صدام الحضارات …ما الذي تبقى من النظرية؟

ناصر السيد النور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر السيد النور*

ما الذي تبقى بعد مضي من ثلاث عقود على ظهور أطروحة “صدام الحضارات” بكل ما أثارته حينها من جدل تمدَّد عبر السجالات والمناقشات على المجال السياسي والثقافي والأكاديمي عبر قارات العالم، وما روّج له الإعلام الأميركي في نهايات القرن الماضي، ولم تزل أصداؤها تتردد بين حين وآخر. ونظرية صدام الحضارات مثلها مثل تصورات عديدة للتفسير والتحليل والتنبؤ بمجريات التاريخ ففي كل قرن، تظهر ثمة نهاية رؤيوية Apocalypse كارثية حتمية الحدوث. ويقوم بهذه القراءات أو التصورات عادة الكتاب المنظرون والمؤرخون ومخططو السياسة والسياسات والمحللون الاقتصاديون ورجال دِّين؛ وبالطبع قارئ المستقبل. ربما لم تشغل العالم خلال العقود الثلاث الماضية فكرة كصراع الحضارات التي طورَّها عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون من مقالة على صفحات على مجلة فورين أفيرز الأميركية 1993 الشهيرة إلى كتاب ” صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي 1996 عقب وتفكك الاتحاد السوفيتية ومنظومة دوله الشرقية الاشتراكية في مطلع تسعينيات القرن المنصرم. وتبع ذلك موجة صاخبة بانتصار النموذج الليبيرالي الديمقراطي وسيادته عالمياً دون منافس Undisputed وبلا منازع له على الأقل في المستقبل المنظور. وهنتنغتون الأستاذ الجامعي وعالم سياسة أميركي ومستشاراً لدوائر صنع القرار في السياسة الأميركية على مدى عقود، وله العديد من المؤلفات في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.  

ورافق ظهور نظرية “صدام الحضارات” على نفس المستوى من الظهور والفرقعة الإعلامية قبل الثقافية نظرية ” نهاية التاريخ للأميركي فرانسيس فكوياكما. وكلا الفكرتين (صراع الحضارات، ونهاية التاريخ) برّزتا في واقع سياسي دولي متحول ومضطرب بفعل الهزَّات العنيفة التي قوضت من بنية منظومات ايدولوجية وصعود قوى أو الخشية من صعودها في أماكن أخرى بعيداً عن سياقها الغربي التقليدي. كالصين أو الإسلام أو وكل ما هو خارج نطاق الحضارة والثقافة الغربية المهيمنة. وكل من الكتابين اتخذا عنواناً فرعياً بين إعادة تشكل النظام العالمي (صدام الحضارات) الإنسان الأخير (نهاية التاريخ).

وبدا أن أطروحتين “صدام الحضارات” و “نهاية التاريخ” تماثلان (الانفجار الكوني العظيم) بين بداية صراع بين الحضارات ونهاية التاريخ في سيِّاق الفوضى الخلاقة أو الشكل الذي ستتخذه الصراعات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. موظفاً هنتنغتون عناصر الحضارات الإنسانية في بعدها الثقافي والديني كعوامل للصدام أكثر من أدوات الصراع التقليدية كالأيدولوجيات والتنافس الاقتصادي مع أن الاختلافات الحضارية وتنوعها الثقافي في حده الأدنى لا تقود بالضرورة إلى صراع لا بالمنظور الغربي للصراع والتنافس.

ومن الصعب وضع نظرية “صدام الحضارات” ضمن دراسات الحضارات أو الدراسات فلسفة التاريخ رغم توظيفه المنهجي لغرض البحث العلمي من دراسات وتحليلات المؤرخين وعلماء الاجتماع والحضارات مثل ارنولد توينبي في دراسته عن الحضارات وما خلص اليه وفق فرضية قيام وانحلال الحضارات من خلال الاستجابة والتحدي أو الفيلسوف المسلم العربي أبن خلدون في تفسيره المادي لحركة التاريخ في نشوء وانحلال الدولة؛ أو تفسيراً مادياً للتاريخ بحراكه الاجتماعي وعوامل ضعف الدول كما في منظور ابن خلدون الإنساني؛ أو مبحثاً فلسفياً لمسار التاريخ كالفيلسوف الألماني هيجل في ” فلسفة  التاريخ” أو مسحاً تاريخا لقصة الحضارة كما لدى الأميركي وِل ديورانت في ” قصة الحضارة” أو انذاراً بسقوط الحضارة الغربية لدى أوسفالد شبينغلر في “سقوط الحضارة الغربية. ولكن نظرية “صدام الحضارات” مركباً مزيجاً من التحليل السياسي والتاريخي والاقتصادي تتساند إلى حقائق تاريخية وافتراضية احتفت بموقف تاريخي تحيزي وهو الصعود الأحادي للحضارة الغربية.

ومن ثُمَّ مضى العالم على هامش صراع الحضارات تكتسحه ظاهرة العولمة وثورة معلومات تقنية تزيل من حدوده التقليدية، وتسطِّح جغرافيته بتعبير الصحفي الأميركي توماس فرديمان وتزداد الصين في نسختها الاقتصادية الجديدة قوة اقتصادية منافسة لتحتل المرتبة الثانية عالمياً في وجه الاقتصاديات الديمقراطيات الصناعية. وبالمجمل عرفت الحضارات أو شهدت في مسارها التصاعد التاريخي الصعود والانهيار كبرهان تؤيده وقائع التأريخ وتطور الأمم والذي يشكل بدوره البعد الثقافي للحضارة دون أن تصطدم باستخدام أدوات الصراع التقليدية من حروب وابادة. ففي تجربة الاستعمار وهي تجربة غربية علمت على تعميق الأثر الثقافي للمستعمر دون أن تفلح في انتزاع الشعوب من ثقافاتها ومعتقداتها الدينية وإن امتد أثرها عميقاً في ذاكرة تلك الشعوب.

وشكلت أطروحة الكتاب حين نشرها جدلاً شمل لفيفاً من المهمتين والمتخصصين، بل أشاع موجة إعلامية تأثرت بها دوائر مختصة وعامة اتخذت من الكتاب ذريعة لإثبات عداء الغرب المستحكم ضد الشرق والإسلام وغيرها من تصورات تندرج تحت طائلة المؤامرة واستعادة لأعداء تاريخي مستحكم بين الغرب والشرق. وبطبيعة الحال لم تتوقف الانتقادات في المجال الطرح العربي حيث موضع الأزمة في التفسير والمواجهة، بل من داخل الغرب نفسه ودوائره الأكاديمية التي عارضت مبدأ الأطروحة وكيف أن الكاتب (هنتنغتون) أخطأ في تصوراته لتقسيم حضارات العالم بالطريقة التي قسَّمها إلى ثماني حضارات تندرج تحت سياقات ثقافية وهويات متباينة. ويؤهل هذا التكوين الحضاري -برأيه- إلى مواجهة ترقى إلى الصدام الحضاري في نهايات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة الذي سيكون على أساس الثقافات كما تصوره في أطروحته حول صراع الحضارات التي قلَّل فيها من الدور الأفريقي في هذا الصراع باعتبار أن الهوية الأفريقية غير موجودة بشكل مستثنى؛ متقاسمة بين شمالها الذي ينتمي إلى الحضارة الإسلامية، وجنوب الصحراء الذي جلبت إليه الإمبريالية الغربية مكونات الحضارة الغربية. وبهذه التصور الاستعلائي، تكون الهوية الأفريقية في مفارقة للحقيقة، مشكلة من خارج أنساقها الثقافي وبالتالي تظل خاضعة إلى نظم الثقافات التي كونتها في مرحلة تأريخية انطوت على التسليم بتفوق الخطاب الكولونيالي.

وبالمقابل طفقت بعدها الترويج لمفاهيم واصطلاحات مضادة أو لافتات تدحض مفهوم الصدام الحضاري كحوار الحضارات، وتفاعل الحضارات، وتعارف الحضارات وغيرها من مما عدَِّ محاولة وقائية استباقيِّة ضد طرح هنتنغتون. ولكن أبرز ما تصوره الكاتب أمين معلوف بغرق الحضارات متجاوزاً صدامها الى اختفائها كليِّة. والثابت أيضاً أن المواجهات الثقافية في صورها المتعددة وخاصة الدينية منها لم تكن جديدة أو حدثاً تُساق له المبررات وبالتالي تُصاغ له نظريات لتفاديه أو مواجهته؛ خاصة أن جوهر الصراع الحضاري الذي يفترض هنتنغتون الإسلام كعدو في مواجهة ولا سبيل إلا حتمية مواجهته كما لو كان الصراع الحضاري بدا بدهي ولم يحتج الإ إلى التذكير به!

وبالطبع لم يتحقَّق “الصدام” بالصيغة الصدامية الحادة Clash بين حضارات العالم، وإن تفجَّرت صراعات هنا وهناك كالمواجهة بين الولايات المتحدة وأفغانستان والعراق والمسلمين ذات طابع سياسي وديني كما في أوربا (البوسنا والهرسك) وتراجع مفهوم سيادة الدول وكلها مؤشرات للصراعات لكنها لا لم تصل حد المواجهة الحضارية يصدق عليها بالتالي وصف الصدام الحضاري. فالصين التي يعتبرها هنتنغتون حضارة داخل الدولة يذهب الباحث الصيني البروفيسور جانج وي وي في تعريفه لصعود التنين الأصفر الصين في كتابه (موجة الصين …صعود الدولة الحضارية) وكيف أن الدولة الصينية وخططها في التنمية والسياسيات الاقتصادية تختلف عن النموذج الغربي. والدولة هنا ليست دولة سلالة مينغ وإنما الصين الاشتراكية ذات ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهذا النفوذ الذي حققته القوة المتبقية من والناجية من انهيار المنظومة الاشتراكية. وتكون أفلتت من مصير اشتراكيات القرن العشرين بما خرجت به من قوة اقتصادية وتكنولوجيا وعسكرية تبحث عن نفوذ عبر قارات العالم بما يعنيه النفوذ في السياق جيوبوليتيكي.

وعالم اليوم قد اختلفت فيه صيغة النظام الدولي World Order في طبيعتيه ومقدار تأثيره. وبتقى الصين كما يرى منظر السياسة الدولية والدبلوماسية الواقعية هنري كسنجر: فإذا كانت الحرب الباردة قد انتهت بصيغتها والصين أحد أطرافها إلا أن الموقف بين أطراف الصراع الغرب والشرق (روسيا، الصين، أوربا وأميركا) لم يزل قائماً وتبدت صوره في كافة الازمات التي اجتاحت العالم مؤخراً من جوائح كورونا والتنافس التجاري ومؤخراً الحرب الروسية الأوكرانية. ويأتي صعود الصين عبر عقود من الإصلاحات إن لم تكن التحولات الاقتصادية بالأساس التي قادها شنغ بنغ مع المحافظة على روح اشتراكية خفيفة القبضة الاقتصادية ولكنه يعد اقتصادا مركزيا لا يستجيب للتحولات العالمية والمتغيرات الاقتصادية التي برزت في عالم التكنولوجيا ولم يكن من بين هذه التحولات الهائلة ما يبشر بصدام حضاري.

وما اجتاح العالم مؤخراً ربما للمرة الأولى في تاريخ الأوبئة بعد الأزمات العالمية المالية وحدَّ من جهود العالم (الحضارات) في التفاعل المشترك غير الصدامي. فتجربة العالم في انتاج لقاح كورنا والتضامن العالمي أمام موجة الجائحة المفزعة ونجاحه في الحد منها ربما كانت هذه مؤشرات وعناصر تتفاعل داخل المختبر العلمي المحايد، ويعيد التأكيد على إنسانية الحضارة وتلاقحها وحضارات تعسى الى التعاون بدلاً عن الصدام كما يلاحظ في تداعي العالم في كوارث الزلزال المفجعة في تركيا وسوريا.

صعود الشعوبية وبروز تيارات متطرفة تزداد كشفت عن مجتمعات منقسمة داخل المنظومة الحضارية الواحدة بظهور التيارات الشعوبية المتطرفة Populism في الغرب داخل الحضارة الواحدة يشير الى مخاوف اجتماعية واقتصادية بسبب من تداعيات الهجرة ونمو الأقليات في المجتمعات الغربية أكثر منه مواجهة حضارية.

وبكل ما مثلته أطروحة “صدام الحضارات” منذ ثلاثة عقود في حدود فرضياتها ورؤيتها لصور الصراع لم يزل العالم يصطدم مدفوعاً بعوامل جيوسياسية، واقتصادية وصراع على الموارد والتجارة وغيرها من وسائل الاتصال المادي. وبمنطق التأريخ أو بالطبيعة البشرية تظل الصراعات مستعرة في صيغتها الصدامية حيث تقاطع العلاقات الدولية ومصالحها. ومما يؤثر عادة مقولة الإستراتيجي البروسي كلاوزفيتز من أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى والشاهد أيضاً أن الصراعات قد استمرت بطبيعتها السياسية وليس الثقافية أو الحضارية على حد ما تصورته أطروحة “صدام الحضارات” ولم تكن فرضية “صدام الحضارات” مشروعاً فكرياً لتفسير الصراع التاريخي أو خطة سياسية لإعادة توجيه الصراع وطبيعته؛ ربما كما يعبر منتقدوها قاست فرضياتها في فهم الصراع الثقافي على ظواهر تاريخية عابرة. فالارتكاز على منهجية العلوم السياسية والعلاقات الدولية في تحليل الظواهر الإنسانية الثقافية والحضارية (الأنثروبولوجية) دون الأخذ في الاعتبار العوامل الأخرى غير المرئية من طبيعة ثقافات المجتمعات غير الغربية. فقد نهضت فرضية “صدام الحضارات” على مركزية الحضارة الغربية Eurocentrism -المهيمنة- في مواجهة الحضارات الإنسانية الأخرى مجتمعة.   

وعلى الرغم من قصورها النظري وما احتوته من تناقضات وهي تقدم طرحاً كونياً لشكل الصراع القادم على أساس من المواجهة بدلاً عن الحوار، إلا أنها وبما اثارته من جدل حينها تدخل في سياق الرؤية الثقافية لمنظري السياسات والتخطيط الاستراتيجي الذ بدا منذ عدة قرون بالبحث عن مواطن الضعف والقوة بين غرب بتراثه الامبريالي وشعوب خارج نطاقه الثقافي والحضاري خضعت وتأثرت بنماذجه الثقافية والحضارية.

مشكلة الايدولوجيات وكل المحاولات النظرية ومنها الماركسية أن التنبؤ الحتمي كثيراً ما يفارق افتراضاته المبدئية منهجية التي تقوم على التوقع الرؤيوي أكثر منه احصائيات ثابتة القيم. وكثيراً ما تفارق منشئها وتنسى الاعتراضات التي تقف حائلاً دون تنفيذها مهما كانت رغبة صانعيها. فأطروحة “صدام الحضارات” نظرية تبنت خطاً أحادياً في رؤيتها لمستقبل الصراعات مع انه يقر باستحالة قيام امبراطورية كونية Macrocosm ولكنها تبقى مثل كل النظريات نظرية تقيس فرضياتها على العالم الحقيقي في محاولة لم تخل من تحيِّز وقراءة تشاؤمية تبشر بأخطر مهددات الحضارة الإنسانية نفسها الصدام العنيف. وايٍ يكن حظها من دقة افتراضاتها أو مجانبتها للصواب تبقى طرحاً نظريا في عالم لم تزل حروبه وتوتراته الحضارية والتقليدية تزداد سخونة.

………………

*  مفكر وكاتب سوداني.

مقالات من نفس القسم