شيء من هذا القبيل

رفعت سلام: أكتب متحرراً من الآخرين ومِن نفسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رفعت سلام

     أجئ إليكم، هذا المساء، لأعترف لكم بسر فريد، اكتشفته مؤخرًا؛ هو أنني لم أولد إلهًا صغيرًا ولا نبيًّا.. ولا شاعرًا يوحى إليه بمكارم الأخلاق والحِكَم. لكنني كنت دائمًا آنذاك الطفل القروي الذي يركض في دروب القرية، فتلسع قدميه الحافيتين- في نهارات الصيف القائظة- شمس الظهيرة، ويغمرهما – في الشتاء- طين ما بعد المطر..

     طفل يطوف يسأل الدورب في القرية، والأشجار وحقول الفول والبرسيم والقمح و القطن، فلا تجيب؛ فيندهش من صمتها ذلك الطفل القروي الذي سيكتشف- فيما بعد- أنه يبحث عن مجهول عصي؛ فيتخبط فيما بين الورقة البيضاء والقلم الرصاص، يحاول اكتشاف الإجابات المستعصية بنفسه، في تلك المرحلة الحرجة، مرحلة الدراسة الإعدادية.

     طفل لن يكل أو يمل من علاقته التي اكتشفها بالصدفة بالكتابة. كان آنذاك قد امتلك بعض اللغة الأولية، مع السن وبعض القراءات العشوائية- مثل أرسين لوبين ونجيب محفوظ إلى قصائد ناجي الذي فتن بقصائده، واندهش من أن هذه القصائد الغنية باللغة الحديثة لا يجدها في كتب الأدب المقررة المتخمة بكل ما هو مُنفِّر.. لكن هذا الطفل ارتبط بالشعر، وعلامته الوزن والقافية، كما تعلم بالمدرسة، وكما كان يؤكده

كل ما يقع تحت يديه. لم يكن ما يقع تحت يديه كثيرًا بل أقل القليل، لكنه كله كان موزونًا مقفى.

إذن، فالوزن والقافية هما جوهر الشعر.

   ويمر عام بالكامل (العام الأول في المرحلة الثانوية) للسيطرة على الوزن والقافية؛ ليس مهمًّا الصورة الشعرية، ولا الصورة، ولا اللغة؛ فالمهم: أن تضبط الوزن أولًا والقافية، وبعدها سيأتي كل شيء وقتما يجيء. هكذا، جاءت أولى قصائدي مكتوبة على هذا النمط القديم، الموزون المقفي؛ و نشرت لي قصيدتان بمجلة “الأديب” البيروتية سنه ١٩٦٩ تقريبًا.

     واعتبرت أنني بذلك اكتشفت طريقي، وأن ما كنت أبحث عنه قد بدأ ينجلي. لكني- بعد ذلك- اكتشفت أن هذا الاكتشاف مجرد سراب، حين تسأل نفسك ذلك السؤال الجوهري البسيط العادي، لكنه المستحيل: ما الشعر؟ عندما تكتشف أن هنالك شعرًا آخر يُكتب في العربية (كان هذا سنة ١٩٧٠ تقريبًا، ذروة ازدهار قصيده التفعيلة، ذروة ازدهار صلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وبلند الحيدري، إلي آخر هذه الكوكبة، بعد أن رحل مبكرًا السياب العظيم) فإلي أين؟.

     بدا الاختيار مخيفًا، أن تتخلى عما تملك شعريًّا، أو يبدو كذلك، من أجل مجهول؛ قصيدة جديدة، بالنسبة لي هي المجهول. والمخيف أنها تبدو سهلة إلى حد الخوف من أن تكون شرَكًا بلا رجعة، فتفقد ما تملك من أجل سراب. لكني عزيتُ نفسي بمنتهى السذاجة، فقلت لنفسي إنما هي خطوة، إذا نجحت فستواصل الطريق، وإن لم تنجح، فلن يكون عليك سوى التراجع خطوة واحدة إلى الوراء.

     بعد قصيدتين أو ثلاث، تحت وقْع الخوف، بدأت في التآلف مع النمط الجديد في الكتابة، وتكوين بضعة أفكار أولية بشأنه، وخاصةً للسيطرة على السيولة البالغة في الكتابة، إلى حد الاستسهال، ربما، والانتباه إلى قيمة “التكثيف”، وتشكيل الصورة الشعرية، وبنية القصيدة.

     ومع التأني في الكتابة، كانت الشراهة في التهام أعمال الشعراء: السياب، البياتي، صلاح عبد الصبور، حجازي، بلند الحيدري، محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وأمل دنقل، مع الكتابات النقدية المضيئة: مقدمة رجاء النقاش لديوان “مدينة بلا قلب” لحجازي، “حياتي في الشعر” لصلاح عبدالصبور، “ثورة الشعر الحديث” لعبد الغفار مكاوي، “زمن الشعر” لأدونيس، وترجمات لأشعار إيلوار وأراجون وإليوت وناظم حكمت ولوركا ونيرودا..

ولا أشبع أو أكتفي..

     وفي عام 1972، خلال دراستي الجامعية، تُنشر لي أول قصيدة تفعيلية، بمجلة “الإذاعة والتليفزيون”، خلال نهضتها الثقافية على يدَي رجاء النقاش، باحتفاء خاص من شاعر العامية القدير “مجدي نجيب”، المخرج الفني للمجلة آنذاك.

     وفي صحراء سيناء الجنوبية، عام 1975، خلال خدمتي العسكرية، بدأت في اكتشاف طريقي الخاص، بعد أن انتهيت من قصيدة “منية شبين”: إنني- أنا القادم من القاع المجهول لهذه البلاد- ما أكثر ما سمعت من أصوات العالم، وكلمتني الأشياء بنبراتها السرية. فليس لي- بعد الآن- أن أتحدث بلسان هذه الأشياء (باسم هذه الأشياء)؛ فلها أن تتحدث بصوتها هي المنفرد، فلا ينفرد صوتي بالمساحة المتاحة في القصيدة؛ إنما يصبح صوتي الخاص مجرد صوت في جوقة أصوات العالم، الصاخبة والهامسة والسرية؛ هذه الأصوات المتعددة التي نهجس ببعضها، ويضيع منا الكثير منها. فكيف يمكن أن تتحقق كل هذه الأصوات في ذلك النص الشعري؟

     بعد الديوان الأول “وردة الفوضى الجميلة”، الذي صدر متأخرًا ثماني سنوات، لم أعد مشغولاً بكتابة “قصائد”، ولا “تأليف” ديوان بالمعنى السائد، الذي يتأسس على تجميع قصائد مختلفة، مستقلة. فمنذ أن كتبت قصيدتي “تنحدر صخور الوقت إِلى الهاوية” – في ديواني الأول- اكتشفت أن القصيدة أضيق من العالم، ومني. بعده، جاءت تجربة “إشراقات رفعت سلام”، التي تمثل عملًا شعريًّا، وليس ديوانًا.

     هكذا، يمكنني -على نحوٍ ما- أن أحاول لملمة أصوات وأصداء العالم، والقبض عليها شعريًّا. معها، تعددت الأبعاد، والمستويات، والتضاريس اللغوية والشعرية والصورية.

     لكنها محاولة لاكتشاف طريقه للإمساك بالعالم في نسق شعري، وصوتي خلاله ليس إلا صوتًا واحدًا منفردًا داخل هذه الغابة الأوركسترالية. إنها محاولة اكتشاف العالم، وطبقاته المتعددة، لا سردًا لسيرة روحية أو ذاتية.

     فلا علاقه لهذا النص بي، بعد الانتهاء من الكتابة/ السؤال. “أنا الآخر”، كما كتبت في أحد النصوص، وكما قالها قبلي رامبو. لهذا، فما تتخذه “الأنا”- داخل هذا النص- إنما هو تعبير عن “أنوات” متعددة، وليس عن “أنا” شخصية أو فردية.

…………….

**تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

 

                      

مقالات من نفس القسم