلى زاوية ضيقة، تُسمى بالمجال الخاص، مع فرض قيود عليه، تأتي أحيانًا في صورة مبادئ وقوانين إنسانية عامة، قد تُخرجه (أي ذلك الدين) عن طبيعته وأهدافه وحقيقته، كي يتوافق مع الدين العام، دين البشرية! وهو ما يحدث منذ عقود على صعيد عالمي، وتقف وراءه مؤسسات عملاقة، وجماعات ضغط ذات نفوذ وانتشار عالميين.
- من خلال عملك على كتاب ازدواجية الدين أين يقف المجتمع المصري من فكرة الكتاب؟
يقدم كتاب “ازدواجية الدين” عرضًا تحليليًا لهذه القضايا، ويحتاج الأمر منا إلى متخصصين في مجالات الدين، والسياسة، والعلوم الإنسانية، لينشغلوا بدراسة تلك القضية بهدف الوصول إلى تشخيصٍ علمي دقيق للوضع فيما يتعلق بثقافتنا الخاصة، وتحديد أنجع الطرق اللازمة لإنقاذ والحفاظ على الهوية الدينية والثقافية، دون التخلّف عن ركب الحضارة.
يستحق الكتاب أن ينشغل به المتخصصون ويدخلون معه في جدلٍ علمي حقيقي، لأن هذا بالتأكيد سيكون له مردود جيد على كلا الطرفين وعلى حوار الثقافات، الذي يجب أن يقوم على فهم راسخ للنفس وللآخر.
- من خلال مسيرتك المهنية.. ما هي أبرز العقبات التي تواجهك كمترجم؟
من أكبر العقبات التي تواجه المترجمين في مصر هي عدم التفرغ للترجمة، وعدم وجود سياقات منظمة تجمعهم، فضلًا عن عدم وجود دورات تدريبية متخصصة لرفع كفاءة المترجمين. كما لا يتسنى لنا السفر والمشاركة في الفعاليات الدولية الخاصة بالترجمة، أو المشاركة في معارض الكتاب الدولية، إلا نادرًا جدًا!
ومن العقبات المهنية الأخرى، عدم اهتمام كثير من دور النشر بعمليتَي التحرير والمراجعة اللغوية للكتب قبل إصدارها. وكذلك تدخل بعضها في تحديد وتغيير عناوين بعض الكتب، لأغراض تسويقية، مما قد يُخرجها في بعض الأحيان تمامًا عن مضمونها الأصلي.
وبالتأكيد العقبات التي تواجه دور النشر بسبب الأزمة الاقتصادية تنعكس بقوة على المترجم، بل وعلى الحياة الثقافية كلها.
رغم ذلك توجد محاولات جادة سواء فردية أو من قِبل بعض مؤسسات الدولة لدعم الحركة الثقافية، ولاسيما الترجمة، ولكننا نحتاج إلى تضافر تلك الجهود في صورة مشروع ثقافي قومي ضخم، يتمتع بالدعم السياسي والمالي المناسب.
صلاح هلال