شيء مريع آخر

كاثرين لاسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كاثرين لاسي

ترجمة: رفيدة جمال

كان الشيء المريع الآخر هو كيف التقيت بزوجي.
ذلك اليوم كان يرتدى بذلة وربطة عنق ذات لون أحمر غامق جعلت عينيه تبدوان أكثر اخضراراً، كما أنها أضفت على وجهه لوناً وردياً شاحباً. كان في الثالثة والثلاثين من عمره، لكنه بدا صبياً. وكنت حينها في الحادي والعشرين من عمري، لكن الجميع يعتقدون دوما أنني أكبر سناً. كنا نجلس سوياً في منطقة انتظار صغيرة ذات إضاءة قوية، في مكتب الشرطة الخاص بالجامعة. جلسنا متجاورين ربما لعشرين دقيقة دون أن نتبادل كلمة إطلاقا، بل لم يلق أحدنا نظرة على الآخر؛ فمن الصعب عليك أن تفعل ذلك عندما تفكر كيف أن باحة ممهدة بالقرميد في يوم خريفي لطيف يمكنها أن تصبح مكاناً لا ترغب في رؤيته مرة أخرى. وكان ضباط الشرطة يتحدثون في الهواتف وأجهزة الإرسال اللاسلكية وجاءت ضابطة شرطة وسألتني عن اسمي.
– ايليريا ماركوس.
– هل كانت روبي شقيقتك؟
– نعم إنها أختي بالتبني. قلت ذلك خشية أن يكونوا قد عرفوا أنها كورية وبالطبع لم أكن أنا كذلك.
هزت الشرطية رأسها ودونت ملحوظة على لوح كتابة. ونظرت إلى زوجي، والذي كان حينذاك مجرد رجل غريب يجلس بجواري، ولم يخطر ببالي سبب تواجده أو من هو.
قالت له : بروفيسور نود أن نطرح عليك بعض الأسئلة إذا كنت لا تمانع.
فأجابها: بالطبع ، وتبعها إلى خلف المكتب.
أثناء ذهابه جاءت أمي، منهكة ويبدو عليها النعاس. بالطبع لم يكن أبى موجودا، كان في بورتو ريكو يُجري عمليات تكبير ثدي رخيصة أو شيء من هذا القبيل. وتهاوت أمي على المقعد بجواري.
– أوه إنه دافئ، يا لها من مفاجأة لطيفة.
طوقتني بذراعها وأراحت رأسها على كتفي.
– طفلتي. طفلتي الصغيرة. لا يوجد إلا أنا وأنتِ الآن، لا مزيد من خاتم روبي ، خُف روبي، ثلاثاء روبي ، أوه، روبي ، روبي.
سمعت أنه من الطبيعي أن يتفوه الناس ببعض الهراء في أوقات كهذه، لكنها لم تكن تبكى وهو ما زاد الأمر سوء لأنني لم أكن أبكي أيضاً. حاولت أن أبدو مصدومة، لكنني لم أستطع. بالطبع لم تحاول أمي التظاهر بأنها مصدومة لأن ذلك ليس من طبيعتها. جاء شرطي لتقديم المواساة أو طلب توقيعها على شيء ما. مدت أمي يدها له كأنها تتوقع أن يقبلها. فصافحها بارتباك ثم ذهب.
– روبي الغالية، روبي الصغيرة… ما الذي كانت تقوله دائما يا ايليريا، هل أنا ابنتك الأسيوية المفضلة؟ ايلى، أنتِ تعلمين أنها كانت ابنتي الأسيوية الوحيدة المفضلة. ما الذي كانت تقصده؟ لم أفهم قط. هل كانت تمزح؟ هل أخبرتكِ بما تقصد؟
مددت يدي ومسحت بقعة من أحمر الشفاه لطخت أنفها. يبدو أنها وضعته بينما كانت تتحدث وتقود السيارة، بالتأكيد هذا ما حدث.
– لقد كانت مزحة يا أمي.
– لقد كانت فاتنة يا ايليريا، لابد أن الناس يتساءلون كيف تحملت عائلتنا القبيحة. لابد أنهم تساءلوا، حتى أنا نفسي تساءلت. كنت أسهر لوقت متأخر لا أفعل شيء إلا التحديق فيها، وأتساءل كيف لها أن تتحمل ذلك. أعتقد أنها لم تستطع أن تتحمل ذلك بعد الآن، أقصد قبحنا.
– أمي توقفي.
– ليس خطئنا. لقد ولدنا هكذا. حسناً، ليس خطؤك أنتِ عزيزتي… لكن …
– إذا لم تتوقفين سأغادر على الفور، ولن أكلمكِ مطلقا.
لقد اعتادت أمي سماع هذه الكلمات، وهى تعلم أن ذلك يعنى أن الكيل طفح.
نهضت وأبعدت خصلات من شعرها عن وجهها، وأخذت نفساً طويلا ًوتركته يخرج ببطء. ثم نظرت في عيني وأمسكت يدي وضغطت عليها. وكانت تلك لحظتنا الإنسانية الأولى منذ سنوات، لكنها سرعان ما انتهت.
ثم قالت بينما كانت تبتعد: أحتاج إلى سجائر كثيرة. ورأيت عبر الجدار الزجاجي الممتد أمام مكتب الشرطة دخان سيجارتها، والتي ستكون الأولى من سجائر كثيرة قادمة. كان يقترب منها شخص ما كل بضع دقائق، وعلى ما يبدو كان ينحني. أستطيع أن أراهم يقولون: >>من فضلك<<، مشيرين إلى لافتة (ممنوع التدخين في نطاق 50 قدم من هذا الباب)، وأستطيع أن أسمعها تقاطعهم صائحة: هل سمعت عن ابنتي روبي؟ روبي ماركوس؟ لقد ماتت اليوم ولم يكن ذلك بسبب التدخين السلبي.
وإذ لم يفلح ذلك معه ستضيف: أغرب عن وجهي إنني حزينة، وهو رد يفلح غالباً.
عاد البروفيسور الذي لم يكن قد صار زوجي بعد، ووقف أمامي على مسافة بضع بوصات ينظر إلى الأسفل. كان شاحب الوجه. ولاحظت أن بذلته كانت واسعة جدا عند المنتصف وأكمامها قصيرة للغاية.
– هل تودين معرفة أي شيء؟ عنها؟ لقد كنت أخر شخص تحدث معها. هذا ما يعتقدونه.
لم أبال بما تحدث به البروفيسور لروبي. لقد رأيتها هذا الصباح. وقفنا خارج نوسبوم وشربنا القهوة في أكواب ورقية. كانت في حالة مريعة. كما لو أنها لم تنم لعدة أيام وقالت أنها تشعر بالسوء فسألتها ما مدى السوء الذي تشعرين به؟ قالت أنها لا تريد التحدث في الأمر، وهكذا لم نتحدث عن شيء. فرغنا من احتساء القهوة ومشينا في اتجاهين متضادين. أعرف أن اللوم ( أو على الأقل جزء منه) كان يقع علي، لم اعرف قط أنها تعانى.
ولذلك لم أرد حقاً التحدث مع أي شخص في ذلك اليوم، ولاسيما إذا كان شيء يتعلق بروبي، لكن صوت البروفيسور كان هادئاً وصافياً. بدا كما لو كان صوت مراسل في الإذاعة، وأردت أن أصغى إلى هذا المذياع الشخصي، وودت أن يستمر صوته إلى الأبد. كانت أمي تشعل سيجارة أخرى في الخارج، مستندة بظهرها على الزجاج، وكانت صدريتها السوداء تبين من تحت ثيابها المجعدة.
قلت للبروفيسور: حسناً، سأصغي إليك.
جلس ببطء واتجهت ركبتيه نحوي قليلا.
لقد عرفت روبي منذ بدء العام الدراسي عندما أصبحت طالبتي… بدت متحمسة ومجتهدة ونشطة للغاية. كانت موهوبة، كما تعلمين، وكانت تعمل على بعض البراهين التي لا تُصدق، أشياء لن تتوقعيها من شخص في مثل عمرها.
كانت عباراته قاسية وواضحة، كما لو أنه ظل يصقلها طيلة فترة ما بعد الظهيرة.
قلت له: لم افهم قط ماذا كانت تفعل هنا، لم نتحدث عن ذلك مطلقا.
– حسناً.. لا اعرف كيف كانت روبي اليوم… أعتقد أنني فاشل في قراءة الوجوه… المشاعر. إنني رجل أرقام. لكنها كانت تبدو مشتتة قليلاً. لقد توقفت عند مكتبي لإعطائي بعض الأبحاث التي كانت عاكفة عليها لكي أراجعها ثم غادرت.
– ماذا كانت ؟
– ماذا تقصدين؟
– الأبحاث. هل كانت مهمة؟
– آه، أممم، لا، إنها أشياء بسيطة. بعض البراهين والأدلة التي كان في إمكان الطلبة المتفوقين القيام بها. كانت تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك. لقد كانت عاكفة على أشياء مهمة مؤخراً.
– أوه.
– أنا آسف.
– لا، لا بأس… أقصد… لا يهم لو كان الأمر مجرد أمور تتعلق بالرياضيات.
– لا، أعني الشيء برمته أنها…
– حسنا…
وتمنيت حينها أن أبكي، ولو قليلا جداً .. بلطف.. بإنسانية.
في الخارج كانت أمي تصيح في وجه شخص ما، وأنفاسها تشكل سحب من الدخان والبخار.
شكرا، قلتها للبروفيسور.
هز رأسه، ووضع يديه على ركبتيه ثم مال للخلف قليلاً، ثم أنحنى إلى الأمام مرة أخرى. نظر إلى أمي، التي كانت لا تزل تصرخ، ثم نظر إلى قدميه.
– أسمعي، أنا… عندما كنت في العشرين من عمري أمي فعلتها مثل روبي، وأنا كنت فقط… حسناً… اليوم كنت أفكر في الأمر كثيراً، على الأرجح منذ أن حدث ذلك.
لم أعقب بشيء. كانت أمي تشعل سيجارة أخرى وقد اندفعت بعض من خصلات شعرها على رأسها بشكل خاطئ. نظرت حولها ثم لوحت لي بيدها الصغيرة. لقد وضعت المزيد من طلاء الشفاه، وكان يحيط بفمها مثلما يحيط الآيس كريم بفم طفل صغير. وأخذت تدخن سيجارتها البيضاء.
– أنا آسف لأنني قلت شيء كهذا. أنا أعلم أن هذا ما يقولوه الناس دائما، يحاولون إخبارك أنهم مروا بذلك الموقف من قبل وعانوه، ويحاولون التعبير عن مدى حزنهم، أعلم أن ذلك لا يفيد، أنا آسف، لقد كان الأمر هكذا في ذهني.
– ليس عليك أن تكون آسف.
وجلسنا صامتين لبرهة. ثم وضع يده على كتفي كما لو أنه يعمل بنصيحة شخص ما قال له ذلك، ولم يرفعها لبرهة… انهمرت الدموع من عيني، وشعرت في تلك اللحظة بأني أكثر إنسانية وأنني جديرة بنفسي.
قلت له وقد اختنق صوتي بالدموع الحقيقية: عندما كنا أطفال كانت لعبتنا المفضلة هي الهروب. كنا نضع أيدينا تحت أحزمة مقاعدنا ونتخيل أمنا تختطفنا…
طوقني البروفيسور بذراعيه فارتميت في حضنه، وبللت دموعي الرطبة سترته الزرقاء الداكنة.
…………………………
**ولدت الكاتبة الأمريكية كاثرين لاسي في التاسع من أبريل من عام 1985 في ولاية ميسيسيبي. درست في جامعتي ليولا وكولومبيا. وقبل أن تصبح كاتبة عملت كاثرين في وظائف متعددة فكانت طاهية ومربية أطفال وعاملة بمزرعة وسكرتيرة. وتقيم حاليا بمدينة شيكاجو.
صدر لها روايتين. الأولى بعنوان (لا احد يُفتقد قَطُّ) ونُشرت في عام 2014. والثانية بعنوان (الأجوبة) في عام 2017 ، والتي لاقت ثناءً نقدياً وقورنت بروايات دون ديليلو ومارجريت آتوود. وقد نُشرت روايتيها بلغات متعددة منها الألمانية والأسبانية والإيطالية والفرنسية. كما صدر لها في عام 2018 مجموعة قصصية قصيرة بعنوان (ولايات أمريكية معينة: قصص). كما تكتب كاثرين في عدة مجلات منها نيويورك تايمز وفايس وجورنيكا وهاربرز.
فازت كاثرين بجائزة وايتينج للرواية في عام 2016. كما وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة لايونز للأدباء الشباب. وفي عام 2017 أدرجتها مجلة جرانتا الأدبية ضمن قائمتها لأفضل الروائيين الأمريكيين الشباب. كما جعلتها مجلة النيويوركر من بين أفضل الكتاب لعام 2014.
يصف الناقد دويت جارنر أدبها بأنه “حالم وعنيف في آن واحد”. وفي حوار أجرته معها مجلة فوج قالت كاثرين: >> لم يعد في إمكاني التحدث نيابة عن الشخصية التي كتبت (لا احد يُفتقد قَطُّ). فهي لم تعد موجودة وما بقي منها هو النص. وهذا يجعلني مستريحة وغير مستريحة في الوقت ذاته، لأن ماهيتك وما تعتقد أنك مرتبط به يتلاشى بسرعة<<.
تركز أعمال كاثرين لاسي على النساء اللاتي يواجهن بدون خجل أو ندم الالتباسات وسوء الفهم والتوقعات الاجتماعية. وبطلاتها سعيدات بالسير على دروبهن الخاصة بطريقة مرحة وخبيثة في آن واحد؛ فلا يستسلمن تماما للحب غير المكتمل ولكن يبذلن جهدهن للبحث عن الحياة التي يردنها. إن كتاباتها تسبر أغوار الزواج والصداقة والهواجس.

 

مقالات من نفس القسم