شيخوخة

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

شيخوخة

تذكَّر الآن أنَّ له أختا تكبره بأعوامٍ قَلائل، سَاقَ القدر إليها رَجلا مُسّنا في عمرِ أبيها، لكنَّه طَيّب القلب، وفوق هذا وذاك موفور الثَّراء، من صِنفِ الموسرين الذين تَربَّوا في العزِّ منذ نعومةِ أظفارهم، أكرمها غَاية الإكرام، وأغَدقَ عَليها من مَالِه ما عوَّضها فَارق السِّن، وأنبتَ في قلبها شجرة الحُبّ، لكنَّه تَركها ورَحَل، رُزِقت منه ابنا، هَجَر الوطن في غُربةٍ طويلة لبلادٍ بعيدة، تتعجب لكلامِ الناس: قالوا لقد ذهب ليحضر الشهادة الكبيرة، أوليسَ في مصر شهادات تكفي؟!، بمرورِ الوقت اعتادت ذلك الهجر، ووجدت في متع الحياة تسلية، أمّا هو فمنذ أن التحق بهذه الوظيفة، وزياراته لها لا تعدى سويعات يقضيها، ريثما يعود أدراجه، يقول في حَسمٍ: لا استطيع الغياب فالميري لا يرحم، احيل للتقاعد تنامى شعور قديم بالتقصير، أخيرا وجد الفرصة ليعوض ما فات، يستيقظ قُبيلِ الفجر؛ ليؤدي صلاته، ثم ينصرف مَشيا بين الحُقولِ، المسافة غير مُجهِدةٍ فهو يهوى المشي مُذ كَانَ شابا، يقول في نفسهِ: عندما تعتاد الطريق سيصبح كُلَ شيءٍ تمام، تبزغ الشمس، تتفض عنها وسن الليل، تَشقّ خُيوطها فُتورَ الصَّباح الوليد، يطرق بابها، ليجدها وقد أعدّت طعام الفطور، يُزيح عن نفسه ذاكَ الهاجس القديم يُذكِّره ماضيه، يندمج في أحاديثِ الطُّفولة الساذجة، يقضي فيها سَحابةَ يومِه، كَانَ اللقاء أسبوعيا، بعد مدة ألِفَ الطريق، فجعله كل يومين لعجوز مثله، أمّا رفاقه فلا جدوى منهم، اعتادتهم قارعة الطريق يلوكون أعراض المارة.

انشغلت أمر أخيها، تفرغت له تقضي وقتها تهيء المكان، فهو وسواس يحب النظافة لدرجة، وصاحب ذائقة تعشق الأكل الطيب، اجتهدت في ارضائه، كان يغرقها بنكاتهِ، ومزاجه اللاذع عادا صغارا، كانت والدتهما تقول منزعجة حال تضاربهما: ‏انتو زي الديوك تاكلوا في بعض، يذكرها بعصبيتها، وتذكره بمكائده، أشارت عليه أن يظلا سويّا، فلم يعد لهما أحد، تقول له وهي تقلب ألبوم الصور: أنت كل ما تبقّى لي من رائحة الأحبَّة، لكنه كان يصرّ على الرحيل، لم يتعود مفارقة داره، ارتضت منه هذه الجرعة من العطف، دعت ربنا أن تدوم.

تأخَّر يوما عن المَجئ، أرسلت تتقصى أحواله، جاءَ الرسول يغالِب مدامعه، بعد هنيهة انفجَرَ باكيا، لقد ماتَ الاستاذ عبدالستار أمس، تحجّرت عيونها، انسلت في هدوءٍ لتدخل غرفتها، وضعت صورته إلى جوارِ من مضوا، تطالع في استسلامٍ البقية، مرَّت الأيام كئيبة كأتعسِ ما تكون، وفي صَبيحةِ يَومٍ شتويّ، دوّت صرخات نبوية الخادمة، تَلهّت في تَوجّع: دخلت عليها فوجدتها مُمدّة لا تنطق، لم تعرف الدار بعد رحيلهما أحد، اضطر العمدة أن يغلقها لحين عودةِ الغائب.

**

 أشواق باهتة

اعتقدت أنَّ كُؤوس الحُبّ سَتصفو، وموائد الغرام ستظل قائمة لا تنفض، وأنَّ عهود العِشق والوفاء سَتبقى على حَالها لا تُمس، تَعاهدت هي و حسن صغار على الإخلاصِ حَتَّى نهايةِ العُمر، لم يكتف منها بجَمالها الفتَّان، ولا ذكاؤها المُتوقِّد، وحِرصها على أن تُعمِّر بيته بخيراتٍ الدُّنيا تُعَاونه على تكَاليف الحياة ما استطاعت، نَسي دَكانه الصَّغير كيَفَ أضحت بفضلها بقالةً كبيرة، تَضيق أرففها بصُنوفِ البَضائع التي قُلّ مثيلها في الزِّمامِ، تنَكَّرَ فَجأةً لكُلِّ هذا المعروف، أمام إلحَاحِ أمه الحَيزبون التي كَادت لجمالات من أولِ ليلةٍ، حَسدتها على جَمالها، فَشرَعت تَمكر لحسنها الذي غَطَّى على بناتها، بعد إذ أصَبَحت للدَّارِ ملكة مُتوَّجة، وصاحبة مال يعرفها الناس ويقصدونها، وهذا حال النساء في كل زمان، الكيد والغيرة، أرقدت المرأة في صدرِ ابنها نارا لا تطفئ، تحرضه ليل نهار على زوجه العاقر، ترميها بكل نقيصة، إذ كيف لابنها أن يصبر، وأنداده من فتيان القرية، تمتلئ حجورهم بالذرية، بداية لم تستجب لكلامها، بل قاوم على استحياء باهت، لكنه وبمرور الوقت اكتفى بالصمت، يوزع نظراته ما بين الأم الشامتة، والزوجة المكلومة الغارقة في أحزانها، رويدا لم يقوى على كبح جماح نفسه تحرضه، تلذذ لشيطانها يؤزه؛ أن اطع أمك ففي رضاها جنة وحريرا.

سريعا لم يصبر على الوضعِ المَأزومِ، بل اُغرِقَ عَقله في تَفكيٍر لَفه باستمرارٍ، حَتّى جَحَد ذَاكَ الحُبّ، ونقض عهدَه، وهَانت حبيبة الأمس عليه، فتَحوّلَ لوحشٍ كَاسر، إن سَلِمت من يدهِ لم تَسلم من لِسانه، يُذيِقها من صُنوفِ العَذابِ ألوانًا، ويوما بعد يوم يزداد الفتق، وتضيق الدار بما رحبت، بعد أن كانت بٍراحا للحب والأنس، حاولت أن تصمد عله يرجع عن صَلفهِ، لكنها استسلمت في الأخير، ترى الدار وأهلها يهيئون عِشّ الزوجية لعَروسٍ جديدة، تَخيَّرتها أمه التي انتهزت الفرصة؛ لتزف إلى الملأ نَبأها السَّار، انتظمت الفرحة ليل نهار في أهَازيجٍ متواصلة من الطَّبل والرَّقص، لم يعد في وسعها بعد إذ استنفدت الحِيل؛ إلاَّ أن تترك مُرغمة عشها وتعود لبيتِ أبيها، لازمت الدار مكسورة الجناح لا تقوم لها قائمة، تأكل وتشرب في أطباقِ الهَوان والمَذلة، صاَبرة عسى أن ينظر إليها قدرها بعينِ تحنّنٍ، لكن خَابَ سعيها، لاتقوى أن تتحمل هذه الشركة بينها وبين ضرة، مرت أسابيع تراه وقد صار لغيرها، غرق حسن في بحارِ السَّعادة مع حَليلتِه الجديدة التي لم تكن أفضل حَظَّا من سابقتها، لم تمتلئ بطنها كما تَوقَّع، لم يجد من وسيلة غير أن يستدين بالرَّبا، عَرف طريق الأطباء، ومن بعدهم عتبات الأولياء، ووصفات العطارين، حمل الأحجبة والآيات، حرق البخور وتلى التعاويذ فما وجد أثرا، أما هي فطال بها الانتظار بعد طلاقها، لتجد نفسها في بيتِ رجلٍ طاعنٍ بعمرِ أبيها، تعمل كخادمة له ولأيتامه، لكنَّها رضخت تُصبِّر نفسها تقول في سلوى: أفضل من البقاء في كنفِ أخوة لا يصونون للرحم حُرمة، لم تمض أشهر حتى ركبه الدَّين، حين نسي نفسه وبالغ في ترضية حفيته الجديدة، أُفرِغ الدكان من بضاعتهِ حتَّى صفرت أرففه، لم يكن من بُدٍّ أمامه سوى طلاقها، ليأت بالثالثة تعقبها، لتغرق البيت بالذريةِ كأرنبةٍ ولود.

مات زوجها فانفك عقالها، عادت تحمل قروشا زهيدا، قالوا لها هذا ميراثك، اشترت بيتا صغيرا، وبما تَبقَّى اتخذت دُكَانا متُواضعا، مَرَّت الأيام لتنتعش سوقها وترَوج تجارتها، جاءها أعيان البلد يرجون خطبتها، لكنها كانت قد قَيَّدت قلبها بقيودٍ من النسيانِ، عسى أن تجد عِوضا فيما تبقى لها من أيام.

**

 محمد الأبيض

ظَلَّ عمره يَتشوّق ابنا، يَحمِلُ اسمه ويبقي ذِكره بعد فَناء، هَكذا حَال أبناء الطِّين؛ لابُدَّ وأن يرَوا أثرهم بعد الرَّحيل عَلامةً عَلى الفَلاحَةِ، فالجدران وأشَجار الكَافور والنَّخلاتِ المُعمِّرات أطلال تُكابِّر، تُذكِّر الحَيّ بالميتِ، الشيخ محمد الأبيض انتظر حَتّى احرقه لهيب الانتظار، يئس من تَعطُّفِ الأقدار، يَأوي لِخلوةِ جده يتَمسَّح بها، يمسك مسبحته الكوك يكرها في وجومٍ، لايزال يتَذكَّر حالَ عهد إليه جده وهو في حَشرجِة الموت: ابق على الطَّريق، يتَخوُّفُ أن يَؤول مآله ليصبح كذكرِ النخيل الفارد الذي غرس نواته بجوارِ الجدار مُنتظرا طرحه، لكَنَّه خَيَّب ظَنَّه، يتَحلَّب رِيقه، يتشهى وهو يمرر يده فوق كرنافه، يُؤمِّلُ نفسه أن يرى بلحه يتلألأ تحت وهَجِ الشمس، كما اخبر انشراح زوجته الفاتنة، حِين أوصته أن يّتّخِذ من خِلفةِ نخلات الباشا الحُمر، فحَلاهم كاَلجَّلابِ، هكذا تمَنَّت، وهكذا فعل.

لكنَّه لم يحسب للأقدارِ حِسابها، إذ كيف يَخيب غرسه، وهو مَضرَب الأمثال بين الفلاحين، يتَحاكون عن ضربةِ فأسه،. وبّراعةِ يده،. وخصوبة أرضه، ووفرة محصوله، لم تفلح الرعاية فجاء ذكرًا خشنا، يهتز جريده.

مُتحدِّيا، يُطالِعه مع الصَّباحِ، يلعن اليوم الذي غَرَسَ نواته، أقدم ألف مرة أن يقتلعه من جذورهِ، لكنه اهتدى بالأخيرِ فجعلَ من أكواز طَلعهِ سبيلا، يلقح نخيل الناس، شَبَّ محمد الأبيض في يافِعَا، تلقفه جده يربيه في حِجره،يلقنه آداب الطريق، لم يكن في نسلهم ولا من أجداده، من رُزِقَ حمرة وجهه، وزُرقة عينيه ولا شعره الأشهب، حِده بصره في حِلكة الليل اكسبته شهرة، لكنه وحده من يكره شمس النهار، يتلصّص عليها من فجوةِ داره، ريثما يخرج يلعن ويَسبّ، ماتت انشراح وحلم الأمومة يخايلها كزوجها، الذي اسلم أمره للهِ مُضطرا، انقطع تدريجيا عن الناس، انكفأ على نفسه في غرفةٍ منزويا، وفي صبيحةِ يومٍ صائف، اطلق محمود أبو جعاره صوته الذي يشبه النِّباح من ميكروفون الجامع: يفنى الخلق ويبقى الله، توفي لرحمة الله الشيخ محمد الأبيض، والجنازة بعد صلاة الضهر، هل كان الرجل على اتفاق بالرَّحيلِ مع ذَكرِ النَّخيل، ضربت الصِّفرة جريده، وتَهدّلَ قلبه المعتدل، نَخَرَ السُّوس جزعه المتين، فتدلّى عنقه، ولم يعد بد من اقتلاعه، ليرحل على إثرِ صاحبه. 

 

مقالات من نفس القسم