أحمد أبو خنجير
شتاء بارد وصقيع منهمر يجمد الأرواح ويدفع الأبدان للركون تحت دفء الأغطية، غير أن تنفس النيل في تلك الفجريات المغبشة يكون مترعا بالدفء، سحبة الغطاء تنذر بنفض الكسل ورميه على موقد النار القريب، حيث جمرات الحطب تسوى الشاي وتخرطه مستدفئا ببراد الحليب الطازج ببخاره، وما من سبيل للتكاسل فاللسان الجارح والعصا الحادة جاهزان لطرد أية أوهام حتى لو كان التمارض أحدها؛ وما بين دعك العيون وشم الروائح حتى تكون جاهزا لوضع قدمك في الأرض المبلولة بالندى والصقيع.
“يا ولدى الزرع بحس أصحابه” مقولة والدي التي لا أنساها، ليس بسبب تكرارها لكن بسبب المشاهدات المتعددة التي أكدت بشكل قاطع صحتها ونجاعتها المبهرة، يكفى فقط أن تنظر بعين الرضا للنبتة الطالعة تعافر شق التربة والندى معلنة عن وجودها ببسمة تخصها لك حين تداعب وريقاتها الضعيفة بحنو قطة تحمل طفلتها الصغيرة بين أسنانها، والقطة الصغيرة هانئة مستكينة، في اليوم التالي ستجد النبتة شبت عن رفيقاتها اللواتي لم تداعبهن أو حتى تلمح بسمة الترحاب على الأوراق.
الخيمة البوص دائما على رأس الزرع، لا نقول عندنا الحقل أو الغيط، هو الزرع، لذا فنحن مزارعون، حتى لفظة الفلاح بعيدة عن التداول، هو مزارع، وهم مزارعون، والزرع تحت حتى لو كانت أرضه مرتفعة، فأنا نازل تحت، أو رايح الزرع كلاهما بنفس المعنى، والخيمة البوص التي هى الخص في مناطق أخرى على رأس الزرع، حيث نجلس ونرتاح من وقدة الظهيرة وهدت التعب، ولتناول الطعام وعمل الشاي وتخزين الأدوات والأغطية والنبوت ولوازم الحراسة، يكفى أن تنظر للزرع القريب من الخيمة والمحيط بها، وللزرع البعيد في أخر الأرض حتى تدرك الفارق الجلي الواضح وضوح الشمس يوم وقفة عرفات، فهذا القريب فارق بذراع عن نديده في الطرف البعيد من الزرع، حتى في مستوى إنتاجه وجودته، قال: الزرع يتنفس حركة ناسه، ونسهم، دخان راكيتهم وسجائرهم ودخان الجوزة وقت انتظار المحصول حتى يتكامل النضج، عرقهم المتنزل عليه وقت الشقاء والعمل المضني؛ المزارع الناصح لا يهمل زرعه دون تفحص وحركة دائمة بين أرجائه حتى لو لم يكن هناك أي عمل يمكن تأديته، فقط السير وسط النبات كى يشعر به، ربما عدل نبتة مالت هنا أو فرع حناه الريح، أو نفض غبار حط على ورقة وكتم نفسها.
ربما العين المتعجلة لن ترى، خاصة مع كثرة النبات ووفرته، لكنها نفس العين قد تلحظ الزهور ونبات الزينة في البيوت وسترى وتلمس فرحه بالرعاية، وستتحدث دراسات متعمقة عن عشق النبات للموسيقى، والفارق الكبير الذى يلحق بها جراء التمايل مع الأنغام، هى كما كانت جدتى تصفها بأنها روح خضراء، لا ينقصها الحس والكلام، وحكايات شعبية كثيرة تتحدث عن هذا وعن كلام النبات، وكانت الوصية الذهبية: لا تسخر من أحد يحادث شجرة، أو رسما قلبا على جذعها، أو ارتمى باكيا في حضنها. ذلك أن الشجرة نفسها لن تسامحك.
كان رجلا كبيرا، شيخا، حمل نبتة في كمه مستخفيا بها من طراوة الفجر واهبا لها الدفء والرعاية والحماية، لم يركب حماره في ذلك الفجر الهادئ، بل ضربها على كفلها لتسير متهادية أمامه حتى رأس زرعه، وهناك حفر وجاء بماء من النيل في علبة، غرس النبتة وسقى بالماء، ثم حوط عليها بسياج من شوك وقش حتى لا تدهسها قدم غشيم أو بهيمة شاردة، يسقى ويطعم و يطبطب بيده، وينفخ التراب ويوسع الحوض حتى صارت شجرة للظل استغنى بها عن الخيمة، مكان للرقدة وسندت الظهر من التعب وونس الصحبة ولعب السيجة فصارت علما وذهبت مثلا ومكانا يشار إليه بها: شجرة الشيخ. ومن شدة التعلق بها صار الشيخ يبيت ليلته تحتها، حتى كان صباح وجدوه راقدا تحتها مبتسما، لكن حين نادوا عليه وحركوا بدنه لم يتجاوب معهم، فعرفوا أنه قد توفى، لم يمر وقت طويل، ربما أسبوعين أو أكثر قليلا حتى بدأت الشجرة في الذبول، لم تفلح كل محاولات الأبناء وأهل الخبرة في رد النضارة والحياة للشجرة حتى جفت ويبست تماما، ظلت واقفة لفترة طويلة مجرد فروع ناشفة عارية، والبعض تدخل ونصح بقلع الشجرة وزرع واحدة أخرى محلها، وقد كان، لكن شجرة أخرى لم تستطع أن تنبت وتمد جذورها في نفس البقعة.