“شَوَاش”.. هيمنة الفوضى والاضطراب

شواش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام علوان

يبدأ الكاتب أحمد سمير سعد روايته (شواش)، بتصديرٍ يشرحُ فيه المعنى المعجمي لكلمة (شَوَاش) ودلالته، ويستفيض لينقل لنا أصل الكلمة chaos، وأنها تعني الفوضى والاضطراب، مشيرا إلى دلالةٍ سنلمسها لاحقًا في نصه السردي، أن الكلمة الإغريقية chaos تعني أيضًا ربة الفضاء والفراغ والفوضى، ومنها انبعثت بقية الآلهة والكون، في إشارة منه أن ربة الفوضى هي المهيمنة والمسيطرة على مجريات العالم.

كما أن دلالة الكلمة تأخذنا لنظرية في الرياضيات والفيزياء تحاول دراسة الأنظمة التي تبدي سلوكا عشوائيا غير مرتب.

وربما كان القصد من هذا التصدير المعرفي الشارح لعنوان الرواية، هو تمهيد للأحداث القادمة، والتي تأتي على لسان راوٍ عليم، وهو عالم رياضيات مصري، يعمل في جامعة ويست فيرجينيا – لم يذكر اسمه ولو لمرة عبر الرواية –  يسرد لنا بداياته في مصر، وإخفاقه في الثانوية العامة وعجزه عن دخول كلية متقدمة، فيلتحق بكلية العلوم، في حين نجح صديقه ورفيق طفولته حسين في الالتحاق بكلية الهندسة، ليفرق مكتب التنسيق بينهما، فتحدث جفوة مؤقتة حتى ينجح هو في كلية العلوم بتفوق، ويكون الأول على دفعته، فيعاود التواصل مع حسين خاصة حين عرف بتعثره في دراسته.

يظل الراوي محافظا على تفوقه حتى يصبح معيدًا، ويتم ابتعاثه لينال درجة الماجستير والدكتوراة في الرياضيات من أمريكا.

تعكس الصفحات الأولى في الرواية، مدى اضطراب الراوي، كأنه يستبصر نهاية ما قادمة يقول : (كإلهٍ مَلَّ العالم أنظر إلى كل شيء) ص8

وأن فناء العالم وشيك الحدوث بعد تلك الفوضى العارمة التي يرصدها، وقلق الناس وشعورهم بالخوف تجعلهم كما يقول : (ينتظرون نفخة رحيمة من إسرافيل) ص9

وتتضح فكرة الفوضى جلية حين يقول : (هناك من سخر من إله نيوتن ومعادلاته، وصفوا ربه الذي يتدخل ليُعدّل من حركة الكواكب، ويحفظ النظام بدفعاتٍ رقيقة من يده، وصفوه بأنه صانع ساعاتٍ أعمى، عاجز أن يجعل من الكون عالما منتظما بلا تدخل منه) ص13

الاغتراب داخل الوطن

ثم تبرز الحالة النفسية للراوي، والاضطراب/ الشواش الداخلي له، وفقدانه لحماسه تجاه الأشياء، وشعوره باللامبالة، يقول : (أعيش بلا شغف) ص15

يكتشف إصابته بالسرطان، فيقرر العودة إلى مصر، وبعد إطنابات وإسهابات مزعجة للمتلقي، يدخل في حالة من التساؤلات الملغزة، تعكس مدى شعوره بالاغتراب حتى داخل وطنه : (لا أعرف لماذا عدت؟! لست ذلك الرومانسي الحالم، الذي يتوسل الدفن في أرض حوت عظام آبائه) ص17

ويتصاعد قلقه وتردده وخوفه: (سيضيق العالم عليّ، ويتضاعف الاختناق) ص19

يصف نفسه وحالته قائلا : (أرى في نفسي آلةً شديدة التعقيد، ببرنامج شديد الحساسية والتطور) ص22

حين يفقد الفرد إنسانيته ومشاعره، ويصبح مجرد راصد لعلاقات الأرقام ومدلولاتها :

 (تراقب كل شيء كإلهٍ عارف) ص26

إنها حالة من الفقدان للهوية والشعور بالاغتراب، فقط تبقى الذكريات كحنينٍ يراودك: (ساعة تفقد صلتك برحم أرضك الأم لا تتحرر، فقط تنحبس في الماضي وتجتر) ص32

يرجع إلى مصر، في وقت وزمان غير محدد، مما يربك المتلقي أحيانا، لكن بعض الأحداث تشير إلى وقت ما بعد ثورة يناير، ثم تجد حدثا آخر قديما يتداخل في السرد، في لعبة فوضوية مع الزمن يقصدها الراوي، معبرا عن حالة الفوضى والعشوائية التي تجتاحنا.

يبدأ بسرد مجموعة من الأحداث المتعلقة بالحرائق: (مشعلو الحرائق في كل مكان) ص36

ثم تأتي سلسلة من الحرائق : (الخادمة البالغة من العمر ثمانية عشر عاما، والتي أشعلت النار في نفسها، وعامل مصنع النسيج الذي أحرق المصنع، الفلاح الأجير، الأم في حي شعبي، مدير بنك، عامل السكة الحديد، وسجين وسجان، ومفتش تموين، وسائق ونجار وحداد وموظف) ص35

كلهم تسببوا في حرائق عديدة ليأكدوا على فكرة الفوضى والاضطراب السائد، والذي يشبه الجنون في نتائجه وتأثيره.

مهزومون في الحياة

ثم ينتقل الحكي لمجموعة المقهى في شبرا، وهم أصدقاء صديقه حسين كبير المهندسين في إحدى الشركات، يجلسون كل مساء على مقهى الحاج إبراهيم يلعبون الطاولة، ويكتفي هو بالمشاهدة والمراقبة، ثم يبدأ في اللعب وباستخدامه لعلمه ودرايته بالأرقام يتفوق عليهم جميعا، لدرجة أن مرتضى مدرس الكيمياء، ينتفض غاضبا من هزيمته النكراء، فيجلسه حسين، ويتوالى اللعب، وبذكاء شديد يتركهم أحيانا يهزمونه حتى لا يشعرهم بالتفوق المطلق له ومدى انسحاقهم، في هذا المشهد بالنص الروائي، تبدو الهزيمة وكأنها استلاب للشيء الوحيد الذي يجعلهم متحققين، لأنهم مهزومون في الحياة، ربما تلك اللحظات القليلة السعيدة هي التي تبقيهم فتشعرهم بوجودهم، يقول : (عادت الضحكات الرنانة، القفشات، القهقهة، التعريض، أفسحوا لي مكانا بينهم، أكسب أحيانا وأنهزم لهم أخرى، يربتون عليّ ويرحبون بي، ضموني لمائدة الحوار لدفء أكواب الشاي والينسون والقرفة) ص40

ثم تبدأ الرواية في الإفصاح عن قصة كل واحد من أصدقاء المقهى، مرتضى مدرس الكيمياء الذي سافر إلى الخليج ثماني سنوات ليحقق لأسرته حياة كريمة، وحين عاد صار عبئا ثقيلا على زوجته وأولاده، لم يعتادوا وجوده، فنشبت الخلافات والخناقات بينه وبينهم، مما جعله يترك البيت ويتزوج بأخرى لم يأمن جانبها قط، رغم أنها أنجبت له ابنا، لكنه ظل متوجسا منها، لم تفصح الرواية عن سر هذا التخوف من زوجته الثانية، ربما جاءت إشارة عن أسرتها من العواطلية والبلطجية ـ وتدني مستواها الاجتماعي، مما يضطره إلى الحذر منها، والتوجس المستمر من انتقام يتوقعه على الدوام، إنها حيرة ومأساة يبحث عن أمان فلا يجده، حتى من أقرب الناس إليه : (مرتضى تزوج على امرأته، هرب إلى صدر جديد، بيت بلا شحناء أو ضوضاء ولو إلى حين) ص41

بينما يحكي له حسين – صديق طفولته – عن ابنته الصغرى التي طُلقت منذ أيام بعد زواج دام لعدة أشهر، فعادت لتقيم معه، في حين يضيق صدر ابنه الوحيد بالوطن ويود الهجرة والرحيل عنه نهائيا.

وتظهر شخصية محروس موظف الصحة، الذي يقوم بتسجيل أسماء المواليد والوفيات، وهو يؤمن بما يسمى (الزيارجا)، وهي علاقة اسم المولود ببرجه الفلكي، فيقوم باقتراح الأسماء على الآباء، وغالبا ما يقنعهم فيسجلون أبناءهم آخذين باقتراحه، وهو شخصية تجنح للميتافيزيقيا، والتصديق في تأثير الجن على البشر، ودائما ما يأتي حكيه أشبه بالقصص الميثولوجية، عن أشباح وأرواح وعوالم خفية، وكتب في فن السحر، وغالبا ما يحكي للراوي عن تلك الحكايات دون بقية أصدقائه خشية سخريتهم منه.

تقاطعات فجائية

تأتي المونولوجات على لسان البطل في كثير من مواضع الرواية، لتبرز للمتلقي حالة الاضطراب التي تعتري الراوي عالم الرياضيات، يقول : (أُعقّد العالم وأُعيد فكه ودمجه، أتحدث بلغة الرب، أذلل عقبات تمنع تقدم الفيزياء) ص44

يتخذ قراره بالعودة فجأة ومن دون مقدمات، بعد شعوره بالوحدة عقب وفاة زوجته السورية الأصل، وأم ولديه مصطفى ويوسف، يعبر عن تلك الوحدة بقوله :

 (لا أحد مهتم بالسؤال عني، فقط ومن حين لآخر تهاتفني ميري، تخفف عني) ص65

فيقرر الرحيل إلى مصر : (غادرت إلى مصر في رحلة مباشرة من واشنطن إلى القاهرة استغرقت ست عشرة ساعة، تناولت حبة تساعد على النوم، لم أخبر أحدا بسفري، عندما أصل إلى القاهرة، سأهاتف ولديّ وميري لأخبرهم) ص 67

في طريق عودته من المطار، يصور لنا الكاتب أحمد سمير سعد، على لسان البطل عالم الرياضيات مشهد الفوضى التي حدثت في الطريق من المطار إلى قلب القاهرة، يقول : (كل شيء من حولي متلاطم، العالم وكأنه على حافة الشواش والفوضى) ص85

ربما من الأشياء التي تمنع تدفق السرد في النص، وتربك التلقي هو التقاطعات الفجائية للسرد، يبدأ الراوي في تداعٍ وحكي، ثم ينتقل من دون مقدمات لاستطراد أو تتمة لحدث آخر.

وربما تأتي التناقضات في الحكي مثل حديث الراوي عن محمود نصار تلميذه الذي ذهب إلى أمريكا كي يحصل على الدكتوراة في العلوم، والذي يسخر من كل شيء، ويبدو فوضويا في مظهره وحديثه، يقدمه للمجتمع العلمي بشكل مميز، يقول :

 (أنتهز كل فرصة تجمعني بزملائي أو تلاميذي حتى أشير إليه، أفخّم من منجزه العلمي) ص 60

ثم يبدأ في الوصف الحقيقي لمحمود نصار : (محمود نصار مخ معيب) ص64

ثم يضيف : (لأتفه طالب عندي منجز أهم من الذي لمحمود نصار) ص 61

ورغم ذلك يعجبه ويلتصق به، ربما يحسده على انطلاقه وعدم اكتراثه :

 (محمود ساخر لاذع، جذاب، مجنون، منطلق، ألمعي، عبقري، مأفون) ص61

ثم يعود محمود نصار إلى مصر، ويشعر بعدها الراوي بفراغ شديد، حتى يتعرف على أيمن الشريف، وهو باحث دكتوراة مصري في أمريكا، متدين ويعيد ترتيب فوضى حياته، يقول الراوي : (كانت أقصى أمانيّ حينها أن اصير مثل أيمن) ص 123

يعيش بعقدة ذنب تجاه زوجته السورية الأصل لموتها في حادث سيارة، ربما لتأجيله تقاعده فعاقبته بالرحيل، وبعدها يرجع إلى مصر بعد علاقة عابرة مع ميري، زميلته الباحثة الأمريكية، والتي ستشغل بعد ذلك منصبا مهما في جهة سيادية هناك.

تظل ميري تلاحقه وتتواصل معه، حتى إنها تأتي لمصر لتسانده في محنة مرضه.

في مصر يستعيد جزءًا من إنسانيته حين يختلط بالناس، ويرى الحياة كما يجب، وليس من منظور عالم يهتم بالأرقام ويحللها، ويستنتج من خلالها الأحداث القادمة كمستبصر وحكيم.

يركب المترو والتاكسي والميكروباص والتوكتوك، ويجلس على المقهى، ويشرب النرجيلة، يشرب الحياة ويرتشفها، ويعرف كم كان مخطئا وجاهلا بأشياء كثيرة مهمة، كأن حكمة ما تأتيه وهو يقترب من رحلة نهايته.

يُدخل أرقامه ومعادلاته في أجهزة حاسوبه، وينتظر نتائجه التي لا تبشر بمستقبل رغيد، يقول : (الموت في كل مكان يضرب بمنجله، اللعنة لا بد نازلة، لا تفرق بين غني وفقير، أبيض وأسود، متدين أو ملحد) ص57

الموت يحيط بالشخصيات

تحدث وقائع سريعة ومتلاحقة بطلها الموت، يصاب صاحب المقهى الحاج إبراهيم (صول الداخلية السابق، والذي حَوّلَ المقهى إلى سجل مدني مصغر صباحا) بعدة طلقات نارية، ويموت بعد أيام بالمستشفى، ومن قبله يموت زميله توماس الباحث الأمريكي المتميز في حادث سيارة، ثم ينتحر محمود نصار في مصر بعد فشله في حياته الأسرية، وعدم تفهم ابنه وعائلته له، ويكتشف الراوي أن محمود نصار كان مصابا باكتئاب شديد، استطاع إخفاءه بالسخرية من كل شيء وأي شيء، لكنه لم يصمد فمات منتحرا.

بعدها يختفى أيمن الشريف من أمريكا، وينقطع التواصل بينهما، ليكتشف الراوي أن أيمن الشريف انفجر في عبوة ناسفة كان يجهزها لتنظيم القاعدة، وأنه صار وهو العالم في مجال الفيزياء النووية، كبير مهندسي تنظيم القاعدة، ويصاب الراوي بصدمة شديدة حين يرى صورة أيمن بعد مقتله عبر الشاشات.

كذلك موت صديقه مرتضى مدرس الكيمياء الفجائي، والذي سبب أسى شديدا لصديقه حسين، فانزوى ولم يعد يجلس على المقهى أو يخرج إلا في أضيق الحدود.

ومن التناقضات أيضا في السرد وصفه لزميلته – وحبيبته فيما بعد –  الباحثة ميري بأنها (حمقاء تماما) ص 130

ثم يشيد بعدها بذكائها وقدراتها الفائقة، هذه التناقضية تسبب لبسا وإرباكًا للحدث لدى المتلقي.

الشخصية الأخرى العابرة في الرواية من أصدقاء المقهى هو الصيدلي أيمن والذي يقتل ابنه في فوضى إحدى المعارك، حين تأتيه رصاصة طائشة مجهولة، تصيب رأسه مباشرة فيموت، التباس آخر في النص لأن الصيدلي يحمل اسم أيمن، وكذلك الباحث في الفيزياء النووية أيمن الشريف، والذي مات في انفجار قنبلة مع القاعدة.

تتطور العلاقة بين الراوي وميري وتزداد حين تأتي لتراه في مصر، وتقف بجانبه في محنة مرضه، لكنه يصاب بجلطة في القلب، وينقل إلى المستشفى وتكون بجواره، بينما يشعر بروحه تخفت وتذوي، كأنه كان يقرأ الواقع : (لا زمان أو مكان أو ارض أو سماء، أو فان أو خالد أو محدود، أو مطلق، لا شيء سوى أرقام) ص133 

 هذا التجريد الشديد في تعاطي المعلومات وفقا لمدخلات وأرقام، من دون عواطف أو مبررات، يعكس حالة من جفاف المشاعر، التي غابت عنه، وربما لمسها مؤخرا حين عاد لمصر، واقترب من الواقع والناس، حاول أن يستعيد جزءًا من إنسانيته المسلوبة، لكن الوقت داهمه، وعليه أن ينتظر برضا – بعد رؤية وبصيرة – النهاية الوشيكة. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • شواش، رواية : أحمد سمير سعد، دار “اكتب” طبعة 2017.
  • هشام علوان، كاتب وإعلامي مصري.

مقالات من نفس القسم